الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
نقاش مفتوح حول اللبرالية واللبرالية الجديدة وواقع العراق؟

الحلقة الأولى: ما هي اللبرالية؟

كتب الزميل الدكتور بارق شبر نقداً موجهاً إلى الزميل الدكتور حيدر سعيد حول موقف الأخير من نقد فكر وممارسات النيوليبرالية في العراق والذي نشر في موقع العالم الذي نشر قبل ذاك مقال الدكتور حيدر سعيد، متهماً إياه وبعض المثقفين بأنهم لم يفهموا هذه المدرسة الفكرية بشكل صحيح وعلى هؤلاء دراستها، إذ يقول " لست بصدد الدفاع عن النيولبيرالية ولكني اعتقد بأنه ينبغي على بعض المثقفين العراقيين فهم أفكار المدرسة الاقتصادية النيوليبرالية بشكل صحيح، سيما وان كانوا لم يتعمقوا في دراسة مبادئ الاقتصاد الكلي الحديث وسياساته المتعددة الجوانب وفي مقدمتها المالية والنقدية، بالتأكيد لا تعني المدرسة النيوليبرالية اضعاف الدولة او تهميشها كما يفترض الكاتب حيدر سعيد وإنما إعادة صياغة دورها الاقتصادي من خلال تقليص الانشطة الانتاجية والتي غالباً ما تتسم بانخفاض الكفاءة الاقتصادية وهدر الموارد، وهذا واضح في حالة العراق وفي وضع المؤسسات العامة المملوكة للدولة والتي تشكل عبأً كبيراً على الموازنة العامة".

ثم يورد الزميل نموذج العراق في عهد البعث ليبرهن على فشل مشاريع الدولة إذ كتب الزميل د، شبر ما يلي: " من الواضح ان كاتب المقال يخلط بين حجم الجهاز الاداري للدولة العراقية والذي هو متضخم ومترهل بجميع المقاييس وبين الوظيفة الاقتصادية للدولة والتي يجب ان تقتصر من منظور المدرسة النيولبيرالية على بناء وتطوير الاطر (المؤسسات) الملائمة والمساعدة على الانشطة الاقتصادية للقطاع الخاص بما في ذلك الطبقات الوسطى المنتجة وليس طبقة البيروقراطية الطفيلية التي تعيش على الريع النفطي من دون انتاج او خدمات ملموسة للمواطن العراقي، وتجدر الاشارة الى ان الطبقات الوسطى تلعب دوراً محورياً في اقتصادات الدول الرأسمالية والتي تتبنى فلسفة المدرسة النيوليبرالية، من ذلك يبدو لي ان استنتاج الكاتب بأن النيوليبرالية اضعفت الطبقات الوسطى في العراق بعيد جداً عن الواقع، ما حدث فعلاً في الواقع هو عكس ذلك، حيث ان الطبقات الوسطى في العراق وبمفهوم الكاتب المختزل على موظفين جهاز الدولة ازداد عددها الى اكثر من 3 مليون موظف اي ما يعادل حوالي 40% من قوة العمل في العراق، كما تحسن مدخولها بشكل واضح للعيان منذ التغيير في 2003،"

كما ترون فأن الدكتور شبر لا يريد أن يدافع عن النيوليبرالية ولا يرى أنها تريد إلغاء دور الدولة الاقتصادي أو تهميشه، وإنما "إعادة صياغة دورها الاقتصادي من خلال تقليص الأنشطة الانتاجية". [انتهى تعليق الزميل د، بارق شبر، الخبير الاقتصادي الدولي].

كم كان جديراً بالصديق الدكتور بارق شبر أن يرى في ما طرحه الزميل الدكتور حيدر سعيد اختلاف في وجهات النظر وليس "عدم فهم لنظرية اللبرالية الجديدة بشكل صحيح"، إذ أنه في هذا يجافي الواقع ومستوى معارف ووعي الدكتور حيدر سعيد. طبعاً ليس بودي أن أفقد التواضع وأقول للزميل د، شبر، يبدو لي أنت الذي لم تفهم طبيعة هذه المدرسة بكل أبعادها وخاصة الاجتماعية والسياسية والبيئة والعسكرية منها، إضافة إلى الاقتصادية، كما قال هو ذلك بحق جمهرة من الزملاء المثقفين العراقيين المطلعين جيداً على المدرسة اللبرالية واللبرالية الجديدة، بل أتمنى عليه أن يكون في المستقبل أكثر تواضعاً مع المثقفين الاقتصاديين العراقيين، فهم مثقفون حقاً ويدركون جيداً ما يكتبونه، وأن من المفيد للزميل نفسه إعادة النظر برأيه وموقفه من هذه النظرية الاقتصادية وأتمنى له الابتعاد عن محاولة الانسجام مع التيار الرأسمالي النيولبرالي المتوحش الذي ألحق ويلحق أفدح الأضرار بالاقتصاد العراقي وبالفئات الكادحة من المجتمع وخاصة تلك المنتجة للدخل القومي، المدرسة اللبرالية الجديدة، التي هي بالأساس ذات المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية اللبرالية القديمة التي ساد تطبيقها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى حلول الأزمة العالمية الأولى التي فرضت على الرأسماليين والمنظرين الاقتصاديين تعديل بعض أهم جوانبها برؤية كينزية، (جون مينارد كينز John Maynard Keynes، اقتصادي إنجليزي 1883 - 1946)، لدور الدولة وقضايا التشغيل ودور النقود والفائدة، والتي استمرت طوال الفترة الواقعة بين نهاية الكساد العظيم، والتي تجلت حينذاك في سياسة العهد الجديد New Deal لروزفلت، وبين تبني اللبرالية الجديدة في الستينيات من القرن الماضي، التي اقترنت بالتخلي عن النظرية الكينزية والعودة إلى النظرية الاقتصادية اللبرالية الكلاسيكية ذاتها مع بعض الرتوشات التي زادتها قسوة وظلماً وجوراً على الفقراء والمعوزين والعاطلين عن العمل وزادتها شدة في ممارسة الاستغلال على المنتجين الكادحين من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية والعسكرية، والتي تجلت بشكل خاص في سياسات رونالد ريگن وإليزابيث تاتچر، وقبل ذاك في سياسات الجنرال أوغستينو بينوشيت في شيلي بعد الانقلاب على حكومة سلفادور الليندي في العام 1973، وفي سياسات المكسيك وأزمتها المالية المدمرة، ومن ثم في سياسات جورج بوش الأب وجورج دبليو بوش الابن وبشكل أخص أضرارها الفادحة على شعوب البلدان النامية في ظل سياسات العولمة التي تفاعلت مع سياسات اللبرالية الجديدة في الولايات المتحدة والعديد من الدول الرأسمالية الأخرى،

