الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
مصر دولة وليست قبيلة

ولأن الرسول أقام ديناً ولم يقم دولة، فقد توسع فى سلطة الفرد فى الإصلاح والتقويم، كما كانت القبيلة قبل الإسلام تتوسع مع أفرادها وبطونها، ولقد حافظ الرسول على أركان القبيلة ونظامها، فأبقى على نظام الرق وملك اليمين للضرورة، وعلى الحدود التى كان معمولاً بها فى مكة قبل الرسالة كتشريع مرحلى، ومنها حد قطع يد السارق، وحد الحرابة. وأبقى كذلك على طقوس الحج كاملة، وكان مصدراً للدخل والمعايش، وظل محافظاً وداعماً لركائز القبيلة من الناحية السياسية والاجتماعية، فهو النظام السائد والمتاح، ولم يكن معلوماً من أنظمة الحكم فى مكة غيره. (هذا عن القبيلة أما عن الناس).. لما كان الخطاب للناس «يا أيها الناس» أو «يا معشر الناس»، وكان يقصد به جمع من الناس فى القبيلة، وليس كل الناس أو البشرية كلها، وهو المفهوم السائد عند مخاطبة الناس قديماً أو حديثاً، فتستطيع أن تخاطب مجموعة صغيرة من الناس بصيغة الجمع «يا أيها الناس» ويكون قصدك من الناس فى حدود من يسمعك منهم، أو من يجاورهم فقط، وكان هذا ما يقصده الرسول حين أعطى للفرد أو الناس فى القبيلة حق إصلاح أمورها، أو وكلهم فى تقويم المعوج منها، أو منحهم سلطة تغيير المنكر باليد أولاً، أو باللسان أو بالقلب إذا كان غير قادر على الأولى. وكذلك فإن إشراك الفرد فى إقامة الحدود، وجعله عليها شهيداً ورقيباً، وكان معمولاً به قبل الإسلام، فقد كان محكوماً بأعداد الناس، ومقيداً بهيمنة وسلطان زعيم القبيلة، الذى كان يرى ويلاحظ ويراقب هؤلاء الذين يصلحون ويقيمون أمور الناس، فهم تحت عينه فرداً فرداً، فيعطى الحق فى هذا لمن يشاء، ويحجب هذا السلطان عمن يشاء، كل هذا دليل على سلطة الفرد فى القبيلة وليس فى الدولة. (هذا عن الناس، أما عن الدولة).. فإن هذا التوكيل والتكليف للفرد فوق سلطة الدولة والقانون يعظم دور الفرد فى ذاته، ويستعلى به على غيره من خلق الله، ويستقوى به على الضعفاء والأقليات، ويمنحه، دون حق، سلطة غيره فى الحكم، وفى الفرز وفى التنفيذ دون تفويض أو تأهيل، ويلغى تماماً سلطة المؤهل والمعين من قبَل الحاكم لهذا الأمر، فيكون هو القاضى والسجان، والحكم والسلطان، والقانون وسيفه، والحقيقة الوحيدة المطلقة التى يحاسب على غيرها بنى البشر، هذا الخطأ فى انتقال سلطة الفرد فى القبيلة إلى سلطته فى الدولة يدفع الأمر إلى صراع لا يستقيم مع بناء الأمم، وذلك لوجود أديان أخرى للمقيمين والزائرين، وكذلك لاحتكام الجميع إلى قانون واحد ارتضوه ووافقوا عليه، فما هو حرام وواجب قد يكون ملزماً فى دين وغير ملزم فى آخر، وما هو مكروه فى دين قد يكون مستحباً فى آخر، والعواقب فى هذا غير محمودة..

فإذا كانت دولة عصرية يحكمها قانون ودستور، حدد فيه المنكر والجريمة، وسن وشرع العقوبة المقررة، وأعفى غيرها من العقاب، يخرج علينا من يمسك مقصاً ليقص شعر البنات فى وسائل المواصلات على أنه منكر، وتقويم أمرها قص شعرها عنوة، أو يخرج علينا من يقيم حد قطع يد السارق لمن سرق تليفونه المحمول دون تحقيق، أو يخرج علينا من يذبح مسيحياً بحجة بيعه الخمور على أنه قد خالف منهجه وشريعته، وهو حاصل على ترخيص من الدولة، ولن نعدد ما نراه ونسمعه وهو أكثر بكثير مما نظن وما هو معلن، نكون قد عدنا إلى زمن القبيلة، وإلى فوضى التكليف والتوكيل مع اختلاف وتعدد الأديان، وعدم الاتفاق على المكروه والمنكر والمستحب والجائز، وتناقض المصالح واتفاقها، وقوة وغلبة دين على الآخر، واستقواء دين بالخارج واستضعاف آخر لا سند له ولا معين.

فيميل الكيل والميزان لصالح هذا على حساب ذاك، وتضيع حقوق الناس، وينتشر الظلم وتعم الفوضى، ويصبح من جاء لتغيير منكر واحد قد تركها كلها منكرات..

وأخيراً إذا سمحت الدولة وتغافلت عن هذه الفوضى، وعن سلوك القبيلة فستكون العواقب وخيمة، فليس الأمر مقصوراً على الافتئات على القانون، بل يتعداه إلى تحويل الدولة إلى قبائل متصارعة ليس على أساس عرقى، بل على أساس دينى، ومن يظن أن له الغلبة فهو غافل عن حقيقة تاريخية وهى ثورات المقهورين والمغلوبين، فإذا أضفنا لهذا نظرة العالم لقانون القبيلة الحاكم، والتعدى على حقوق الغير يصبح العزل والتهميش ومحاربة القبيلة فى المحافل الدولية أمراً مباحاً ومقبولاً للحفاظ على حقوق الآخرين، وهو ملزم فى القانون والأعراف الدولية..

ليس لدينا حل سوى عودة الدولة حاكماً للجميع وعلى الجميع، وسلطة القانون فوق سلطة القبيلة، وقوة تطبيق القانون تسبق تغيير المنكر بيد الخارجين على القانون، وتنحية فكر القبيلة جانباً ومن يؤيدون هذا الفكر، والوقوف مع المواطن ومؤازرته ضد قوى الظلم والفوضى والتخلف، ونصرة الحق والعدل، ووقف تهور الأغلبية ضد الأقلية، التى تعتمد على منطق دينى، فكل الدول التى تقوم على أساس القبيلة أو الدين باءت بالفشل، فصراع الأديان مدمر، حتى فى الدين الواحد، وليس لنا سوى مدنية الدولة حافظة لكل الأديان وراعية لحقوق الجميع أغلبية وأغلبية، فليس فى الدولة المدنية أقلية..

adelnoman52@yahoo.com

"الوطن" المصرية

  كتب بتأريخ :  الجمعة 12-05-2017     عدد القراء :  2865       عدد التعليقات : 0