الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الموقف من حق تقرير المصير والاستفتاء بإقليم كردستان العراق

منذ عقود والحزب الشيوعي العراقي والكثير من القوى الديمقراطية والتقدمية اليسارية، وكثرة من الأوساط الثقافية العراقية، كانت وما تزال وستبقى إلى جانب حق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه دون وصاية من أحد. هذا هو مبدأ أساسي من مبادئ حق الشعوب الحرة في تقرير مصيرها، وليس هناك من له الحق في التشكيك بهذا الحق، إلا إذ كان يتخذ موقفاً قومياً شوفينيا أو دينياً مناوئاً ينطلق من الموقع القائل بالأمة الإسلامية، في حين إن الدول التي تدعي إنها دول مسلمة، برهنت على إنها الأكثر قومية وشوفينية من غيرها، والمثال الساطع على ذلك إيران وتركيا والسعودية، أو حتى دول المغرب الأفريقي في موقفهم الرافض للاعتراف بوجود شعب أمازيغي وبحقوقه المشروعة والعادلة.

لقد تبنيت مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها منذ انضمامي إلى الحزب الشيوعي العراق في أوائل الخمسينات من القرن الماضي وفي العهد الملكي، واستمرار اعترافي واحترامي لهذا المبدأ في أحلك الظروف القاسية جداً في فترة الحكم البعث الدكتاتوري. وقد عبر عن ذلك بوضوح كبير القائد الكردي الديمقراطي المميز والصديق الغالي الطيب الذكر الأستاذ جوهر نامق (1946 – 2011م) حين تحدث في العام 2002 في المؤتمر الأكاديمي الأول لعمليات الأنفال في إقليم كردستان العراق، الذي عقد بأربيل وبرعاية الحكومة الكردستانية، في إجابته لمن شكك في موقفي من القضية الكردية، بسبب بحث قدمته في ذلك المؤتمر وتحدثت عن المضمون الفاشي والعنصري لـ "عمليات الأنفال" الإجرامية، عمليات جريمة "الإبادة الجماعية" التي ارتكبها حكم البعث والحزب الحاكم ومن معه بحق شعب كردستان العراق، تلك العمليات التي تكثفت بشكل خاص في العام 1988، إذ قال ما يلي: أن "أستاذي الدكتور كاظم حبيب، وكان الأخ جوهر طالباً في قسم الاقتصاد في الجامعة المستنصرية حينذاك، كان يتحدث عن كردستان وليس عن شمال العراق في العام 1970، حين كان الآخرون لا يجرؤون على ذلك ويتحدثون عن شمال العراق، وكان يقف مع حق الشعب الكردي في تقرير مصيره". وفي رسالة موجهة لي ومؤرخة في 03/11/2004 كتب جوهر نامق سالم ما يلي: "من كان في تلك الحقبة وفي عراق صدام حسين (1968-1972) وهي فترة دراستي في قسم الاقتصاد بكلية الإدارة والاقتصاد بجامعة المستنصرية، يجرأ أن يذكر في محاضراته وبحوثه الأكاديمية العلمية أن يكتب ويلفظ شمال العراق بكوردستان والكورد بالشعب الكوردي، وأن يربي طلابه على أسس علمية تقدمية واضحة المعاني والأهداف.". ثم كتب يقول: كيف ننسى موقفكم يوم كنت عضواً مشرفاً على الانتخابات الطلابية في كلية الإدارة والاقتصادي بجامعة المستنصرية وكنا مرشحين ضمن الجبهة الطلابية بارتياً وشيوعياً وحركة اشتراكية وناصريين، أمام الاتحاد الوطني عام 1969، خاصة أثناء فرز الأصوات تشد أزرنا وتهدئ اندفاعنا وتحسم كمشرف الخلاف دون مراعاة لممثلي السلطة واتحاد البوليسي، وكيف ننسى وأنت تشارك معنا في الأغاني والبستات الشعبية الوطنية في سفراتنا العلمية إلى تعاونيات الطارمية في وقته...". (رسائل متبادلة بين كاظم حبيب والأستاذ جوهر نامق سالم موجودة في أرشيف كاظم حبيب).      