والآن من المفيد أن نتبين بوضوح ما هي اللبرالية وما هو الفرق بينها وبين اللبرالية الجديدة، ثم نتطرق إلى مخاطر اللبرالية الجديدة على اقتصاديات العراق بشكل ملموس، وما هو مفهوم سياسة السوق الاجتماعية التي هي من حيث المبدأ اشتقاق نمساوي-ألماني من نظرية اللبرالية الجديدة التي طرحها بشكل خاص فون هايك والتي مارسها بحدود معينة المستشار الألماني السابق لودفيگ ايرهارد في ألمانيا التي هي تختلف عن مدرسة "أولاد شيكاغو" ميلر وفوكسلي الأكثر تشدداً. تؤكد النظرية اللبرالية الكلاسيكية على ثلاث مسائل جوهرية، كما وضعها أدم سميث (1723 - 1790) باعتباره أول من صاغ مبادئ الليبرالية الاقتصادية، وهي:

1.   حرية التجارة 2، حرية كاملة لكل أفراد المجتمع في نشاطهم الاقتصادي، 3، الالتزام بنظام السوق الحر. ويفترض الالتزام بهذه المبادئ من أجل تحقيق الرخاء والرفاهية.

ماذا يعني ذلك؟ إن هذا يعني الكثير من النتائج في ضوء التجارب الفعلية لسياسات اللبرالية في العالم الرأسمالي المتقدم والتي يمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي:

1. سيادة الملكية الفردية على وسائل الإنتاج، وخاصة رأس المال.

2. انقسام المجتمع إلى طبقة مالكة لوسائل الإنتاج وطبقة غير مالكة لوسائل الإنتاج بل مالكة لقوة عملها التي هي مجبرة على تبيعها في سوق العمل، رغم ما يبدو من حقها في بيعها أو عدم بيعها والموت جوعاً.

3. تحقيق أقصى الأرباح الممكنة عند توزيع الدخل القومي بين العمل ورأس المال، بين الأجر وفائض القيمة أو الربح.

4. حرية التجارة ورفض جميع أشكال القيود.

5. ممارسة سياسة مالية ونقدية تتناغم مع الأهداف الاقتصادية للرأسمالية، إذ أن السياسات المالية والنقدية هي الأدوات التنفيذية للسياسة الاقتصادية.

6. عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وما عليها إلا العمل في مجال الرقابة العامة والدفاع عن هذا النظام وحمايته وإصدار التشريعات التي تساهم في استمراره وتطبيق القوانين ضد من يتجاوز على هذا النظام ويطالب بتغييره.

7. عدم الاهتمام بالمسائل الاجتماعية التي تمس قوة العمل وسبل تجديدها وإعادة إنتاجها.

8. الالتزام بحرية حركة السوق وفعل قوانينه بالنسبة لرأس المال والعمل.

9. عدم تدخل الدولة في تحديد الأسعار أو الأجور أو ساعات العمل.

وتقدم لنا الدراسات الغنية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبداية القرن العشرين صورة حية وواقعية عن حياة المجتمعات الرأسمالية المتقدمة حينذاك، وبشكل خاص الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ،،، وغيرها، حيث تجلى في بشاعة وبؤس حياة ومعيشة وشروط عمل الطبقة العاملة والكادحين من جهة والاستغلال البشع الذي كانت تمارسه الطبقة الرأسمالية التي كانت تجد الدعم والحماية من جانب الدولة والتي أطلق فلاديمير إيليچ إليانوف لينين على الحياة الفعلية وانقسام المجتمع البريطاني إلى مجتمعين أو إلى عالمين مختلفين، إلى طبقتين، عالم وطبقة الأغنياء مالكي وسائل الإنتاج، وعالم الكادحين الفقراء المنتجين للخيرات المادية والمالكين لقوة عملهم الفكرية والجسدية، وعلينا أن نتذكر الأسباب التي دعت العمال في الولايات المتحدة إعلان الإضراب في الولايات المتحدة في العام 1886 والذي أقر في الأممية الاشتراكية الثانية في العام 1889 باعتباره يوماً عالمياً لتوحيد لنضال الطبقة العاملة في سائر أرجاء العالم، وكيف جوبه نضال عمال أمريكا من جانب الشرطة وكاسري الإضرابات حينذاك، ويمكن العودة لكتابات ماركس وإنجلز، على سبيل المثال لا الحصر، للتعرف الدقيق على حياة عمال المصانع في بريطانيا، ومنها مانشستر، لنأخذ صورة حقيقية عن تلك الفترة.

لقد أدى تطبيق النظرية اللبرالية الكلاسيكية إلى تعميق الفقر وتوسيع قاعدته وتوسيع الفجوة الطبقية بين المنتجين والرأسماليين ولأنه أهمل كلية الجانب الاجتماعي ودور الدولة الاقتصادي الذي يفترض أن يسهم في تعديل الكثير من قوى السوق الحر، أو قوانين السوق الرأسمالية أو آلية حركة قوانين السوق الحر غير المقيدة، في حين يدعي آرثر لويس (1915-1991) أن العامل الاجتماعي لتعديل البرامج التي تهدف إلى تقليص الفقر وعدم المساواة يجب أن ينبع من السوق بدلاً من أن يأتي من خلال تدخل الدولة، وهذا هو الخط العام للبرالية الكلاسيكية.

إن فشل نظرية اللبرالية الكلاسيكية في مواجهة أزماتها الدورية وأزمتها العامة التي حصلت في فترة الكساد العظيم (1929-1932) قد دفع بمنظري السوق الحر أن يجروا تعديلات مهمة على بعض آليات وأدوات عمل الرأسمالية والتي بلورها بشكل خاص كينز، ولكن لم تستمر هذه الفترة طويلاً حتى عاد منظرو الرأسمالية إلى اللبرالية الكلاسيكية محاولين تجديدها بإضافات على النظرية وممارستها، ولعبت المنظمات المالية والنقدية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الحرة دورها في هذا المجال من خلال سياساتها المالية والنقدية، سياسات الإقراض للدول النامية بفرض شروط اللبرالية الجديدة على هذه الدول ومنها برنامجها المشهور تحت عنوان "سياسة الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي"، التي سنأتي على هذا البرنامج في حلقة لاحقة.

