الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الإحتضار في زمن الإنتظار القسم الثالث والرابع والخامس

احتضار الأحزاب الدينية على الشارع العراقي

الإحتضار بمفهومه البايولوجي حالة مأساوية تثير مشاعر الحزن والألم، خاصة إذا تعلق هذا الأمر باحتضار عزيز. إلا ان هناك النوع الآخر من الإحتضار الذي يجلب الفرحة ويدخل البهجة على القلوب سواءً كان هذا الإحتضار واقعاً او مَجازاً، وسواءً كان هذا الإحتضار بايولوجياً او سياسياً او اجتماعياً او خُلُقياً.وهذا النوع من الإحتضار المُفرح هو الذي سيكون مدار حديثنا الآن والمتعلق بالإحتضار الفعلي ، حتى وإن كان بطيئاً بعض الشيئ والمتعلق باسياد الفساد وسراق البلاد والعباد، احزاب الإسلام السياسي في العراق، والتي يئن تحت سياط بغيها وتسلطها شعب يرزخ منذ اربعة عشر عاماً في غياهب الدجل والخداع والمكر المغطى بكل وسائل الإنحطاط الأخلاقي والسقوط الإجتماعي.

   احزاب الإسلام السياسي في العراق بشقيها المذهبيين تعاني من كثير من الأزمات القاتلة ومتورطة في مآزق متعددة تتخبط في البحث عن وسائل الخروج منها، كل ذلك يجري بالرغم من كل العنجهيات التي تمارسها هذه الأحزاب الفاشلة بكل المقاييس والتي لا زالت تستنزف المال العام من خلال سرقة المليارات التي تؤسس لسيولة نقدية تتصرف بها هذه الأحزاب لشراء الذمم وامتهان الأخلاق والقيم.

   حالة التدهور الأولى التي تعيشها هذه العصابات تتجلى في تشضيها وتمزقها إلى تجمعات وكيانات ينهش بعضها البعض للحصول على اكثر ما يمكن من الفريسة العراقية التي قدمها لهم الغزو الأمريكي لوطننا عام 2003 . عصابات الإسلام السياسي المتحكمة في وطننا والجاثمة على صدور اهلنا وتمارس اللصوصية لخيرات بلدنا منذ اربعة عشر عاماً ، لم ترو غليلها بعد من كل ما اقترفته من جرائم الإثراء الفاحش والإبتزاز الرخيص وتكديس الأموال في الحسابات المصرفية الداخلية والخارجية وامتلاك العقارات في اوربا والخليج وشراء الذمم من التابعين والمهرجين لها في كل حدب وصوب والإستيلاء على ممتلكات الدولة كمقرات لأحزابها او كقصور سكن فارهة لقادتها، كل ذلك لأولئك الذين كانوا قبل ان يأتي بهم الغزو الأمريكي لوطننا لا يملكون شروى نقير ولم يكن لمعظمهم اي دور يُذكر في النضال الوطني ضد دكتاتورية البعث الساقطة. وضعهم البائس قبل الغزو فتح شهيتهم بعد الغزو لأن يكسبوا ما استطاعوا تحسباً لما قد تأتي به الأيام التي استعدوا لها ايضاً، كما جاء على لسان احدهم، ليصبحوا هم وعوائلهم خلف الحدود إذا ما شعروا بان مطاردة اللصوص اصبحت قاب قوسين او ادنى من التطبيق الفعلي. العراك على الفريسة لم يزل مستمراً ويزداد تعمقاً وانشطاراً مصيره الإحتضار حتى وإن كان بطيئاً.

   اما العامل الثاني الذي قد يساعد على قرب احتضار عصابات الإسلام السياسي الحاكمة في وطننا وكل القوى العاملة معها قومية كانت او عشائرية متخلفة يتعلق بسقوط هذه الأحزاب اجتماعياً وسياسياً وخلقياً على الشارع العراقي، بالرغم من وجودها الفاعل اقتصادياً. الوجود الإقتصادي هذا لا زال يساعد هذه العصابات على شراء ذمم البائسين واستغلال حاجة الفقراء الكثر في وطننا إلى المال مهما كان قليلا ، لذلك فإن القوة الجماهيرية التي يتبجحون بها ليست بتلك الدرجة من القناعة التي يمكن الإعتماد عليها كرصيد شعبي ثابت.ً هذا السقوط الأخلاقي على الشارع العراقي وضع هذه الأحزاب في مواقع لا تُحسد عليها، لا لأنها منزعجة من وصف الشارع لها بأحط اوصاف السقوط الأخلاقي ، فذلك لم يعد يحرك شعرة الإحساس والخجل والغيرة والشرف لدى هذه الأحزاب لفقدانها لهذه الشعرة منذ امد طويل، بل لأن هذه الصورة السوداء التي رسمها لها الشارع العراقي تزداد سواداً وتثير إشمئزازاً متزايداً قد يصل حداً لن تنفع معه وسائل الإغراء المادية فتصدح الحناجر ثانية وبزخم اكثر من ذي قبل مرددة " باسم الدين باكونا الحرامية " وعندها سيكون لكل حادث حديث.