في العام 2001 أنجزت كتاباً بعنوان "لمحات من نضال حركة التحرر الوطني للشعب الكردي في كردستان العراق"، وتأخر نشره حتى عام 2005، وطبعة ثانية في العام 2010، وضعت في الكتاب رؤيتي للقضية الكردية وحق الشعب الكردي في تقرير مصيره ومعاناته في ظل الحكومات العراقية المتعاقبة، إضافة إلى كتابي الأقدم الذي أنجزته في العام 1984، حين كنت في حركة الأنصار الشيوعيين المرتبطة بالحزب الشيوعي العراقي، بعنوان "الفاشية التابعة في العراق". وقد نشر الكتاب عن الإعلام المركزي للحزب الشيوعي العراقي حينذاك، ثم طُبع ثانية في العام 2008 مع مقدمة ضافية جديدة للكتاب، أوضحت في هذا الكتاب أيضاً موقفي من الحركة التحررية الكردية أو "الكردياتية"، وهي رؤية تتعارض وتصطدم مع رؤية ونهج وسياسات حزب البعث الحاكم حينذاك ومع كل القوى القومية الشوفينية التي ترفض الاعتراف بحق تقرير المصير، وليس كل القوميين الديمقراطيين الذين يعترفون بهذا الحق وهم مستعدون لتأييده.

فموقفي من القضية الكردية وحق تقرير المصير ليس بجديد، ولا بدعة، وهو جزء من تاريخي السياسي في الحزب الشيوعي العراق وفي الحركة الديمقراطية العراقية وفي حركة الأنصار الشيوعيين، وكذلك في النضال اليومي حتى الآن، وسيبقى كذلك. ولم يكن هذا الموقف من القضية الكردية معزولاً عن موقف الحركة الشيوعية والحركة الديمقراطية بالعراق من النضال المشترك للشعبين العربي والكردي وبقية القوميات من أجل الديمقراطية للعراق وحق تقرير المصير للشعب الكردي وفي جميع الفترات المنصرمة حتى العام 1992 وبشعارات متنوعة.

في العام 1992 تعرض التحالف السياسي في الجبهة الكردستانية إلى بعض المصاعب، وجرى تخلي عن الجبهة فيما بعد، علماً بأن الحزب الشيوعي العراقي كان قد اقترح في سياساته ومواقفه موضوع الفيدرالية الكردستانية وأيد قيامها، إذ تراجع هذا التحالف الديمقراطي مع الحزب الشيوعي العراقي وأصيب بخلل اوضح بعد إسقاط الدكتاتورية الغاشمة في العام 2003 ودخول الأحزاب الكردستانية في تحالف مع الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية تحت واجهة المظلومية الكردية والشيعية، وجرى الابتعاد عن التحالف الاستراتيجي مع الحركة الديمقراطية العراقية ومع الحزب الشيوعي العراقي، رغم إن هذا التراجع لم يعلن عنه من جانب القوى الكردستانية ولكنه حصل فعلاً. ولم يكن سببه، أو من جانب، الحزب الشيوعي العراقي والحركة الديمقراطية العراقية، بل من جانب الأحزاب الكردستانية، ما عدا الحزب الشيوعي الكردستاني. وهنا أود تأكيد أني أعبر عن وجهة نظري وليس عن رؤية أو موقف الحزب الشيوعي العراقي، ولم اتجنب الإشارة الواضحة والصادقة إلى هذه الحقيقة في صلاتي وعلاقاتي ولقاءاتي مع الأخوة المسؤولين في الأحزاب الكردستانية بصورة شخصية(منفرداً) أو ضمن رسائل شخصية وأخرى عبر التجمع العربي لنصرة القضية الكردية المنشورة وغير المنشورة، وعبر وفد ضم عراقيين وعرب وكرد، فيه وجهت نداء وتأكيداً بأهمية العودة إلى التحالف الاستراتيجي بين الحركة الديمقراطية العراقية، وفي طليعتها الحزب الشيوعي العراقي وقوى يسارية وديمقراطية أخرى، وحركة التحرر الوطني الكردستانية بإقليم كردستان العراق. وكانت الحجة التي تطرح عن هذا التراجع التحالفي تشير إلى ضعف الحركة الديمقراطية العراقية. وهي حجة لا تصمد في النضال بين القوى الحليفة استراتيجياً، إذ من واجب الذي يشعر بالقوة أن يساعد في إنهاض وتقوية الذي يعتقد بكونه ضعيفاً، علماً بأن الجميع كان وربما ما يزال يحسب ضمن القوى الديمقراطية على الصعيد العراقي كله. الحركة الديمقراطية العراقية بحاجة إلى الأحزاب الكردستانية لأنها تشكل من حيث المبدأ ضمانة ضد وقوع العراق فريسة للقوى الإسلامية السياسية التي حكمت العراق معها طيلة السنوات المنصرمة، وكانت سنوات عجاف وجدب ومرارة، وضد إقامة دولة ثيوقراطية.  

