الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ماتت وردة في عيد الحب
بقلم : حسن الخفاجي
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

في مثل هذا اليوم من العام الماضي ماتت شتلة ورد فاح عطرها وعم أريجها مكان موتها وأماكن اخرى ، حينها كنت مع ولدي في المستشفى لحالة مرضية طارئة . ونحن ننتظر دورنا قدمت إلينا موظفة من الاستعلامات وسألت بأدب جم عن اصولنا لتعلق الامر بمريضة عراقية في حالة حرجة . قالت الموظفة: "المريضة طلبت منا ان نبحث لها عمن يتكلم  اللغة العربية".

أخذتنا موظفة الإستعلامات معها الى حيث ترقد المريضة العراقية . شاهدتها ، خمنت عمرها في منتصف العقد السابع.  قبل ان نسألهاعن حاجتها قالت بصوت متعب ومرتعش وزخات العرق لا تغادر جبينها: "اسمي وردة وانا عراقية" قلنا: لها ونحن عراقيين ايضا. قالت: "انا مقطوعة من شجرة واعيش وحيدة منذ وفاة زوجي ولا أقارب او أصدقاء لي من العراقيين ، لأننا كنا نسكن ولاية باردة وبعيدة". اضافت: "لي عندكم طلب ان تمكنتم من اتمامه فبها،  وان عجزتم فأنتم معذورين . إجابتها وما هو طلبك ؟.قالت :"ان مت ادفنوني في مقبرة عراقيين ولا تسألوا عن ديانتي وقوميتي وطائفتي، فالعراق عندي فوق كل هذه المسميات ، يكفيني ان ارقد رقدتي الاخيرة بجوار عراقيين ، وانا أشكركم مقدما".

تمنيت لها السلامة, ودعتها ووعدتها بالعودة اليها بعد ان اكمل فحوصاتي .

عدت اليها بعد ساعتين  لم اجدها في الغرفة. سألت الممرضة  عنها ، تأسفت قائلة: "توفت وهي في ثلاجة الموتى الآن". كأن وردة كانت تنتظرنا لتوصل رسالتها البليغة وتموت بعدها مطمئنة.

أبديت استعدادي بالتكفل بدفنها ، كي لا تترك ويتم حرقها مثلما حصل مع احد العراقيين حيث نقيم .

اتصلت بمجموعة خيرة من العراقيين، الذين تعلوا عراقيتهم فوق المسميات  القومية والدينية والطائفية  .أكملنا الإجراءات وتقاسمنا تكاليف الدفن, ودفناها في مقبرة للعراقيين . علها تسعد بمجاورتها لعراقيين حرمت من مجاورتهم واللقاء بهم والتحدث معهم في اخر سنوات حياتها  .

لم يستغرق وقت تعارفي بالراحلة وردة  غير دقائق معدودة ، لكنها يرحمها الله علمتني ومن شاركني بدفنها درسا عظيما في الوطنية.

ذهبت لقبرها هذا اليوم ازلت الغبارعنه ، ووضعت باقة ورد على القبر، الذي بدا لي كنخلة عراقية باسقة نبتت ونمت في غير تربتها . شكرتها لانها علمتني: ان الوطنية ليست بالشعارات والخطابات.  الوطنية عند وردة كانت فعل انتماء للوطن لا يعلوه انتماء .

شكرا ياوردة وسأبقى وفيا لذكراك لاننا غريبان, ومن لم يسمل شوك الغربة عينه ، لا يتمتع بجمال وحنان الوطن  . لا اعرف ياوردة كم بساط أمل حاكت أناملك  وانتِ  تفرشين طريق  امانيك للعودة لعراق معافى معطر بالرازقي والجوري والقرنفل. كلماتك القليلة الدافئة وانت  على سرير المرض تنازعين الموت في مساء بارد, شممت منك رائحة شجرة الشب ليلي في ليالي تموز البغدادية . عبرت بوطنيتك سُوَر  الطائفية والشوفينية. موتك في يوم عيد للحب والعشق هو رسالتك الاخيرة المطرزة بالورد لعراق ينزف.  لسنا  لوحدنا ياوردة نسبح في بحر الغربة المالح الثقيل .  وطننا ياوردة محتل من طائفيين  وشوفنيين وسراق باعوا  العراق بثمن بخس, وباعوا العراقيين  وهما,  وأطعموهم شعارات, وخدعوهم بوعود  كاذبة. العراقيون ياوردة يشعرون بالغربة مثلنا وهم يعيشون في العراق!. لم يحصد العراقيون من الساسة غير القتل والجوع والتشرد والتهجير. وهاهم يتقاتلون ياوردة  ويسقط الابرياء من المتظاهرين ورجال الأمن ، من اجل ضمان صوت المغفلين من العراقيين للانتخابات القادمة. وكأن الفشل والسرقة  والتزوير والكذب, الذي استمر لمدة ثلاثة عشرعاما لم يكشف أوراقهم بعد, وظلوا يظنون  ان باستطاعتهم استغفال العراقيين مجددا .(موت الكرف الينتخبكم).

نامي قريرة العين ياوردة فقبرك في أمان  الله ، لن يفكر احد بهدمه, او التجاوز على حدائق وشوارع المقبرة الجميلة ، التي ترقدين فيها,  لبناء بيت, او قاعة,  اجتماعات, او قبر, او مسجد او او  .

وداعا ياوردة والى لقاء في العام القادم, او ان تجمعنا مقابر الغربة, بعدما شتتنا ساسة العراق منذ العام ١٩٦٣ لغاية الان.

من منكم يدلني على سياسي عراقي وطني مثل وطنية عبد الكريم قاسم والراحلة وردة ؟.  التي افتخرت بعراقيتها وافتخر العراق بها ابنة بارة .

قطعة المرمر الجميلة التي زينت قبرك كتبنا عليها "العراقية وردة" .  لانك عشتِ ومتِ وانتِ لا تعرفين غيرالعراق ديناً ومذهباً وقوميةً.

وانا أُلوح لها بيدي مودعا تذكرت قول الشاعر الزهاوي

"وقلت له انا غريبان ها هنا            وكل غريب للغريب نسيب".

"لأنّي غريب

لأنّ العراق الحبيب

بعيد و أني هنا في اشتياق

إليه إليها أنادي : عراق

فيرجع لي من ندائي نحيب

تفجر عنه الصدى

أحسّ بأني عبرت المدى

إلى عالم من ردى لا يجيب

ندائي "

بدر شاكر السياب

16/2/2017

Hassan.a.alkhafaji@gmail.com

  كتب بتأريخ :  الخميس 16-02-2017     عدد القراء :  3075       عدد التعليقات : 0