   اما ما يثير قلق عصابات الإسلام السياسي الحاكمة ومن يقف معها او خلفها في سرقة قوت الفقراء واموال المهجرين ونهب المال العام فيتعلق بالتعامل مع الوضع السياسي الناتج بعد القضاء على عصابات الإرهاب الداعشي ليس الخارجية فقط، بل ودواعش الداخل ايضاً وخلاياها النائمة والمستيقضة في آن واحد، سواءً كان ذلك في البرلمان او في مجلس الوزراء او في كل مؤسسات الدولة الأخرى.

   حقيقة احزاب الإسلام السياسي وهدفها يتلخص في بناء دولتها الدينية التي لم يفصح البعض عنها لحد الآن، على الرغم من ادعاءات احزاب وتجمعات هذه القوى الإختلاف المذهبي الذي توظفه لقتل الآخر ولنشر الإحتراب بين ابناء الشعب الواحد من خلال محاصصاتهم المقيتة، ومن خلال تخليهم عن الهوية الوطنية العراقية مقابل الهويات الطائفية والمناطقية والعشائرية. إلا ان هذه القوى الشريرة سوف لن يكون لها ما تريده في وطننا الذي لفظ بالأمس ويلفظ اليوم وبكل اصرار قوى الإسلام السياسي جميعاً والتي لم تجلب لشعبنا سوى التخلف الفكري والإنهيار الإقتصادي والعداء بين المواطنين واستمرار ما نهجت عليه البعثفاشية المقيتة من تخريب للبد وتراجعه عن ركب الحضارة العالمي.

   إن رفض شعبنا لزمر الإسلام السياسي وعصابات جرائمه المقيتة لم يأت عن فراغ او صدفة، بل انه يشير إلى التجاوب الذي يطلقه شعبنا مع شعوب العالم الأخرى سواءً تلك التي اسقطت صروح هذه العصابات او تلك التي تنتهج طريق اسقاطها، هذا إذا ما نظرنا للأمر من ناحية موضوعية عامة. اما من الناحية الذاتية فهناك الكثير من المبررات التي طرحتها الساحة السياسية العراقية منذ سقوط دكتاتورية البعث ومنذ ان جاء الإحتلال الأمريكي بعصابات الإسلام السياسي ووضعها على قمة السلطة السياسية في وطننا، والتي تشير جميعاً إلى هذا السقوط الذي لابد منه. ومن اهم العوامل الذاتية هذه هي:

   اولاً : لقد اظهر الحراك الجماهيري الذي بدأ بوضوح اكثر من ذي قبل ، بان هناك توجهاً عاماً نحو الدولة المدنية الديمقراطية ورفضاً واضحاً للدولة الدينية بحيث اضطرت حتى بعض قوى الإسلام السياسي ، ولو عن كذب وتقية كعادتها في مثل هذه الحالات، ان تتبني شعارات الدولة المدنية الديمقراطية الضامنة لكل الحقوق ولكل المواطنين ولجعل الهوية الوطنية العراقية هي العليا بين الهويات الثانوية الأخرى.

   ثانياً : كما ابرز الحراك الجماهيري بكل صوره واشكاله ومن خلال الكثير من الشعارات التي طرحها تظاهراً واعتصاماً وكتابة واحتجاجاً وحتى من خلال وقفات صامتة احياناً، مدى احتقار الشعب العراقي لعصابات الإسلام السياسي وكل رموزها ومنفذي سياساتها.

