الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
مصر طه حسين وعلى عبدالرازق ستعود (4)

ولقد ظن قوم أن هذه القراءات السبع للقرآن «لغات» متواترة ومنقولة عن النبى ومنكرها كافر، ولم يكن الأمر كذلك، فالقرآن تُلى بلغة واحدة هى لغة قريش ولهجتها، ولكن تعدد القراءات كان سببه تعدد اللهجات بين القبائل، ولم يكن لدى هؤلاء القوم دليل شرعى على كفر هؤلاء كما ادعوا وزعموا، والحق ليست هذه القراءات السبع من الوحى، وليس منكرها كافرا أو فاسقا، وليست هذه القراءات هى أحرف سبعة نزل عليها القرآن، فالأحرف جمع حرف، والحرف يعنى اللغة، فمعنى أن القرآن نزل على سبعة أحرف أى أنه نزل على سبع لغات، ولم يكن الأمر كذلك، بل نزل على حرف واحد (لغة) قريش، ولما اشتد الخلاف فى هذه القراءات، ولاسيما بعد الفتوحات الإسلامية والغزوات، واختلف الناس والقراء، دعا الخليفة عثمان إلى جمع المصحف الإمام، وأمر بحرق ماعداه من المصاحف الأخرى.

تاسع عشر: ولقد اتخذت القبائل بعد الإسلام للأدب لغة غير لغتها، أى أن الإسلام فرض على العرب جميعا لغة عامة واحدة هى لغة قريش، فليس غريبا أن تتقيد هذه القبائل بهذه اللغة الجديدة وشعرها ونثرها، وعدلوا فى لغتهم الأدبية عما كانت تمتاز به لغتهم الخاصة إلى لغة القرآن ولهجتها، ولنأخذ مثالين: الأول فى فرنسا، إلى جانب اللغة الفرنسية لغات إقليمية لها نحوها وقوامها الخاص ولها شعرها، فإذا أراد أصحاب الأقاليم أن يظهروا آثارا أدبية أو علمية يعدلون لغتهم الإقليمية إلى اللغة الفرنسية. والمثال الثانى: لغتنا المصرية لهجات مختلفة، مصر الوسطى لها لهجتها، والعليا لها لهجتها، والقاهرة لها لهجتها، لكننا حين ننظم الشعر أو نكتب النثر أو آثارا أدبية أو علمية نعدل عن لهجتنا الإقليمية إلى لغة قريش، وهى لغة القرآن.

عشرون: كيف فرض الإسلام لغة قريش على العرب؟ ومتى صدر هذا المرسوم بفرض اللغة؟ وكيف فهمها الناس واستوعبوها دفعة واحدة؟. حقيقة الأمر أن الإسلام لم يفرض لغة القرآن دفعة واحدة، بل إن لغة قريش، وهى اللغة التى نزل بها القرآن، كانت قريش أصلا قد فرضتها على من جاورها، ونحن إذ فكرنا عرفنا أن سيادة اللغات إنما تتصل عادة بالسيادة السياسة والاقتصادية، فقد كان مقدار عظيم من التجارة فى يد قريش، وكان السلطان السياسى أيضا يعتز بسلطان اقتصادى عظيم مصدره الكعبة التى كان يحج لها أهل الحجاز وغيرهم، وأخلق بمن تجتمع له هذه السلطات أن يفرض لغته على من حوله، وإن كان حول مكة لغات مختلفة، لكن هذه البيئة على ثروتها وقوتها لم تكن كما كانت قريشا فيما كان لها من سلطان يفرض لغتها فرضا، ولا يعتمد على السيف لكن يعتمد على المنفعة وتبادل الحاجات.

أسباب نحل الشعر «مختلق ومنسوب». أولا: ليس نحل الشعر مقصورا على العرب. لو درس الأقدمون تاريخ الأمم القديمة (اليونانية والرومانية) وقارنوا بين تاريخهم وتاريخ هاتين الأمتين لتغير فى الأمر الكثير، فقد قدر لهاتين الأمتين مثل ما قدر للأمة العربية بعدهما بزمن، كلتاهما أحضرت بعد بداوة، وكلتاهما خضعت فى حياتها الداخلية لهذه الظروف السياسية المختلفة، وكلتاهما دفعها تكوينها السياسى إلى تجاوز حدودها، فتُغير على البلاد المجاورة، وتبسط سلطانها على الأرض، ونفعت وانتفعت، وتركت تراثا إنسانيا عظيما، وكذلك كان حال العرب، تحضرت بعد بداوة، وانتهى بها تكوينها السياسى إلى مثل ما انتهى تكوين اليونان والرومان السياسى أيضا، فغارت على البلاد المجاورة وبسطت سلطانها على ما شاءت من أرض الله، فلن تكون الأمة العربية أول أمة نحل شعرها، وحمل على قدمائها كذبا وزورا، وإنما نحل الشعر فى الأمة اليونانية والأمة الرومانية من قبل، وحمل على القدماء من شعرائها وانخدع الناس وآمنوا به.

ثانيا: السياسة ونحل الشعر: لا سبيل إلى فهم التاريخ الإسلامى إلا إذا وضحنا مسألة «الدين والسياسة» توضيحا كافيا، فهم مسلمون لم يظهروا للعالم إلا بالإسلام، فهم محتاجون إلى أن يهتموا بهذا الإسلام ويرضوه، ويجدون فى اتصالهم به ما يضمن لهم هذا الظهور وهذا السلطان الذى يحرصون عليه، وهم فى الوقت نفسه أهل عصبية وأصحاب مطامع ومنافع، وهم مضطرون لأن يراعوا هذه العصبية ويلائموا بينها وبين منافعهم ومطامعهم الدينية والدنيوية، فكل حركة من حركاتهم وكل مظهر من مظاهر حياتهم متأثر بالدين، متأثر بالسياسة (مطامعهم). وأول ما يحسن أن نلاحظ هذا الجهاد العنيف بين النبى وأصحابه من ناحية، وبين قريش وأوليائها من ناحية أخرى، فأما أول العهد بالإسلام فقد كان النبى فى مكة وأصحابه مستضعفين، وكان الجهاد جدليا «مجادلة» وكاد النبى أن يقوم به وحده، يجادلهم بالقرآن، ويقارعهم بالآيات، وهو كلما بلغ من ذلك حظا، انتصر له من قومه فريق، حتى تكوّن له حزب ذو خطر، لكنه لم يكن حزبا سياسيا، ولم يكن يطمع فى ملك، ولم يكن ذلك فى دعوته، غير أن هذا الحزب كلما اشتدت قوته وقوى أسره اشتدت مناضلة قريش له، حتى كان السبيل الفرار والهجرة إلى المدينة، وقد وضعت هذه الهجرة مسألة الخلاف بين النبى وقريش وضعا جديدا، جعلت الخلاف سياسيا يعتمد على القوة والسيف، بعد أن كان دينا يعتمد على الجدل والنضال بالحجة ليس غير!.

adelnoman52@yahoo.com

"المصري اليوم"  القاهرية

مصر طه حسين وعلى عبدالرازق ستعود (3)

07/12/2017 - 05:51

مصر طه حسين وعلى عبدالرازق ستعود «2»

29/11/2017 - 23:04

مصر طه حسين وعلى عبدالرازق ستعود (1)

16/11/2017 - 05:43

  كتب بتأريخ :  الخميس 14-12-2017     عدد القراء :  2628       عدد التعليقات : 0