الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
حول دراما الاصلاح وحبكة المصلح حيدر العبادي..

منذ حوالي العامين صار مصطلح (الاصلاح) يجوب مساحات واسعة في بلادنا، بكثير من اللقاءات والفعاليات السياسية داخل البرلمان، في الاحزاب كافة، في مظاهرات ساحة التحرير وشوارع المحافظات ، في مجلس الوزراء، في الصحافة بأصنافها جميعاً. لكن هذا المصطلح ظل بمثابة علّة سياسية فوق اجسام العلل الكثيرة الناتجة عن فوضى السياسة العراقية منذ سقوط الدكتاتورية في نيسان عام 2003 حتى صارت هناك حقيقة مرئية متجسدة بوجود ادراك غريزي لدى الجماهير الشعبية ان (الاصلاح) أو (الاعمار) شيء مستحيل في ظل واقعية ما سمي بالصحافة الغربية (الفوضى الخلاقة) ، التي تعم بكل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية العراقية بالوقت الحاضر ، حيث تضيق الرؤية بسبب ضيق زاوية النظر أو عدسة التشخيص الدقيق، مما جعل جميع دعاة الاصلاح او الاعمار يحسون بالفراغ ويدركون فضاء واسعاً يواجهون فيه حالة من الهلع والضياع ، خاصة وان الهلع يأتي من درجات الخراب الكبير في المؤسسات الحكومية ، في المعامل والمزارع والحقول والجسور والسدود والانهار والمدارس والجامعات والسكن والطرق والمواصلات . اضافة الى ذلك عظم الخراب والفساد المالي والاخلاقي والنفساني، الذي اصاب شخصيات موظفي الدولة، كبيرهم وصغيرهم ، حتى صار البؤس واليأس ، بغاية العظمة، في اعماق حياة الجماهير الكادحة خصوصاً والمتوسطة عموماً.

ترى من أين يبدأ الاصلاح اذا كانت (الفوضى الخلاقة) بعد الغزو الامريكي عام 2003 وما قبله قائمة ومستمرة ، عصفت وتعصف بكل شيء في بلادنا.. هل البداية من اعمار البنايات والمدن والطرق والمؤسسات المهدمة أم البداية من تعديل الدستور واعادة النظر بتقويم السلطة القضائية..؟ هل البداية من حل المشاكل المتفاقمة بين مجالس المحافظات والحكومة الاتحادية أو البدء بمعالجة العلاقة المتهاوية بين السلطة الاتحادية وسلطة اقليم كردستان..؟ ام البداية في تحسين اساليب اختيار الوزراء والسفراء والمدراء والقناصل وقادة الجيش العراقي والشرطة الاتحادية..؟ هل البداية تكون بحماية اسس المال العام ونظام الميزانية العامة للدولة وانظمة الضرائب وغيرها..؟

اسئلة كثيرة ومتشعبة يمكن وضعها أمام أي (مصلح) عراقي يتمنى أن لا يرى وطنه يتدهور إلى وراء من علو الى مجهولية الوادي العميق.

حقا يمكن القول أن حيرة المسؤول التنفيذي الأول في الدولة العراقية حيدر العبادي هي حيرة من نوع الميلودراما الفكتورية والشكسبيرية أو من نوع افلام هوليوود السينمائية ،حيث توتر الأبطال وتوتر خصومهم مستمر ، حيث العنف اليومي متواصل وحيث الفساد المالي متصاعد.. ربما بظل ذلك يمكن أن تتحول أي (خطوة اصلاحية) غير مدروسة الى (نكسة جديدة) تماما مثلما كانت خطوة الظرف الابيض المغلق، الذي قدمه حيدر العبادي الى البرلمان بدعوى الاصلاح قد أدّت الى نكسة برلمانية – تنفيذية.

بصراحة يمكن القول بداية ان (الاصلاح) لا يتم بالكلام المنمق والخطب الرنانة بظل توتر بالغ المستوى بالشارع العراقي وبعلاقات السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، التي تحوّلت عواطفها وقراراتها واجراءاتها الى اساس نموذجي في التوتر العام والى منصات لإطلاق قاذفات التوتر في الكيان السياسي العراقي كله .