   ثالثاً : لقد ساهمت شخوص الإسلام السياسي واحزابه وكل تجمعاته، مشكورة، بفضح نفسها بنفسها من خلال ممارساتها لقيادة الدولة العراقية، واثبتت بذلك بان هذه العصابات قد سقطت سياسياً واجتماعياً وثقافياً وحتى اخلاقياً،وفشلت فشلاً ذريعاً في كل الميادين، ولم تنفعها كافة التبجحات الدينية والخطاب الكاذب المخادع الذي تتبناه في مختلف المناسبات محاولة منها لتحسين صورتها المشوهة والكريهة في اوساط الشعب العراقي.

   إن الشعب العراقي بكافة منظماته المدنية الديمقراطية وشخصياته الوطنية وكل الذين عانوا بالأمس من دكتاتورية البعث وقمعها وتهورها واستمرت معاناتهم او تجددت اليوم بسبب سياسات خلفاء البعث من الإسلاميين بكل تجمعاتهم المقيتة وعصاباتهم المجرمة، مدعوٌ اليوم للمساهمة الجدية والفعالة ، وبكل الطرق السلمية الحضارية، في الإسراع بإسقاط ما تبقى من تجمعات الإسلام السياسي وكل رموزه في وطننا، وليس ذلك على الشعوب بعسير وإن غداً لناظره قريب.

   وللحديث صلة

        

   الإحتضار في زمن ألإنتظار ـ القسم الرابع

   إحتضار القانون في مضيف العشيرة

   في مجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام كانت العصبية القبلية، التي نهى عنها الإسلام، هي السائدة في تنظيم علاقات الناس في ذلك المجتمع. وهذا يعني ان الجزيرة العربية في ذلك الوقت لم تعرف كياناً يسمى بالدولة بالرغم من وجود كيان الدولة هذا على حدودها والمتمثل بالدولة البيزنطية في الغرب والدولة الساسانية في الشرق. وحينما اراد الإسلام استبدال قيادة العشيرة بقيادة الأمة، وهنا ينبغي التأكيد هنا على مفردة الأمة لأن الإسلام رفض الكيان القيصري الذي كان يعكس كيان دولة ايضاً، نقول عندما اراد الإسلام استبدال حكم العشيرة بحكم الأمة نجح في ذلك بعض الشيئ حيث ظلت جذور المنشأ العشائري مغروسة في حياة الناس بعد ان توارثوها جيلاً عن جيل ولم يكن من السهولة التغلب عليها بفترة زمنية تجعل هؤلاء الأعراب يتخلون عن صفاتهم كونهم اشد كفراً ونفاقاً. ويرينا التاريخ بان مفردتي الدولة والعشيرة لم يكونا على وفاق وتلائم بالوجود المشترك، إذ كان لابد من اختفاء الواحدة حين شيوع سيادة الأخرى. ومع التقدم في كيانات الدول التي رافق صيرورتها تبادل العلاقات بين الدولة والعشيرة ودخول عامل الدين كعامل اكتسب اهميته تدريجياً ليبلغ القمة في الدول التي تأسست ارتباطاً به حيث تم ذلك في الشرق من خلال الدولة الأموية والعباسية والعثمانية والفاطمية وغيرها وفي الغرب من خلال دول القرون الوسطى التي قادت الحروب الداخلية ضد مناوئيها وخا رجياً ضد مخالفيها في الدين كالحروب الصليبية مثلاً. وهكذا استمر المد والجزر في العلاقة بين الثلاثي : الدولة ، الدين ، والعشيرة حتى استطاعت بعض المجتمعات رسم طريقها المفضي إلى الدولة المدنية بعد ان حجَّمَت دور العشيرة وركنت الدين في مؤسساته، لتجعل من القانون سيد الموقف في مجتمعات هذه الدول. ومع تأسيس ما يسمى بالدولة الوطنية الحديثة في المجمتمعات التي تخلصت من سيطرة الدولتين الإسلاميتين العثمانية والفارسية ، حاولت الحكومات الجديدة استنساخ نماذج الدول المدنية في تبني العلاقات مع الدين والعشيرة . وهنا تبلور الوضع الخاص الذي افرز دولاً هجينة تجلت فيها مظاهر العوامل الثلاثة : الدولة والدين والعشيرة بنسب تكاد تكون متقاربة مع صعود عامل ما على حساب العاملين الآخرين حسب الظروف التي تسود هذا البلد او ذاك.