ولا بد من ملاحظة أن تطور وتطبيق هذه النظرية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين قد اقترن بالهيمنة الاستعمارية القاسية جداً لبعض الدول الاستعمارية على مناطق واسعة من بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأجزاء من أوروبا والتي عانت من الاستغلال البشع لشعوبها واستثمار مواردها الأولية على حساب فقر وفاقة وتجويع هذه الشعوب، وخلال هذه الفترة أيضاً انفجرت الكثير من الثورات الاجتماعية ضد الرأسمالية وبقايا العاقات الإقطاعية وانتصرت ثورة أكتوبر 1917 الاشتراكية في روسيا القيصرية، كما فجرت الدول الاستعمارية الكثير من الحروب العالمية والإقليمية وبشكل خاص الحربين العالميتين الأولى والثانية لأهداف استعمارية استغلالية،

لا شك في أن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية، وحاملها الطبقة البرجوازية، كانت الأداة التي أمكن بها التخلص من العلاقات الإنتاجية الإقطاعية ومن الطبقة الإقطاعية المالكة للأرض والفلاحين الأقنان، وهي خطوة كبيرة على طريق تقدم المجتمع البشري، رغم أن كلا العلاقتين الإنتاجيتين استغلاليتان.

الحلقة الثانية

ما هي الليبرالية الجديدة؟

أعطى انتصار التحالف الدولي في الحرب العالمية الثانية على دول المحور، ضد النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية، التي كانت تهدف إلى الهيمنة على مناطق كثيرة من العالم وإعادة تقسيم مناطق النفوذ الاستعماري القديم لصالحها وانتقاماً لخسارة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى التي بدأت الحرب الجديدة، زخماً جديداً وكبيراً لحركات التحرر الوطني في المناطق المستعمرة والتابعة في كل من آسيا وأفريقيا، إضافة إلى تنشيط جديد للحركات الديمقراطية والتقدمية في أمريكا اللاتينية، وقد وجدت حركات التحرر الوطني دعماً وتأييداً كبيرين من جانب الاتحاد السوفييتي ودول الديمقراطية الشعبية، التي كانت قد تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وشكلت سوية المعسكر الاشتراكي كنتيجة من نتائج تلك الحرب، وتحررت الكثير من مناطق العالم من الهيمنة الاستعمارية المباشرة وشكلت دولها الوطنية المستقلة ودخلت في عضوية هيئة الأمم المتحدة التي كانت قد تشكلت لتوها لتحل عملياً محل عصبة الأمم، وتلقى الاستعمار القديم الذي استند إلى النظرية الاقتصادية اللبرالية الكلاسيكية ضربات موجعة وسريعة خلال العقدين الخامس والسادس حتى منتصف السابع تقريباً من القرن الماضي، مما دفع بهذه الدول إلى التفكير بأساليب وأدوات جديدة لمواصلة هيمنتها واستغلالها لشعوب وثروات تلك البلدان الحديثة التكوين، كما لم تستطع المدرسة الكينزية إنقاذ الرأسمالية من أزماتها الدورية أو المظاهر الجدية التي برزتوشكلت بديايات أزمة هيكلية طويلة الأمد للرأسمالية على الصعيد العالمي، والتي أطلق عليها بـ “الموجة الطويلة” كما سميت بـ “موجات كوندراتيف” نسبة إلى الاقتصادي الروسي نيكولاي كوندراتيف Nikolai Kondratieff (1892-1938) الذي اكتشفها والذي صدر بحقه قرار الإعدام رمياً بالرصاص ونفذ فيه في العام 1938 على أيدي أجهزة أمن ستالين القمعية في إطار حملة “التطهير” الكبرى التي تعرض لها الكثير من الشيوعيين والمثقفين الروس المعارضين لسياسات جوزيف ستالين حينذاك، علماً بأنه كان من مؤيدي سياسة لينين التي أطلق عليها بالسياسة الاقتصادية الجديدة (النيب) التي بدأ بها في العام 1921، وتوقفت مع صعود ستالين إلى قيادة الحزب والدولة حتى قبل وفاة لينين في العام 1924،

لقد دفعت هذه الظواهر الجديدة بمنظري الرأسمالية للعودة والأخذ بمبادئ نظرية اللبرالية الكلاسيكية ضاربين عرض الحائط نصائح وسياسات كينز ومضيفين إليها بعض الرتوشات والسياسات مما سمح لهم بتسميتها بـ “النيوليبرالية” أو “اللبرالية الجديدة”، لقد بدأ منظرو الرأسمالية بالعمل منذ الستينات، رغم بروز بعض هذه الأفكار في الثلاثينات من القرن الماضي بالارتباط مع الكساد الأعظم حيث برزت النيوليبرالية من جهة، والنظرية الكينزية من جهة أخرى، ولكن الأولى لم تستطع فرض نفسها في حينها بل أخذ العالم الرأسمالي بنظرية كينز، وبقيت الأولى جنينية تبحث عن فرصة مناسبة للظهور إلى أن تبلورت أكثر فأكثر في الستينات والسبعينات من القرن العشرين بعد أن بدا لاقتصاديي وسياسي الدول الرأسمالية المتقدمة بأن الكينزية لم تعد مناسبة لتحقيق المزيد من الأرباح التي كانوا يتوقعونها منها، فانتعشت أفكار اللبرالية الجديدة من جديد باعتبارها معارضة للكينزية مع بروز أزمة الدولة السوفييتية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينات من القرن الماضي ثم تسارعت مع سقوط الاتحاد السوفييتي وبقية البلدان “الاشتراكية” في نهاية العقد التاسع من القرن الماضي، وقد اقترن ذلك بانتشار سريع لفكر وممارسات العولمة الرأسمالية واستثمار ذلك من أتباع هذه النظرية لصالح الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى على نحو خاص، ولكن بشكل خاص لمراكزها الثلاثة: الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا الغربية أو الاتحاد الأوروبي واليابان من خلال ممارسة سياسات عولمية شديدة التطرف والاستغلال، فما هو جوهر هذه النظرية الاقتصادية (القديمة) الجديدة التي يطلق عليها أحياناً بالنظرية الكلاسيكية الجديدة   neoclassic؟

اللبرالية الجديدة شارع عريض للفكر البرجوازي في الدول الرأسمالية المتقدمة في مرحلة العولمة، إذ برز فيها العديد من الاتجاهات المتقاربة طبعاً مع وجود بعض الاختلافات، وقد لعب الصراع الفكري والسياسي والعملي مع الاتحاد السوفييتي دوره البارز في سرعة نهوض هذه النظرية، وبشكل خاص المدرسة الألمانية التي أطلق عليها أيضاً بـ Ordoliberalismus وهي التي سميت أيضاً بـ Soziale Marktwirtschaft  أي اقتصاد السوق الاجتماعي، والذي بدا منظروه يسعون إلى تخفيف الصراع والنزاع بين العمل ورأس المال من خلال جملة من القرارات الإدارية والقوانين التي تضعها الدولة، أي محاولة السيطرة على الصراع الطبقي وتقليص النزاعات بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال في مرحلة الصراع والحرب الباردة مع المعسكر “الاشتراكي”،