هكذا ظل مصطلح (الاصلاح) خلال الفترة الماضية ذا طبيعة تناقضية مع الحرية ومع الديمقراطية، حيث مستوى الوعي الفوقي بالإصلاح والاعمار يتقاطع ويتداخل مع مستوى الوعي العام بالشارع العراقي، لأنه يتقاطع ويتداخل حتى بين جميع الداعين إليه أو الذين يحاولون مرافقة المنادين به من دون ان يتمسكوا او يتعرفوا بخاصية الاصلاح وصفاته ومعانيه، بمعنى عدم معرفة الصيرورة المحددة لأي عملية اصلاح اقتصادي او اجتماعي او سياسي او حكومي او زراعي.. الخ .

الاصلاح لغويا هو (تقويم) و(تغيير) و(تحسين) شيء ما ، خاصة بعد فساد هذا الشيء او خرابه او كشف سوءاته.

مضت مدة زمنية طويلة يدعو فيها رئيس الوزراء الحالي الدكتور حيدر العبادي الى (عملية الاصلاح) من دون ان يرسم (خارطة الاصلاح) وأن يحدد ساحته الرئيسية ومداه الاساسي بصورة علمية مجربة كما، فعل ويفعل المصلحون في بلدان اوربية اصغر مساحة من العراق واقل مدى تاريخيا ، لكنها محظوظة جغرافيا.. كما انه لم يفعل مثل ما فعله زعماء دول اسيوية (ماليزيا وسنغافورة و بنغلادش) . لم يتجه الرئيس العبادي لا الى التقاط الادوات والاجراءات والقرارات الفعلية لتحديد زاوية البدء بالإصلاح والاتصال بالواقع العراقي ولا الى تجارب كثير من الدول التي سبقت بلادنا في مواجهة نفس حال البؤس والخراب والدمار ، كما هو حال المانيا وكوريا الجنوبية واليابان وغيرها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

مع الأسف ظل الرئيس العبادي وفريقه الاستشاري طيلة العامين الماضيين مهووسين هوساً غريباً بالتصريحات التلفزيونية وبالتوتر والقلق بعد انخفاض اسعار النفط وظهور تنظيم داعش المتوحش. التصريحات كلها والوعود الحالمة كلها لم تكن ذات صلة ، لا بواقع الحال ولا بمآل الاحلام الوردية . لم تكن النتائج سوى غير شكل من اشكال المحاولات الإفيونية لتخدير الجهاز العصبي للدولة الاتحادية ولتهدئة العقل الاداري في المحافظات العراقية بضمنها اقليم كردستان، حيث صارت جميعها محمولة على طائرة شراعية لا تدري متى تقع او تتمزق او تسقط في بحر او نهر .

اول شيء يجب التنبيه إليه ان (الاصلاح) ليس كلاماً مجرداً يطلق في الممرات والقاعات الحكومية والبرلمانية وعلى شاشات التلفزيون الفضائي، كما جرى خلال فترات الصدمات السياسية الكبيرة التي مرت ببلادنا بصورة غير معقولة منذ 13 عاما.

ثاني شيء يجب التأكيد عليه ان (الاصلاح) مهما كان حجمه شاملا ،واسعا او محدودا، لا ينبغي ان يكون عملا (منتظراً) حدوثه او (وعداً) بمعالجة مأساة شعبية معينة من خلال اجتماعات روتينية بلا منهج متصاعد بالتطبيق السياسي العام والشامل.

اظن أن مفهوم حكومة العبادي ودعوته في الاصلاح، قامت على جزئيات غير مرئية ،بسبب ما يحيط بجميع اجهزة الدولة وقادتها من ضباب او سحاب ومن نقص في الخبرة والعبرة ,

اول شيء في الاصلاح الحقيقي هو (الفعل). اول خصائص الاصلاح هو (تغيير) الأجواء السياسية والألوان الاجتماعية الآمنة لتقليص الصعوبات والبدء فورا بالإصلاح.

الكيان المرئي في مفهوم رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي هو كيان الصبر والتباطؤ و الانتظار. انتظار موقف من الرواق البرلماني ، من هذه القاعة الحزبية او تلك من هذه الكتلة البرلمانية او تلك أو من هذا المصدر السياسي او ذاك. لكن رأي الجماهير الشعبية مهمل واساس الديمقراطية مهمش.

من الصعب جدا الحديث عن علم الإصلاح وعمّا يمكن أن يقوم به (المصلح) عندما لا يستطيع فهم حقيقة العمل الاصلاحي وعندما لا يمتلك (المصلح) غاية مثلى، غاية بنيوية لما يريد ان يفعله من اجراءات اصلاحية ، يجد نفسه جالساً في قصر فخم ويشعر ان الجو المحيط به صاعق يحيله الى (قائد عاطل عن العمل..!).