   وما يتعلق بوطننا العراق بهذا الصدد فإن الدولة العراقية الحديثة التي تأسست على انقاض الدولة العثمانية كانت تمثل هذا الهجين من خلال تعامل المجتمع العراقي مع قوانين الدولة العراقية وتراث وتعاليم العشيرة العراقية وثوابت ونواهي الدين الإسلامي بشكل خاص، والأديان الأخرى عموماً، بمقاييس تكاد تكون متقاربة ، حتى ان الدولة العراقية اضطرت لسن ما يسمى بقانون دعاوى العشائر الذي ظل معمولاً به حتى عام 1958. وقد تحقق بالفعل مبدأ سيادة الدولة بعد الغاء هذا القانون واصبح قانون الدولة هو السائد في حل المشاكل الحضرية والريفية بشكل عام. وحينما اجتمع الرباعي المتآمر على الجمهورية العراقية الأولى والمتمثل بالمخابرات الأمريكية وما حمله قطارها من عصابات البعث بمعاونة بقايا الإقطاع الذي الغت هذه الجمهورية سيادة قوانينه في الريف العراقي مستندين على فتاوى دينية حرمت اراضي الإصلاح الزراعي ، جرى التقرب التدريجي للعشيرة مرة اخرى حتى شكلت في سنين تسلط دكتاتور البعثفاشية مصدراً من مصادر حل النزاعات ليس في الريف فقط. وبعد القضاء على البعثفاشية المقيتة استبشر الناس خيراً بمن اتى بهم الغزو الأمريكي ليستخلفوا دكتاتورية البعث في حكم العراق . إلا ان خيبة الأمل التي بدت تراود جموع الشعب العراقي بمرور السنين تجلت بشكل اكثر وضوحاً حينما رأى الفرد نفسه في مجتمع يقال بانه يعيش في القرن الحادي والعشرين إلا ان كل ما حوله يشير إلى عصر ما قبل الإسلام من حيث عودة حكم العشيرة وتفشي العصبية القبلية التي زادت في ويلات الشعب العراقي الذي سبق وان انتابته ويلات التعصب المذهبية والإلتفاف الطائفي المقيت الذي شكل لأبشع سياسة محاصصات لصوصية عرفها تاريخ العراق الحديث.

   المراقب الواعي لما يجري على الشارع العراقي اليوم ينظر بالم وحرقة إلى اختفاء القضاء العراقي في مضايف ودوواين العشيرة العراقية واصبح التراث العشائري ايضاً وليس فقط القانون العشائري المكتوب وغير المكتوب هو الحكم الفصل في المنازعات التي تحدث في المجتمع العراقي. لقد كان من المؤمل ان يشكل الإحتضار البطيئ لقوانين الدولة العراقية في مضايف العشيرة ردة فعل احتجاجية من قِبَل المؤسسة القضائية العراقية التي لم تزل تتمتع كثير من مفاصلها وشخوصها بالإحترام من قبل الكثيرين من اهل العراق والذين لم يزالوا يعولون على هيمنة قوانين الدولة ويتوسمون تحقيق العدالة الإجتماعية وليس حلول المراضاة العشائرية التي تسود المجتمع العراقي اليوم. إنه لمن المخجل جداً ان ينتهي القضاء في العراق الذي اوجد اول قوانين الدنيا إلى ان يكون تابعاً للمجتمع الجاهلي وكل ما يتسم به من العصبيات العشائرية البدائية التي لا تتلائم وتاريخ العراق وإمكانات تطوره نحو الدولة المدنية الديمقراطية بكل الأسس التي تحتاج إليها هذه الدولة، إذ ان العراق ذو امكانيات تؤهله لذلك. الفوضى السائدة اليوم في المجتمع العراقي والتي تجبر المواطن ان يفتش عن الإنتماء العشائري لغرض الحماية او الحصول على حقوق مغتصبة لا تختلف عن فوضى المجمعات قبل الإسلام حيث الخطر الكبير الذي يصاحب كل من لا يثبت انتماءه العشائري .

   " روح جيب عمامك " هذه العبارة السمجة التي تتردد على مسامع المواطن حينما تعترضه مشكلة ما هي من اختصاص المؤسسة القضائية اولاً واخيراً. يطلقون هذه العبارة وكأن البلد الذي اوجد اول لائحة قانونية في الدنيا قد توقف عن انجاب رعاة القانون ومنفذي بنوده على الواقع العملي الذي يعيشه المواطن العراقي. إنه الخزي بعينه والخراب الأمني بذاته والتخلف الإجتماعي بكل مفاصله هذا الذي ينتشر على الشارع العراقي اليوم من تجاهل لقوانين الدولة ومؤسسات القضاء التي لا يخفي بعض منتسبيها شيئاً من اللامبالاة في مواجهة هذا الأمر الخطير وكأن احتضار القانون في مضيف العشيرة لا يعنيهم شيئاً.