نحن أمام مدرستين أساسيتين أنبثقتا عن المدرسة الأنگلوسكسونية وهما: (مدرسة شيكاغو) كما يطلق عليها أحياناً (أولاد شيكاغو) ومدرسة فيينا أو النمساوية – الألمانية، وهي كلها تنطلق من حيث المبدأ من القاعدة الأساسية أو المبادئ المتحكمة باللبرالية والتي أشرت إليها في الحلقة السابقة، NÖRR، Knut Wolfgang/STARBATTY، Joachim (Hg،) ]

1999: Soll und Haben – 50 Jahre Soziale Marktwirtschaft، Marktwirtschaftliche Reformpolitik، Schriftenreihe der Aktionsgemeinschaft Soziale Marktwirtschaft، N،F، Stuttgart، S،3-5،[

كان أحد نماذج مدرسة شيكاغو المتشددة دولة شيلي في عهد الدكتاتور أوغستينو بينو شيت، في حين كان النموذج الألماني هو الأقل قسوة،

ومن الجدير بالذكر أن اللبرالية الجديدة لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، كما يشاع في غالب الأحيان، بل تشمل الجوانب الفكرية والاجتماعية والنفسية والسياسية والعسكرية والبيئية التي كانت تتجلى بشكل صارخ في سياسات رونالد ريگن في الولايات المتحدة الأمريكية، ومارگريت تاتچر في بريطانيا، وهيلموت كول في ألمانيا وبينوشيت في شيلي على سبيل المثال لا الحصر، ومن ثم اتخذت مسارها الصارخ في سياسات بوش الأب والابن على حد سواء،

لخص الدكتور أشرف منصور في مقال له اللبرالية الجديدة في الدول الرأسمالية المتقدمة على النحو التالي: ” … ظهر خطاب الليبرالية الجديدة الذي رأى أن علاج الأزمة يتمثل في عودة اقتصاد السوق و تركه يعمل بحرية، و التخلص من العبء الثقيل للدولة و أجهزتها البيروقراطية التي تم النظر إليها على أنها من أسباب الأزمة، و التخلي عن كل الالتزامات السابقة للدولة مثل برامج الرعاية الاجتماعية و التأمين و إعانة البطالة التي أدت إلى تضخم أجهزتها و دينها الوطني، و مع الليبرالية يعود مبدأ حرية المنافسة في الظهور، و تعود الفكرة القديمة عن التوازن التلقائي للمصالح بفعل قوانين السوق الضرورية، و يعود من جديد مبدأ “دعه يعمل” Laissez Faire، [راجع: أشرف منصور، الليبرالية الجديدة في ضوء النقد الماركسي للاقتصاد السياسي، موقع الحوار المتمدن، العدد 1787 بتاريخ 6/1/2007،]

ويفترض هنا القول بأن اللبرالية الجديدة تدعو من منطلقها الإيديولوجي البحت إلى الحرية المطلقة للفرد، والمساواة التامة أمام القانون الذي يقود تلقائياً، كما ترى، إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وقصر نشاط الحكومة على الحد الأدنى من المهمات، إذ يفترض أن يقتصر دورها على ضمان تكافؤ الفرص، حماية الفرد، منع التمييز، وضمان الشروط الضرورية لنجاح اقتصاد السوق الحر، وقد اعتقدت مدرسة أولاد شيكاغو (Chicago Boys  (، التي تبنت وعملت على تطبيق اللبرالية الجديدة في شيلي، إلى أن الدولة الاستبدادية أو التسلطية هي وحدها القادرة على تأمين حرية الفرد المطلقة وحرية السوق، (راجع: هريرت شوي، الليبرالية الجديدة : الأسس النظرية والسياسية، من كتاب له بعنوان:

Herbert Shui، Neoliberalismus: politische und theoretische Grundlagen Wollt Ihr den totalen Markt? Der Neoliberalismus und die extreme Rechte، München 1997،