الشخص الذي اخترع العجلة في العراق قبل ستة الاف سنة لم (ينتظر) شيئا او موقفا او رأيا من إله او ملك او مجموعة كتلوية ، لكن (فعله) بصنع العجلة اصلح كل شيء صناعي و زراعي . استطاع أن (يغيّر) كل فعل من افعال الصناعة والزراعة من ذلك اليوم حتى الآن وإلى الازل ، لأن هذا المخترع كان وثيق الصلة بإصلاح الواقع .

الشخص الذي اخترع الساعة المائية قبل 800 سنة لم (ينتظر) توجيهاً أو دعماً أو موافقة ، لكنه (فعل) ما ينبغي فعله بالتغيير والتحسين بنظر الانسان الى الوقت والزمان حتى صارت الساعة موجودة بكل يد وفي كل غرفة وإلى الأزل ، أيضاً.

الخليفة المأمون لم ينتظر أحداً ولا شيئاً، لكنه وجد أن إصلاح أمر البلاد والعباد يعتمد على البدء بتغيير نظرة الانسان ببغداد إلى حركة (التغيير) بالعالم بادئاً خطوته الإصلاحية باهتمامه بترجمة افكار وعلوم وفلسفة الناس الآخرين في بلدان أخرى وقد حقق خلال فترة قصيرة معجزة اصلاحية كبرى وطفرة واسعة بترجمة اعمال اليونان والسريان.

في العراق المعاصر لا نرى اقتداء بمخترع العجلة ولا مخترع الساعة ولا اهتماما بتجارب الأمم الأخرى وقادة الدول العالمية ، بل نرى تصارعاً مذهبياً وحزبيا وسياسياً وقومياً، يتشاطر فيه الكثير من القوى السياسية والاحزاب حول رأي مركزي اصلاحي من دون أي (فعل). الرئيس العبادي ومستشاروه وطاقمه الوزاري والتخطيطي والاعلامي يطالبون انفسهم او غيرهم بخطوات جديرة بالكفاح المتواصل تحت شعار واحد يحمل عنوان (الاصلاح) كأنهم (دعاة اصلاح) وليسوا (صناع اصلاح) بالرغم من ان ايدي سلطتهم تمسك بالمال ووسائل الافعال والخطط والاستثمار.

لا شك ان الاصلاح (ثيمة) رئيسية في عمل الحكومة ، حال كل حكومة مثل حال كل فريق مسرحي او سينمائي يريد تجديد النظر بعيني وفؤاد المشاهد يجب ان تكون لدى المخرج (ثيمة) محددة للنهوض بتطبيقها . هذه (الثيمة) تثير اهتمام الجميع وتستحق اعجاب الجميع.

لكن (ثيمة) الدكتور العبادي ليست هي من ثيمات متعة الذين ينادون بها ويسعون بأنفسهم لتحقيقها على المسرح السياسي. ليست (ثيمة) العبادي الاصلاحية مستندة الى نوع من انواع المعارف الدقيقة وليست هي من نوع من تلك المعارف الصعبة، التي تستوجب المصلحين المنادين بها ادراك معانيها وحدودها وانواعها، كما تحتاج الى تحديد بوابة الدخول اليها من امام ومواصلة السير من خلالها الى امام.

تحتاج عملية الاصلاح في كل مجال من مجالاته الى مهارة حقيقية في المعرفة والتطبيق ، تحتاج من العارفين بها والساعين إليها والمطبقين فيها ان يتخلصوا ،كلياً، من كل نوع من انواع التوتر ومن كل صنف من اصناف التشنج.

رئيس الوزراء حيدر العبادي شكّل حكومته الاولى بطموح شخصي للقيام بالإصلاح المطلوب ليكون رئيسا مصلحاً في وقت كان كل شيء في الدولة ومؤسساتها مجروراً بالخراب الشامل. كانت الاهداف الشريرة لتنظيم الدولة الاسلامية (داعش) قد بلغت أوجَها باحتلال ثلاثة مدن كبرى (الموصل، تكريت، الرمادي) في حالة من الخوف الشامل ببقية المدن العراقية . اضافة الى ذلك لم يعد هناك في البلاد ،كلها، من يستطيع ان يربط حياته على كلمة واحدة اسمها (الأمل) أو (الإصلاح) او على عبارة واحدة مزدوجة اسمها (الأمل بالإصلاح).