   ماذا نستنتج من كل ذلك؟ النتيجة المنطقية التي تؤكد الفكرة اعلاه والمتضمنة عدم امكانية تواجد سلطتي الدولة والعشيرة في آن واحد ، إذ لابد من تراجع الواحدة امام سيادة الأخرى. وما نراه اليوم من سيادة قانون العشيرة يقودنا إلى النتيجة المنطقية القائلة بغياب سيادة الدولة ومؤسساتها القضائية التي تلعب الدور الهامشي امام دور المضيف العشائري. فإن كان غياب الدولة وقوانينها لم ولن يجرح مشاعر القائمين على امور الدولة وقوانينها فذلك امر يدعو إلى العجب العجاب في بلد كالعراق.

   العشيرة العراقية لم تستهتر بالقضاء وقوانين الدولة فقط، بل انها تستهتر بالنظام والأمن الداخلي ايضاً وذلك من خلال بروزها كقوة عسكرية تملك وتستعمل السلاح بكل انواعه وحتى قسماً من الثقيل منه. تستعرض قواها باستعمالات حية للسلاح في شوارع المدن والمناطق الريفية التي تتواجد فيها لأتفه الأسباب مسببة بذلك وقوع ضحايا الرصاص الطائش، وتعلن الحرب على بعضها البعض خارج نطاق سيطرة الدولة وتزج المواطن في معارك طاحنة بالذخيرة الحية.هذا الإستهتار بالدولة وقوانينها يؤكد مرة اخرى ضعف الدولة العراقية امام استفحال قوة العشيرة في تأثيرها على مجرى الحياة اليومية في العراق.

   فهل سيطول انتظارنا لثورة القضاء وانتفاضة الدولة لإسترداد الكرامة المفقودة ولنشهد سيادة قانون الدولة واحتضار قانون العشيرة ؟

   الإحتضار في زمن الإنتظار ـ القسم الخامس والأخير

   احتضار التعليم في خرائب المدارس

   حينما يعلن احد قادة الدولة العراقية اليوم بان دولته هذه قد فشلت في بناء المدارس بعد مرور اربعة عشر عاماً على وجوده ووجود رهطه على قمة العملية السياسية ، فإن ذلك يعني اول ما يعني بان هذه الدولة العراقية بكل ما تملكه من ايرادات مالية وكفاءات بشرية تسير نحو الإحتضار السريع، إذ ان العِلم يقول ان احد الأسباب الرئيسية للقضاء على المجتمعات يتحقق بالقضاء على الإنسان المتعلم في هذه المجتمعات ، اي بالفشل في بناء الإنسان القادر على ان يجعل مجتمعه مواكباً لمسيرة التحضر العالمية ومساهماً في تحقيق الحضارة الإنسانية. وحينما يجري الحديث عن التعليم فإنه لا يعني فقط حدوده الأساسية المتمثلة بالمعلم والطالب والمدرسة ، بل يتخطى ذلك إلى مجمل تاثير العملية التعليمية على مسيرة البلد المعني اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وخُلقياً ايضاً. وحينما نتناول موضوعة التعليم المدرسي في وطننا العراق بعد مرور اربعة عشر عاماً على حكم عصابات اللصوص في احزاب الإسلام السياسي والتي اعترفت بعظمة لسانها القبيح بانها فشلت في بناء المدارس في العراق، فإننا نعني المراحل التعليمية المختلفة التي تؤثر في بناء ومسيرة الفرد العراقي بدءً بسنين التعليم الأولى وحتى إكمال الدراسات العليا في الإختصاصات المختلفة . فهل نستطيع ، مع الواقع المُعاش اليوم في وطننا ،ان نتحدث عن تعليم بهذه المستويات في عراق تجار الدين وفقهاء السلاطين؟