وبدا هذا النهج واضحاً مع انهيار المعسكر الاشتراكي وغياب المنافسة السياسة والاقتصادية بين المعسكرين وتوقف الحرب الباردة مؤقتاً، كما يبدو، إذ اتخذت سياسة اللبرالية الجديدة مساراً رأسمالياً صارخاً أو ما يطلق عليه أحياناً من جانب النقابات(Pur Kapitalismus) في محاولة جادة لانتزاع كل المكاسب الاجتماعية والسياسية التي حققتها الطبقة العاملة وفئات المثقفين والفلاحين خلال العقود الثلاثة التي سبقت سقوط المعسكر الاشتراكي، وبدأ الجو الاجتماعي بالبرود والتوتر، وبدأ الرأسماليون الكبار وممثلو الشركات الاحتكارية والمتعددة الجنسية يرفضون المساومة التي كانت قد برزت في تلك العقود بين العمل ورأس المال وراحوا يشددون بالضغط على جملة من الأمور منها على سبيل المثال لا الحصر: الحد الأدنى للأجور، العمل من أجل العودة إلى ستة أيام عمل في الأسبوع، زيادة ساعات العمل اليومية، عدم دفع أجور عن ساعات العمل الإضافية، تقليص المكاسب الاجتماعية وزيادة الضريبة غير المباشرة المفروضة على السلع والخدمات وتقليص الضرائب عن الشركات وأصحاب رؤوس الأموال والأرباح العالية، ثم الضغط على دور النقابات في الدفاع عن مصالح العمال والموظفين والمستخدمين، وفرض تعريفات إضافية على الأدوية والطبابة والمعالجة الطبية في المستشفيات والمصحات، كما اتسعت البطالة وازدادت نسبة عدد العاطلين عن العمل إلى عدد القادرين على العمل وتقليص مقدار ما يدفع من تعويض شهري للعاطلين عن العمل أو لمستحقي المساعدة الاجتماعية التي تقدم للمعوزين شهرياً…الخ، وتقدم ألمانيا والكثير من دول الاتحاد الأوروبي نماذج صارخة في هذا الصدد، ولم يكن هذا وحده بل جرت عملية خصخصة للمشاريع الاقتصادية التي كانت بيد الدولة وكانت ناجحة وتحقق عوائد مالية جيدة لخزينة الدولة، وكانت في الوقت نفسه عوناً في إنتاجها وأسعارها للفئات الفقيرة والكادحة، سواء أكان في مجال الكهرباء أو الماء أو النقل أو الإنتاج السلعي وغيرها من مشاريع الخدمات العامة والإنتاجية، كما تراجعت أو انتهت مشاركة الدولة في المشاريع الاقتصادية الإنتاجية في عدد غير قليل من المجالات الاقتصادية والخدمية، إذ أن فلسفة اللبرالية الجديدة هي إبعاد الدولة عن كل نشاط اقتصادي واجتماعي وثقافي وجعلها تلعب دوراً رقابياً وإدارياً عاماً، وحتى هذا الدور لم تقم به كما يجب، كما رأينا في أزمة العقارات والبنوك في الولايات المتحدة الأمريكية وكل الدول الأوروبية وفي دول جنوب شرق آسيا أو النمور الثمانية أو في أمريكا اللاتينية، وكذلك تفاقم عمليات المضاربات المالية الهائلة في العديد من البورصات التي أدت إلى انهيارات كثيرة في الكثير من دول العالم في الثمانينات والتسعينات وفي الآونة الأخيرة أيضاً، إن اللبرالية الجديدة تستخدم السياسات المالية والنقدية بما يخدم مصالح رأس المال وليست في صالح الكادحين والمنتجين الفعليين للثروة الوطنية وترمي بثقل المكاسب التي تقدم للشركات الكبرى البنوك وغيرها على عاتق دافعي الضرائب، كما حصل في محاولة معالجة الأزمة المالية والاقتصادية الأخيرة التي لا تزال مستمرة وستبقى لفترة طويلة، والإيذاء الفعلي لهذه الأزمة لا يشمل المنتجين والفقراء والعاطلين عن العمل في الدول الصناعية الرأسمالية المتقدمة حسب، بل وترهق كثيراً كاهل شعوب الدول النامية، وخاصة الفقيرة منها، إن بلداً مثل ألمانيا، باعتبارها واحدة من أغنى الدول الرأسمالية المتقدمة، يوجد فيه الكثير من الأطفال الفقراء، فوفق تقرير نشر في DW دويتشة فيله جاء فيه ما يلي: الجدير بالذكر أن عدد الأطفال الذي يعانون من الفقر يتزايد في ألمانيا سنة بعد أخرى، وتقدر كل من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) والاتحاد الألماني لحماية الأطفال أن 2،5 مليون طفل يعيشون في ألمانيا في ظروف مالية واجتماعية صعبة، أو ما يسمى بالفقر النسبي، وهو مصطلح ينطبق على الحالات التي يكون فيها معدل دخل عائلة ما أقل من نصف متوسط الدخل العام”، كما جاء في الدارسة التي قامت بها مؤسسة هانز بوكلر، المؤسسة التي تعمل بالتعاون مع النقابات العمالية في ألمانيا أوضحت أن هناك نحو 7،4 مليون موظف يحصلون على مساعدات من الدولة لانخفاض دخولهم، وهو عدد أقل من عدد الموظفين الذين يحق لهم الحصول على المساعدات وهو 10 مليون موظف، واتهمت المؤسسة الحكومة الألمانية بأنها لا تعلن إلا نصف الحقائق، وأنها بذلك تتسبب في أن تعيش ملايين العائلات في حالة من الفقر ويعاني معهم أطفالهم، [راجع موقع DW بتاريخ 7/2/2010 مقال تحت عنوان “رعاية الأطفال أولى ضحايا ظاهرة الفقر في ألمانيا”، رغم أن ألمانيا تمارس ما يسمى بسياسة السوق الاجتماعي التي بدأ نسف الجانب الاجتماعي منها تدريجاً مع سقوط الاتحاد السوفييتي على نحو خاص، كما بدأت الحياة الديمقراطية العامة والاستفتاءات الشعبية بالتقلص لصالح التمثيل البرلماني حيث بدأت الفجوة تتسع بين النواب والمجتمع، كما بدأت مصداقية السياسيين والسياسة بالهبوط الشديدين.

إن السياسات التي تمارسها المراكز الأساسية للدول الرأسمالية الصناعية ومؤسساتها المالية والنقدية والتجارية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية) موجهة بالأساس ضد اقتصاديات الدول النامية ولصالح الدول المتقدمة، ويمكن للتقارير السنوية لهذه المؤسسات أن تكشف عن حقيقة تلك الأوضاع وحقيقة زيادة واتساع الفجوة بين الدول المتقدمة والدول النامية وبين الأغنياء والفقراء واتساع قاعدة الفقراء والجياع في العالم، والأهم من كل ذلك هو اتساع الفجوة في مجال العلم والتعليم والبحث العلمي ومستوى تطور القوى المنتجة والتقنيات المستخدمة في الإنتاج وحجم الإنتاج الإجمالي ومعدلات الإنتاجية السنوية ومعدل حصة الفرد الواحد من الناتج المحلي الإجمالي أو الدخل القومي.

إن سياسة اللبرالية الجديدة التي التزمت بها قوى المحافظين الجدد ومارستها بإصرار وتشديد تجلت في الجانب السياسي، أي في سياسة توجيه ما يسمى بـ “الضربات الاستباقية” والعقوبات الردعية والمقاطعة والحصار الاقتصادي بدلاً من المفاوضات والتحري عن حلول سلمية تفاوضية، فالقوة العسكرية هي اللغة المفضلة والعامل الحاسم في حل الخلافات من وجهة نظر اللبرالية الجديدة وقوى المحافظين الجدد، وهو الدور الذي تعطيه هذه النظرية للدولة على نحو خاص، وكان العقدان التاسع والأخير من القرن العشرين وكذلك الفترة الأولى من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نموذجاً لممارسة هذه السياسة المتوحشة،

يشير الكاتبان “تيمونز روبيرتس” و “أيمي هايت” في كتابهما المشترك الموسوم “من الحداثة إلى العولمة” بشأن التوجه الشديد في أمريكا اللاتينية للأخذ بنظرية السوق التي أطلق عليها بسياسة “التعديل اللبرالي الجديد” بصواب إلى أن الوصفة قد تكونت من “سبع خطوات أساسية:

1 – انفتاح من جانب واحد على التجارة الخارجية.

2 – خصخصة شديدة لمشاريع الدولة.

3 – تحرير السلع والخدمات وأسواق العمل من القيود.

4 – تحرير السوق الرأسمالي مع خصخصة شديدة لأرصدة المعاشات الحكومية للتقاعد.

5 – تعديل مالي مرتكز على تقليص شديد للنفقات العامة.

6 – إعادة تشكيل وتخفيض معدل البرامج الاجتماعية المدعومة من قبل الحكومة والتركيز على خطط تعويضية للفئات الأكثر حاجة.

7 – نهاية “السياسة الصناعية” وأي شكل آخر لرأسمالية الدولة، والتركيز على الإدارة الاقتصادية الضخمة، (دياز 1996 Diaz)” [راجع: “تيمونز روبيرتس” و “أيمي هايت، “من الحداثة إلى العولمة” ترجمة سمر الشيشكلي، سلسلة عالم المعرفة 310، أيلول سبتمبر 2004، ص 263.

ويستكمل الباحثان الفكرة فيشيران إلى التغييرات الاجتماعية التي احدثتها هذه الوصفة النيوليبرالية كما يلي:

1 – إعادة تقييم للربح الرأسمالي كأمر مرغوب به ومتطابق ومنسجم مع المصالح الوطنية.