الحركة الديمقراطية العراقية لم تخف مرارتها من هذا الموقف ولم تتقبله، ولكن لا يمكن إجبار حليف استراتيجي على العودة إلى التحالف ما لم يقتنع بضروراته، إذ أن "حلفاء" الكرد الجدد ليسوا بـ "حلفاء" استراتيجيين حقيقيين، بل هم حلفاء إسلاميون شيعيون تكتيكيون، كما هو موقفهم من الديمقراطية، فهي بالنسبة لهم أداة وليست فلسفة واستراتيج لبناء العراق الجديد.

يفترض أن تقدر الأحزاب والقوى السياسية الكردستانية الظروف التي تمر بها الحركة الديمقراطية العراقية، وعموم الشعب العراقي بكل قومياته، والمصاعب التي تواجه الجميع في ظل وجود نظام طائفي سياسي محاصصي غير ديمقراطي من جهة، يشارك فيه الكرد ويتحملون جزءاً من أوزاره، وأن الصراع الذي نشب بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان على مدى الفترة المنصرمة قد جعلت الكثير من القوى والعناصر العراقية العربية التي كانت بجانب الشعب الكردي أن تتخلى عنه، وهي لم تكن وليست هي الأن ضد الشعب الكردي، ولكنها لا ترى صواب سياسات حكومة إقليم كردستان في الكثير من القضايا، وهي ترفض أيضاً السياسات التي مارسها المالكي قبل ذاك إزاء الشعب الكردي، ولا حتى العلاقات غير الودية والأساليب المتبعة حالياً من جهة ثانية. كما إن الموقف الإقليمي والدولي، الذي تبلور أخيراً، بسياسات غير ودية أو منافقة، وفي جوهرها مناهضة، للشعب الكردي وقضيته العادلة من جهة ثالثة. وكذلك فأن البيت الكردي ذاته متضعضع وغير موحد وقابل للتفاقم وكذلك الشكوى من تراجع في الحريات العامة من جهة رابعة. إضافة إلى ذلك استمرار الحرب بين عصابات داعش والقوات العسكرية الاتحادية وقوات الپيشمرگة الكردستانية والمتطوعين من جهة خامسة، ومن ثم وجود مناطق متنازع عليها يمكن أن تتفجر الصراعات والنزاعات الدموية فيها من جهة سادسة. يُفترض في كل هذا أن يدفع الأخوة قادة الأحزاب والقوى الكردستانية وحكومة إقليم كردستان أن تفكر بكل ذلك وتدرسه جيداً وتستخلص الاستنتاجات الضرورية لكي تقرر بعدها: هل عليها استفتاء الشعب الكردي على الاستقلال، والشعب الكردي لا يحتاج إلى استفتاء، فهذا حقه ومن حقه إعلانه متى يشاء، وإذا وجد الان الأمر ممكنا فليعلن الاستقلال دون استفتاء. ولكن الشعب الكردي والقيادات الكردستانية والحكومة الكردستانية ترى كلها، كما أرى وأسمع، بإن الوقت غير مناسب لإعلان الاستقلال، وربما بعد سنة أو سنتين، وبالتالي فالسؤال المنطقي هو: ما فائدة الاستفتاء في هذا الظرف المعقد الذي تمر به كل القوميات في العراق؟ إذا كان أمر الاستقلال سيؤجل لفترة أخرى فليكن الاستفتاء إن وُجد ضرورياً قبل إعلان الاستقلال.