نادت جماهير الشعب بساحة الحرية في بغداد وبشوارع المحافظات العراقية كلها بـ(الاصلاح) ايضا ، ثم ظهر داخل البرلمان اسلوب جديد تركز باعتصام برلمانيين داخل البرلمان احتجاجا على الرئاسة البرلمانية منادين بالإصلاح . كان هذا الاسلوب متأثرا بأساليب (الفوضى الخلاقة) التي سادت ببلادنا بعد التغيير عام 2003 غير أن المحكمة الاتحادية أعادت بعض الهدوء الى البرلمان بقرار وسطي حوّل المعتصمين الى (جبهة اصلاحية برلمانية) وأبقى بذات الوقت الدكتور سليم الجبوري رئيساً للبرلمان. .

اربعة اطراف تدعو وتطالب بالإصلاح:

1 - الجماهير الشعبية المحاطة بالبوليس والمهددة بالقمع والاختطاف في الشوارع.

2- رئيس الحكومة المنعزل بمكتبه في المنطقة الخضراء.

3 – عناصر الاصلاح البرلماني المتكورة داخل البرلمان حول نفسها غير المتعافية من كل الامراض السياسية ، غير المنسجمة فكرياً ومنهجياً.

4– الصحافة الوطنية العراقية بكل اشكالها ،المطبوعة والمرئية والمسموعة، تقدم ادبا وفنا جادين هادفين الى (الاصلاح)، لكن سكان المنطقة الخضراء وحكامها منشغلين بولائم القوزي والسمك المسكوف وحسابات البنوك لا يقرؤون ولا يشاهدون ولا يسمعون.

حول الاطراف الاربعة وقفت وتقف قوى عديدة الاتجاهات السياسية والتنظيمات الاجتماعية في المدن والقرى العراقية المظلومة ، كلها تدعو وتطالب بالإصلاح، لكن الاصلاح ما زال غائبا حتى الآن.

صار الحديث عن الإصلاح، بنظر الجماهير البسيطة من المعدمين والفقراء والعاطلين عن العمل، شيئا مضجرا لا يؤدي إلاّ إلى احتمالات لا يضبط الناس المحتجون فيها انفسهم حين اقتحموا بوابة مجلس النواب ليكسروا بعض زجاج الشبابيك او يلوثوا بعض القنفات، متصورين ان ما فعلوه هو من افعال بطولة الشارع السياسي.

لا بد من الإشارة بالختام أن أي نظرية اصلاحية ينبغي ان تقوم كل جهة اصلاحية :

أولاً: بحث علمي ، عمّا تريد اصلاحه وكيفيته.

ثانياً: ثم تقوم بإدراج العملية الاصلاحية بتسلسل رقمي كأوليات حسب حجم الضرر المراد اصلاحه.

ثالثاً: يجب ان يقوم (المصلح) بتشخيص ما يراد اصلاحه على تحري او بحث الاجراءات المناسبة.

اختصار القول أنه ينبغي على (المصلح) ان يضع فروضا متسلسلة رقميا ايضا فإذا فشل الفرض الأول يذهب (المصلح) الى الفرض الثاني وهكذا .

كل الافتراضات ينبغي ان تبنى على اساس الفكر العلمي، أي ان خصائص الاصلاح لا تبنى على اساس (الظن) او (الاحتمال) او اية صياغة فضفاضة او انتظار هروب الشيطان (داعش) او نزول وحي للتصرف ببواقي الثروة العراقية المهدورة والمنهوبة او زيادتها .

يظن الدكتور حيدر العبادي ان الانطلاقة الكبرى بالإصلاح والنظرية الاصلاحية تنبثق من (تعديل وزاري) فحسب، من دون افتراض واحتمال ان هذا التعديل لا يملك أي فعالية في العملية الاصلاحية .الاصلاح ليس سوى كيفية اجرائية سريعة بعد اكتشاف خرابٍ شاملٍ يراد اصلاحه وبذات الوقت اكتشاف الاجراءات الضرورية اليقينية الجازمة بنجاح (الاصلاح).

أما الصياغات الغامضة عن الاصلاح فأنها لا تحمل غير هدر الزمن والمال من جهة وبقاء الخراب وتعاظمه من جهة ثانية. هذا ما لا يتمناه أي مواطن عراقي أو سياسي وطني صادق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصرة لاهاي في 21 – 9 – 201

  كتب بتأريخ :  الخميس 22-09-2016     عدد القراء :  3438       عدد التعليقات : 0