2 – تلازم التقليل من قيمة العمل التنظيمي والصناعة المحلية على أنها “ملاجئ حماية مستأجرة” معادية للكفاءة الاقتصادية.

3 – دعم الاستثمارات الأجنبية كضرورة من أجل تنمية مدعومة ومحمية.

4 – تجديد الثقة بالسوق عبر تقليل التأثيرات من أجل تقليص اللامساواة الاجتماعية.

5 – إعادة توجيه مصادر الفخر والثقة الوطنية بعيداً عن مقاومة التسلط الأجنبي بالتوجه نحو معاودة الدخول بتأهيل جيد في مجالات التجارة العالمية (كاسلز ولاسيرنا 1989و ايفانو 1995، مالك مايكل 1995)”. [نفس المصدر السابق].

لا شك في أن انتهاج هذه السياسة أمكن بها السيطرة على بعض حالات التضخم والارتفاع الشديد في الأسعار، ولكن هذه “الوصفة السحرية!” عجزت عن تحقيق التنمية المنشودة والتشغيل ومكافحة البطالة ومكافحة الفقر والحرمان في تلك الدول التي مارست هذه السياسة بل اتسعت كل تلك المظاهر السلبية فيها، كما عجزت عن إيقاف أزماتها ومنها الأزمات المالية، ومنها ما حصل في المكسيك مثلاً، رغم أن النتائج كانت متباينة نسبياً في هذه البلدان، ولكنها على العموم لم تكن إيجابية، كما إنها حققت بالأساس، وهذا هو الجوهري في اللبرالية الجديدة، الكثير من الأرباح للرأسمال العالمي وللشركات الرأسمالية الاحتكارية المتعددة الجنسية وللبرجوازية الكبيرة في كل دولة من هذه الدول.

إن سياسة اللبرالية الجديدة الموجهة للدول النامية في المجال الاقتصادي تتجلى في وصفة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتي تسعى إلى فرضها على جميع الدول النامية على حد سواء والموسومة بـ “الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي”، فماذا يعني ذلك بالنسبة للكثير جداً من الدول النامية؟ هذا ما سنعالجه في الحلقة الثالثة.

الحلقة الثالثة

ما هي مضامين برنامج “الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي”؟

وماذا يراد منه للدول النامية؟

حين انتصرت ثورة تموز 1958 في العراق وثورة كوبا في العام 1959، وقبل ذاك كانت قد برزت حركة الحياد الإيجابي ومن ثم دول عدم الانحياز ومؤتمر باندونغ في إندونيسيا، ومعركة تأميم قناة السويس والعدواني الثلاثي على مصر، وتصاعد حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وتحقيقها نجاحات متميزة، برز اتجاه واضح صوب كسر الطوق المضروب على البلدان النامية، أي على الدول المستعمرة وشبه المستعمرة السابقة، في علاقاتها مع الاتحاد السوفييتي وبقية بلدان الديمقراطيات الشعبية في أوروبا الشرقية وتطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية معها، كما برز اتجاه صوب الأخذ من بعض تجارب هذه الدول في مجالات القطاع العام والتصنيع والإصلاح الزراعي …الخ، يضاف إلى ذلك بروز حركة تضامن بين قوى وشعوب ودول حركة التحرر الوطني في القارات الثلاث.

شكل هذا الاتجاه الجديد خطراً جدياً على العلاقات والمصالح الاقتصادية والسياسية للدول الرأسمالية الأكثر تقدماً، إذ بدأ يعزز دور وتأثير قوى دول عدم الانحياز واتساع تعاملها مع الدول الاشتراكية على حساب العلاقات الاقتصادية مع الدول الأخرى، كما أضاف وزناً جديداً في الحرب الباردة لصالح دول المعسكر الاشتراكي حينذاك، مما دفع بمنظري هذه الدول والعاملين منهم في الحقول والعلاقات الاقتصادية الدولية إلى التفكير بوضع أسس جديدة للعمل والتعامل مع الدول النامية والتي تبلورت باتجاهات خمسة، وهي:

تقديم مساعدات مالية إلى الدول النامية في إطار ما أطلق عليه بمشروع التنمية العالمية، وقدرت تلك المساعدات بحدود 0،7 % من إجمالي الناتج المحلي للدول الغنية.

تقديم المزيد من القروض الميسرة إلى الدول النامية لشدها اقتصادياً إليها وزيادة تأثيرها في وجهة تطورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.

ربط تقديم تلك القروض بشروط اقتصادية وسياسية واضحة لا تقبل الخطأ في ما تسعى إليه.

إبعاد هذه البلدان قدر الإمكان عن الأخذ ببعض جوانب النموذج السوفييتي في التنمية ودفعها لانتهاج سياسة السوق الحر، إضافة إلى كسبها إلى جانبها في المحافل الدولية وخاصة في الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها.

العمل من أجل تفتيت قوى حركة التحرر الوطني باتجاهين ملموسين، وهما:

أ. رفع شعار محاربة الشيوعية وتعبئة القوى حوله، باعتباره الخطر المباشر على الدين وعلى القيم والتقاليد السائدة في تلك المجتمعات، وكانت تهمة الشيوعية تلصق بكل الوطنيين الديمقراطيين والتقدميين واليساريين من غير الشيوعيين أيضاً.

ب. تشجيع نشاطات القوى القومية اليمينية وقوى الإسلام السياسية المناهضة للشيوعية لتعزيز مواقعها الاجتماعية والسياسية وتبني نهجها الاقتصادي ومواقفها السياسية، في مقابل تقديم دعم متنوع لها، وكان هذا يتم في العالمين العربي والإسلامي، في حين كانت تستخدم أدوات دينية أخرى في العالم غير الإسلامي.

وانسجاماً مع هذا التوجه وتأكيداً له صدر في العام 1969 التقرير الذي أعده لستر بيرسون، رئيس وزراء كندا الأسبق، تحت عنوان “شركاء في التنمية Partners in Development”، فتبنته الأمم المتحدة وتضمن قاعدة اقتطاع 0،7 % من الناتج المحلي الإجمالي في الدول الغنية لصالح التنمية العالمية في الدول النامية لعقد السبعينات من القرن العشرين.

وقد اقترن هذه التوجه بعدة ظواهر مهمة، وهي:

1. تفاقم غير منظور للرأي العام العالمي، ولكنه كان ملموساً للخبراء الدوليين في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في الدول الاشتراكية منذ منتصف السبعينات، خاصة وأن الحرب الباردة كانت تستنزف إمكانيات الدول الاشتراكية مالياً من خلال توجيه الكثير من الموارد المالية والتقنيات الحديثة صوب الصناعة العسكرية وإهمال تحديث القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية والحياة الاجتماعية المدنية، إضافة إلى تنامي علاقات التبادل التجاري في مجال السلاح على الجوانب الاقتصادية الأخرى مع الدول النامية، ويمكن التعرف على  ذلك من خلال كتابات الكاتب الأمريكي ألفين توفلر، في كتابه (الموجة الثالثة) الصادر في العام 1980، وكتابات زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في فترة رئاسة جيمي كارتر، على سبيل المثال لا الحصر.