لم تكن النظم السياسية العراقية كلها ولا الحكومات التي أقيمت في العهد الملكي، ولا العهود الخمسة للجمهوريات العراقية، منصفة وعادلة مع الشعب الكردي ومع القوميات الأخرى، بل كانت جائرة ومستبدة مع الشعب العراقي كله، ولاسيما مع الكرد. فكان التمييز والتهميش في صلب علاقة الحكومات العراقية المتعاقبة مع الشعب الكردي. لا يمكن لأي إنسان عاقل أن ينكر ذلك. ولكن رد الفعل يفترض أن يكون في ظرف أكثر هدوءاً وأكثر مناسباً لمفاوضات مع حكومة أكثر ديمقراطية وواقعية من الوضع الراهن، كما يفترض أن يتجلى في سياسات ومواقف أخرى من جانب الحكومة الكردستانية بهدف تمتين الصف الديمقراطي الداخلي.

لا يمكن أن يكون الإنسان حراً ما لم يعترف بحق الإنسان الآخر في التمتع بالحرية الكاملة غير المنقوصة، وبالتالي أدرك تماماً، كإنسان حر وديمقراطي ومادي المنهج والنهج، بأن الشعب الكردي يحلم منذ قرون وعقود ويتطلع للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في دولة كردستانية ديمقراطية حرة ومستقلة. وقد ناضل بعناد واستمرارية من أجل هذا الهدف، ومن حقه أن يناضل بعزيمة مضاعفة من أجل ذلك. والسؤال هو: هل حان القوت المناسب لمثل هذه الخطوة؟ أشعر، كصديق للشعب الكردي وناضل معه في سبيل الديمقراطية للعراق وحق تقرير المصير للشعب الكردي، إن الوقت لم يحن تماماً لمثل هذه الخطوة، بل أشعر بأن العودة إلى استراتيجية التحالف مع القوى الديمقراطية العراقية في رفض قانون انتخابات مجالس المحافظات والأقضية السيئ لا تأييده، ورفض تشكيل مفوضية الانتخابات على أسس المحاصصة الطائفية، والسعي لتجميع القوى الديمقراطية في مواجهة القوى الظلامية، هو الطريق الوحيد والأسلم والأضمن الذي يمهد الطريق لتحقيق ما يتطلع له الشعب العراقي عموماً، وطموحات وتطلعات الشعب الكردي في الاستقلال والسيادة الوطنية خصوصاً. إنها الخطوة الأساسية والضرورية والوحيدة للوصول إلى الهدف المنشود للشعب الكردي وقواه الوطنية. لقد فكرت ملياً بالأمر لا من منطلق قومي شوفيني ولا من منطلق وطني عراقي ضيق، بل من منطلق مصلحة الشعب الكردي في المرحلة الراهنة ومصلحة الشعب العراقي بكل قومياته عموماً، وقد بينت رأيي في مقال سابق، ووجدت بأن من يقف إلى جانب قضية الشعب الكردي، يفترض فيه أن يترك التقدير النهائي للشعب الكردي ذاته، وبالتالي فالأمر متروك للشعب الكردستاني في ما يراه مناسباً في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق وأوضاعه المعقدة. أتمنى عليهم أن يتخذوا الموقف الذي يجنب الشعب الكردي وبقية أبناء وبنات العراق المزيد من المصاعب، وهذا لا يعني أن عليه ألَّا يبدي رأيه بذلك!

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 23-08-2017     عدد القراء :  2940       عدد التعليقات : 0