   على هذا السؤال سيجيب كل منصف بلا كبيرة وكبيرة جدا ، لماذا ؟؟؟ً

   *لأن العامل الأول المعني بكافة مراحل التعليم وهو المعلم والمدرس والأستاذ لا يمتلك اهم مقومات التعليم الناجح والمتمثلة بحريته الشخصية والعلمية في اداء رسالته هذه . ناقل العلم هذا يتعرض للضغوطات التي لا علاقة لها بالعلم والتعليم من جهات عديدة لا تريد له ان يؤدي عمله كما يراه هو وليس كما يراه السياسي الملتحف بالدين او رجل الدين الغارق في الاعيب السياسة . ولم يقتصر الضغط على توجيه العملية التعليمية وجهة مؤدلجة فقط، بل ان ذلك تعدى لأن يوضع المعلم او المدرس او الأستاذ امام حكم العشيرة وتهور العائلة التي ترى وسيط العلم هذا سبباً في فشل ابنها او ابنتها في الدراسة .وهنا تفعل العصبية الجاهلية فعلها في مجتمع القرن الحادي والعشرين وما على المعلم او المدرس او الأستاذ إلا ان يتدبر امره ، إذ ان وزارته المحترمة جداً !!! لا دخل لها في الأمر، كما يتردد كثيراً في اوساط هذه الوزارة. طبعاً لا يمكن تعميم هذه الظاهرة إلا ان حدوثها فعلاً حتى وإن كان قليلاً يشكل وصمة عار في جبين الساسة القائمين على العملية التعليمية، عار لا يخفيه كوي الجباه او تسريح اللحى. لا ننكر ان بعض المعلمين او المدرسين او الأساتذة يستغلون هذا الإنفلات في العملية التعليمية فيسعون إلى الإثراء عبر الدروس الخاصة التي لا تستطيع اللجوء اليها إلا العوائل المتمكنة مادياً ،مما يؤدي إلى ترك المدرسة احياناً من قِبَل اطفال العوائل الفقيرة ليتجه الطفل او الشاب إلى العمل والمساهمة في توفير اسباب العيش لعائلته. ويحدث كل ذلك في بلد يتقاضى نوابه عشرات الملايين من الدنانير شهرياً وتحولت فيه الجامعات إلى جوامع.

   * ولأن العامل الثاني المتعلق باساليب وطرق وكيفية ومدة التعليم في المؤسسات التعليمية العراقية خارج عن كل المقاييس العالمية وقد إتخذ مسيرة تكاد تكون الوحيدة في العالم والتي تميزت بتغليب ايام العطل على ايام الدوام تقريباً. فيوم الدوام لأهم مرحلة من مراحل التعليم وهي المرحلة الإبتدائية يستمر في كثير من المدارس الكئيبة لثلاث ساعات وهي نصف المدة المطلوبة فعلاً ليوم دراسي كامل في هذه المرحلة. وتبعاً لذلك كان من اللزوم الغاء بعض الدروس في كثير من المدارس التي يشغلها الطلاب لوجبتين او ثلاث وجبات في اليوم كدروس الرياضة والفنون مثلاً . كما ان الإنقطاعات الرسمية وغير الرسمية في المؤسسات التعليمية العراقية لا مثيل لها في العالم اجمع. وحينما يُصار إلى التوجه لردم هذه الهوة في العملية التعليمية تقوم قائمة الجهلة الذين غالباً ما يربطون هذه العطل بالشعائر الدينية التي يقررونها هم ولا اهمية عندهم إن كان منفذ هذه الشعائر سيظل جاهلاً بامور دنياه بعيداً عن مواكبة التعلم،لابل قد يفضلونه كذلك في امة تدعي بانها قد بدأت ثقافتها بكلمة إقرأ.

   * ولأن المدارس العراقية البائسة تعاني من كل ما يشجع الطالب على دخول هذه المدارس التي يحاكي بعضها الخرائب القديمة التي لم تنلها يد الإصلاح منذ عقود. وصفوف هذه المدارس التي تعمل بالتناوب في بناية واحدة تضم اعداداً هائلة من الطلاب لا يمكن توجيهها وجهة علمية صحيحة. وحينما يتحدث احد رموز هذا النظام عن فشل حكوماته وحكومات احزابه الدينية ومن يقف معها من لصوص المحاصصات ، حينما يتحدث عن فشلهم في بناء المدارس، ينبغي هنا طرح السؤال المنطقي حول المليارات من الدولارات التي فقدتها الخزينة العراقية خلال سنين حكمهم البائسة ولماذا لم يجري صرف عشر معشار هذه المبالغ الطائلة على اهم مفصل من مفاصل بناء الإنسان في وطننا؟