2. تراجع جدي في المضمون التقدمي والديمقراطي لحركة التحرر الوطني في غالبية الدول النامية، والتي تجلت في بروز نظم استبدادية وشمولية مما أضعف التفاعل بين هذه النظم ومجتمعاتها وقاد تدريجاً إلى عزلتها بسبب إهمالها لمصالح شعوبها ايضاً.

3. ونتيجة لسيادة مثل تلك النظم المستبدة، سواء أكانت تحت تسميات مغرية ولكنها مضببه، مثل “الدول ذات التوجه الاشتراكي”، أم “الدول ذات التطور اللارأسمالي”، أم “حكومات البرجوازية الصغيرة الثورية”، فإنها فشلت في تحقيق عملية التنمية الاقتصادية والبشرية وأساءت لدور وسمعة قطاع الدولة وموارد البلاد وتوجهاتها الخاطئة نحو التسلح، مما جعل تلك النظم مرفوضة من جانب شعوب بلدانها.

4. تشديد الهجوم الرأسمالي وتقديم نماذج رأسمالية ناجحة في عدد من الدول في جنوب شرق آسيا والتي أطلق عليها بالنمور الأربعة ثم النمور الثمانية، وقاد هذا الواقع إلى اختلال في العلاقة بين الدول الاشتراكية والدول النامية لصالح الدول الرأسمالية المتقدمة، ر غم أن تلك النجاحات جاءت على حساب الفئات الأكثر فقراً وكدحاً.

5. وقد أعطى هذا الواقع الفرصة للمؤسسات المالية والتجارية الدولية لتلعب دورها في طرح أو استكمال المشروع السابق الذي طرحه لستر بيرسون بمشروع جديد من جانب جون ويليمسون نائب رئيس البنك الدولي في العام 1989، أي بعد عشرين عاماً عل المشروع الأول، أطلق عليه وثيقة “توافق واشنطن” (Washington Consenus) التي ادعى فيها أنها يمكن أن ” تطبق على أي فترة تاريخية ، وأي اقتصاد ، وأي قارة ، وباستهداف التوصل بأسرع ما يمكن إلى تصفية أي هيئة أو تنظيم من جانب الدولة أو غيرها ، والتحرير الأكمل بأسرع ما يمكن لكل الأسواق، الثروات، رؤوس الأموال، الخدمات، البراءات، ،، الخ”، وفي النهاية إقامة حكم كسوق بلا دولة، وسوق عالمي موحد ومنظم ذاتياً تماماً “. [راجع: عبد المجيد راشد، سياسة الإصلاح الاقتصادي و فخ العولمة المتوحشة، الحوار المتمدن، العدد: 1744 في 24/11/2006].

ولكن ما هو مضمون هذه الوثيقة، وبتعبير أدق ما هي المبادئ التي اعتمدتها هذه الوثيقة الأخيرة للتعامل مع الدول النامية وتقديم القروض المالية لها؟ إنها جاءت على النحو التالي:

” 1 ـ من الضروري – في كل بلد مدين – البدء في إصلاح المالية العامة وفق معيارين: تخفيض العبء الضريبي على الدخول الأكثر ارتفاعاً، لحفز الأغنياء على القيام باستثمار إنتاجي، وتوسيع القاعدة الضريبية، وبوضوح، منع الإعفاءات الضريبية للأفقر، من أجل زيادة مقدار الضريبة.

2 ـ أسرع وأكمل تحرير ممكن للأسواق المالية.

3 ـ ضمان المساواة في المعاملة بين الاستثمارات الوطنية والاستثمارات الأجنبية من أجل زيادة مقدار – وبالتالي ضمان – هذه الأخيرة.

4 ـ تصفية القطاع العام بقدر الإمكان، وتخصص المنشآت التي تملكها الدولة أو هيئة شبيهة بالدولة.

5 ـ أقصي حد من إلغاء الضوابط في اقتصاد البلد، من أجل ضمان الفعل الحر للمنافسة بين مختلف القوي الاقتصادية الموجودة.

6 ـ تعزيز حماية الملكية الخاصة.

7ـ تشجيع تحرير المبادلات بأسرع الوسائل الممكنة، بهدف تخفيض الرسوم الجمركية بنسبة 10 في المائة كل سنة،

8 ـ لما كانت التجارة الحرة تتقدم بواسطة الصادرات فينبغي في المقام الأول تشجيع تنمية تلك القطاعات الاقتصادية القادرة على تصدير منتجاتها.

9 ـ الحد من عجز الميزانية.

10 ـ خلق شفافية الأسواق: فينبغي أن تمنع معونات الدولة للعاملين الخاصين في كل مكان، وعلى دول العالم الثالث التي تقدم دعماً من أجل إبقاء أسعار الأغذية الجارية منخفضة أن تتخلي عن هذه السياسة، أما عن مصروفات الدولة فينبغي أن تكون للمصروفات المخصصة لتعزيز البني الأساسية الأولوية على غيرها، [راجع: نفس المصدر السابق].

من خلال هذه النقاط نستطيع أن نتبين الوجهة الطبقية الصارخة التي يراد دفع الدول النامية إليها، إنها باختصار ضد فئات المجتمع المنتجة والكادحة والفقيرة وإلى جانب أصحاب رؤوس الأموال والأغنياء والمتخمين، وهو برنامج يقود دون أدنى ريب إلى ما يلي:

1.   إنه يقود إلى منح الدولة الحد الأدنى من القدرة على الحركة والنشاط في مختلف المجالات فيما عدا حماية القطاع الخاص والملكية الخاصة ونظام السوق الحر.

2.   وأنه يقود إلى خلق مجتمع طبقي شديد التمايز بين طبقة المنتجين والفقراء، وبين طبقة مالكي وسائل الإنتاج أو رأس المال والأغنياء والمتخمين، والذي يقود بدوره إلى تشديد الاستغلال وبالتالي الصراع الطبقي.

3.   ولا شك في أن مثل هذه الدولة التي تأخذ بهذا البرنامج ستمارس سياسة الدفاع عن مصالح أصحاب رؤوس الأموال من خلال السماح لهم بتحقيق المزيد من الأرباح على حساب خزينة الدولة والمجتمع من خلال تخفيض الضرائب على الدخل (الضريبة المباشرة) وفرض ضرائب غير مباشرة على السلع والخدمات مما يحمي أصحاب الدخول العالية من ضريبة تصاعدية عادلة وضرورية ويجهد أصحاب الدخول الواطئة.