   حكومات كهذه وأحزاب كهذه التي تسلطت على انسان وخيرات العراق لا يمكن وصفها إلا بالفشل، والفشل الذريع الذي لا يمكن لكل من يحمل قطرة الخجل بعد إلا ان يتنحى حفاظاً على هذه القطرة. إلا ان احزاب الإسلام السياسي الحاكمة وكل من يسير في ركابها من عبيد الكراسي، لم تفقد قطرة الخجل هذه فقط، بل انها فقدت روح المواطنة التي استعاضت عنها بهوياتها الأخرى التي وضعت الوطن واجياله القادمة خلف ظهورها غير آبهة لما قد يحل في هذا الوطن جراء سياساتها العقيمة وفسادها المُخزي.

   إن احتضار التعليم يعني اولاً واخيراً انتشار الفقر المعرفي وشيوع اللاأبالية في المجتمع وانعكاس ذلك على الكثير من مفاصل الحياة والسلم الإجتماعي.

   فالفقر المعرفي يؤدي إلى عدم احترام النظام وشيوع العشوائية في الحياة وفي العلاقات بين افراد المجتمع. وقد انعكس ذلك فعلاً فيما ذكرناه سابقاً من خلال تراجع قوانين الدولة امام التقاليد والأعراف العشائرية في عراق اليوم. كما ينعكس ذلك من خلال الحياة اليومية سواءً على شوارع المرور لمركبات النقل حيث يجري العراك على كسب المليمترات على الشارع مع كل ما يرافق ذلك من العصبية والتعامل الخشن في كثير من الحالات. او من خلال مراجعات المواطنين للمؤسسات الرسمية لإنجاز كثير من المعاملات، حيث الفوضى التي يخلقها المراجعون انفسهم حينما يريد كل منهم ان يكون هو ألاول في ايصال معاملته إلى الشباك الكئيب الذي يخفي خلفه موظفاً قد يتثائب احياناً او يداعب هاتفه النقال او يتحدث مع زميله بنكتة عابرة او.... أو ...كما ينعكس الفقر المعرفي هذا على علاقة الناس بالنظافة خاصة فيما يتعلق بالشوارع والساحات العامة. السلوك السائد في مجتمعنا اليوم ينطلق من مقولة " خارج بيتي لا يعنيني " مما يسبب انتشار المزابل في الشوارع العامة والناتج عن رمي كل ما في اليد وانتفت الحاجة منه على الشارع بغض النظر عما يسببه ذلك من تشويه لجمالية الشارع او المكان العام . كما وينعكس احتضار التعليم وانتشار الجهل والفقر المعرفي على استعداد الناس على تقبل الأفكار الخرافية التي ينشط في نشرها اليوم كثير من اولئك الذين اتخذوا من الدين تجارة لهم ومورد ارتزاق لا يبالي واحدهم بما ينشره بين الناس من فكر متخلف لا يستطيع الإنسان الذي لا يعي ماهية ذلك ان يقاومه او يقاوم إغراءاته خاصة فيما يتعلق بالأمور الصحية او الأمل بتحقيق رغبة ما في الحياة. وانتشار الخرافة في مجتمع من المجتمعات ينتقل بهذا المجتمع إلى غياهب التخلف البعيد عن اية علاقة بالمجتمعات الحديثة التي ينبغي للمجتمع العراقي ان يتواصل معها ويتلاقح مع ثقافاتها.

   مظاهر الإحتضار في نظام الدعوة إلى انتظار الفرج وزوال الغمة عن هذه الأمة بالتوسلات الغير مرتبطة بالعمل الجدي للتغيير، كثيرة جداً وخطيرة جداً ايضاً إذا لم يجر العمل لتحويل هذا الإنتظار السلبي إلى فعل يؤدي إلى زوال المسببين والمسببات لهذا التدهور الذي يشهده العراق وشعبه على مختلف المستويات وعلى جميع الصُعد. فماذا نحن فاعلون من اجل ذلك؟ هل سنسعى حقاً إلى نفض غبار الإنتظار عن كواهلنا ونسعى إلى التعجيل باحتضار نظام المحاصصات اللصوصية ورواده الأوباش سارقي قوت الشعب ؟ أجيالنا القادمة تطالبنا بذلك، تطالبنا ان لا نورثها ما نحن فيه الآن، وإلا فقد حلَّت علينا نقمة التاريخ.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 28-04-2017     عدد القراء :  3465       عدد التعليقات : 0