4.   كما أن هذه الدولة ستقوم بحرمان الفئات الكادحة والمنتجة من أي دعم حكومي للسلع والخدمات ذات المساس المباشر بمستوى حياة ومعيشة تلك الفئات، ولكنها ستمارس باستمرار تخفيض الضرائب على أرباح رؤوس الأموال بذريعة توفير الفرص للاستثمار وإعادة التوظيف وتوسيع عملية إعادة الإنتاج وعدم فتح باب تهريب رؤوس الأموال.

5.   وأن هذا البرنامج لا يقود إلى حرمان الدولة من إقامة المشاريع الاقتصادية، الإنتاجية منها والخدمية، حسب، بل ويطالب الدولة بخصخصة مشاريعها الاقتصادية القائمة فعلاً.

6.   وأنه يقود إلى منع الدولة من إقامة مشاريع صناعية أو تحديث الزراعة، بل جعلها معتمدة على التجارة الخارجية المستنزفة للدخل القومي والتي تحرم البلاد من إمكانية تحقيق التراكم الرأسمالي وتنمية الثروة الوطنية.

7.   ويقود هذا الاتجاه إلى تفاقم البطالة في المجتمع وإلى تنامي التوتر الاجتماعي والصراع الطبقي، والذي يقود بدوره إلى نزاعات سياسية واجتماعية لا مفر منها.

8.   وتهمل الدولة، التي تأخذ بهذا البرنامج، مهماتها الاجتماعية والنفسية والثقافية، والتي تؤدي بدورها إلى بروز الكثير من المشكلات التي يعجز المجتمع على حلها وتغوص الدولة في وحل المشاكل العويصة.

9.   إن اعتماد الدولة على التجارة الخارجية يقود إلى انكشاف صارخ للاقتصاد الوطني على الخارج، أي التبعية للخارج والاستيراد من جهة، كما يعتبر تفريطاً بأموال الدولة التي يفترض أن توجه لأغراض التثمير الإنتاجي وزيادة التراكمات الرأسمالية لإغناء الثروة الوطنية.

10.   إن تطبيق سياسة الباب المفتوح ليس أمام التجارة الخارجية حسب، بل وأمام حركة رؤوس الأموال والأيدي العاملة والابتعاد عن تطبيق قوانين ملزمة لحماية العمل والعمال وسياسة جمركية عادلة لحماية الإنتاج الوطني من المنافسة الحادة، وضمان الحد الأدنى للأجور.. الخ ستقود إلى عواقب وخيمة من النواحي الاجتماعية والثقافية والنفسية على الفرد والمجتمع.

11.   ومن هنا يمكن القول بأن السياسة المالية والنقدية، بما فيها سياسة المصارف الاستثمارية ودور ونشاط شركات التأمين والسياسة الضريبية والجمركية والأسعار.. الخ، التي تضعها الدولة في هذا النموذج ستكون موجهة لمصلحة أصحاب الاستثمارات الأجنبية والنشاط الاقتصادي الأجنبي وسياسة الاستيراد المفتوحة، وكذلك في مصلحة الفئات المستغِلة في المجتمع وضد المستغَلين.

12.   إن المهمة المركزية لهذا البرنامج هي ربط العملية الاقتصادية لاقتصاديات الدول النامية بالاقتصاد الرأسمالي العالمي عبر عملية إعادة الإنتاج بمراحلها المختلفة من جهة، وتوسيع الفجوة الفاصلة بين مستوى تطور الدول المتخلفة والدول المتقدمة لصالح الأخيرة من جهة أخرى، وتبدو هذه اللوحة أكثر وضوحاً في ظل ممارسة سياسات العولمة في العلاقة بين المجموعتين في عالم واحد منقسم على نفسه: عالم التخلف والفقر وعالم التقدم والغنى، إنها مهمة الحفاظ على بنية وطبيعة التقسيم الرأسمالي الدولي للعمل، أي أن تبقى الدول النامية استهلاكية وريعية بما تصدره من موارد أولية كالنفط مثلاً ومستهلكة لدخلها القومي بما تستورده من سلع استهلاكية وتدور في محيط المراكز المتقدمة، في حين يتواصل التطور في مراكز الدول المتقدمة باعتبارها دولاً منتجة ومصدرة للسلع والخدمات والتقنيات ومغنية ومنمية بمعدلات جيدة لدخلها القومي، ويتجلى ذلك بوضوح كبير في الاختلال الصارخ في المؤشرات الإحصائية وأرقام التجارة الخارجية ونسب المشاركة في الإنتاج الصناعي أو الإنتاج الزراعي، وكذلك الاختلالات في الموازين التجارية وموازين المدفوعات وتفاقم الديون الخارجية للدول النامية والفوائد السنوية المترتبة عليها.

إن إشكالية التقدم والتخلف لا تبدو في الدخل القومي ومعدل حصة الفرد الواحد منه سنوياً فحسب، بل وبالأساس في بنية هذا الاقتصاد ودور القطاعات المختلفة في تكوين الدخل القومي وفي مستوى تطور القوى المنتجة والتطور العلمي والتقني التي هي نتاج لطبيعة علاقات الإنتاج السائدة، وكذلك مستوى ونسب البطالة إلى القوى القادرة على العمل وتوزيعها الإقليمي ومستوى البحث العلمي ومستوى التعليم والأمية وبراءات الاختراع ،، الخ، والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والثقافية والبيئية في هذا الصدد كثيرة جداً وصارخة في التمايز بين المجموعتين من الدول، فعودة سريعة إلى التقرير السنوي للتنمية البشرية خلال السنوات المنصرمة مثلاً، أو حتى تقارير البنك الدولي السنوية والكثير من التقارير السنوية الأخرى، بما فيها التقرير الاقتصادي العربي الموحد، يستطيع كل متتبع إدراك واقع هذا البون الشاسع والآثار السلبية الحادة جداً لتلك السياسات النيوليبرالية، التي يقترحها لنا البعض، على حساب اقتصاديات ومستوى حياة ومعيشة شعوب الدول النامية.

إن 80 % من شعوب العالم، وهي الدول النامية، تستهلك 20 % من الكثير من المواد الخام والطاقة وتنتج أقل من 20 % في الصناعة والزراعة وتساهم بتلويث البيئة بنسبة 20 % من غاز ثاني أكسيد الكربون تقريباً، في حين أن 20 % من شعوب العالم، وهي الدول المتقدمة، تستهلك 80 % من تلك المواد الأولية أو تساهم بهذه النسبة في التجارة الدولية أو في الإنتاج الصناعي والزراعي، كما تشارك في تلوث البيئة بنسبة 80 %

  كتب بتأريخ :  الأحد 06-11-2016     عدد القراء :  3126       عدد التعليقات : 0