الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
مصر طه حسين وعلى عبدالرازق ستعود (5)

نذكر بآخر ما كان فى المقال السابق، عن كتاب فى الشعر الجاهلى للدكتور طه حسين (ولقد وضعت هجرة النبى وصحبه للمدينة مسألة الخلاف بينه وبين قريش وضعا جديدا، أن جعلت الخلاف سياسيا يعتمد على القوة والسيف، بعد أن كان دينيا يعتمد على الجدل والنضال بالحجة ليس غير).

ثالثا: ليس من شك أن الجهاد بين قريش والنبى كان دينيا خالصا ما أقام النبى فى مكة، فلما انتقل النبى إلى المدينة أصبح الجهاد دينيا وسياسيا واقتصاديا، وأصبح موضوع النزاع بينهما ليس مقصورا على الإسلام حق أو غير حق، بل وتجاوز الأوثان والآراء الموروثة، إلى خطر السيادة على الحجاز وطرق القوافل التجارية.

رابعا: ما يعنينا فى الأمر أن هذا الجهاد قد استحدث عداوة بين مكة والمدينة، أو بين قريش والأنصار، لم تكن موجودة من قبل، فقد كانت صلات المودة والقربى قوية قبل الهجرة بين قريش فى مكة والأوس والخزرج فى المدينة، ولقد اصطبغت بالدم يوم انتصار الأنصار فى بدر، ويوم انتصار قريش فى أحد، وقد اشترك الشعر فى هذه العداوة، يدافع كل فريق عن أحسابه وأنسابه، ويشيد بذكر قومه والعكس على الآخر، فقد كان شعراء الأنصار يهجون قريشا وبينهم مهاجرون من قريش، وكان شعراء قريش يهجون الأنصار وأصحابه معهم وهم من خلاصة قريش أيضا، وكان النبى يحرض عليه، ويثبت أصحابه ويقدمهم ويعدهم مثل ما يعد المقاتلين بالأجر والمثوبة، ويتحدث «أن جبريل كان يؤيد حسّانا» شاعر النبى حسان بن ثابت.

خامسا: ولقد مضت قريش فى جهادها بالسنان واللسان والأنفس والأموال، ولم تنتصر، حتى أمست ذات يوم إذا خيل النبى قد أظلت مكة، فنظر زعيمها أبوسفيان فإذا هو بين أمرين: إما أن يمضى فى المقاومة وتفنى مكة، وإما أن يصالح ويدخل فى الدين الجديد الذى دخل الناس فيه، وينتظر لعل سلطان السياسة والحكم يعود إلى مكة مرة أخرى فيتلقفه هو أو أحد أحفاده، فأسلم ومعه قريش، وتمت الوحدة للنبى، وأصبح الناس فى ظاهر الأمر إخوانا، ولأن النبى توفى بعد فتح مكة بقليل، فلم يوجه نفوس العرب وجهة أخرى، ولم يمح تلك الضغائن، ولم يضع قاعدة للخلافة ولا دستورا لهذه الأمة يجمعها بعد فرقة، فلا غرابة أن تعود هذه الضغائن إلى الظهور، وتستيقظ الفتنة من نومها، ويعود الصراع إلى سابق عهده، وكما كان فى الأجداد.

سادسا: وفى الحق فلم يكد النبى يدع الدنيا حتى احتدم الخلاف بين المهاجرين من قريش، والأنصار من الأوس والخزرج حول الخلافة أين تكون؟ ولمن تكون؟ لولا بقية من حزم قريش، فما كان إلا أذعن الأنصار، وقبلوا إمارة قريش، عدا سعد بن عبادة الذى أبى أن يبايع بابكر، وعمر من بعده، وأن يصلى صلاة المسلمين، وأن يحج حجهم، حتى قتل غيلة فى دمشق، لكن الخصومة والدماء التى سالت وسُفكت لم يكن لأحد أن ينساها.

سابعا: ليس من شك أن حزم عمر قد حال بين المهاجرين والأنصار وبين الفتنة، فقد نهى عمر عن رواية الشعر التى تهاجى به المسلمون والمشركون أيام النبى، فقد كانوا حراصا على روايته ويجدون فى ذلك اللذة والشماتة، ولما قتل عمر وآلت الخلافة بعده إلى عثمان بالمشورة، تقدمت الفكرة السياسية التى كانت تشغل أبا سفيان خطوات، فلم تصبح الخلافة فى قريش فحسب، بل أصبحت فى بنى أمية خاصة، واشتدت عصبية قريش وعصبية بنى أمية، وأخذ العرب يفرغ بعضهم لبعض، وعاد العرب إلى شر ما كانوا عليه فى جاهليتهم، وتنافس الشعراء عند معاوية ويزيد، وعادت العصبية القديمة إلى الصدارة، وكان يزيد بن معاوية صورة صادقة لجده أبوسفيان بن حرب، الذى كان يؤثر العصبية فى كل شىء، وكانت واقعة الحرة التى انتهك فيها حرمات أنصار المدينة دليلنا على ذلك.

ثامنا: هذه العصبية بين قريش والأنصار لم يكن لها تأثير بينهما أيام بنى أمية، أو بين المدينة ودمشق فقط، بل وصلت إلى مصر وافريقيا والأندلس، وكان لها تأثير بالغ فى الشعر الذى قالوه بعد الإسلام بين الفريقين، وفى الشعر الذى نحله الفريقان لشعرائهما فى الجاهلية، فهذا الجهاد العنيف كانت تحرص كل واحدة منهما أن يكون قديمها فى الجاهلية خير قديم، وأن يكون مجدها فى الجاهلية خير مجد، ولقد شملت هذه العصبية كل العرب، فتعصبت العدنانية على اليمنية، وتعصبت مضر على بقية عدنان، وتعصبت ربيعة على مضر، وانقسمت ربيعة فكانت عصبية تغلب وعصبية بكر، وتشعبت هذه العصبيات وتفرعت وتمددت حسب الظروف السياسية والإقليمية، حتى كانت هذه العصبية هى التى أزالت حكم بنى أمية.

تاسعا: ولأن العرب لم تكتب شعرها فى الجاهلية، إنما كانت ترويه وتحفظه، فلما كان فى الإسلام من حروب الردة والفتوحات، وقتل من قتل من الرواة والحفظة والنساخ فقد ضاع من الشعر الكثير، فنسبوا إلى شعراء الجاهلية ما لم يقولوه، وكانت قريش أقل العرب شعرا فى الجاهلية فاضطرها أن تكون أكثر العرب نحلا للشعر فى الإسلام.

نخلص أن هذه القضية وما يتصل بها من منافع كانت أهم الأسباب التى حملت العرب على نحل الشعر للجاهليين، أضف أننا حين نقرأ شعرا جاهليا فيه من العصبية، أو تأييد فريق على فريق، نضطر إلى الشك فى صحته، وأنه منحول ومختلق بعد الإسلام.

adelnoman52@yahoo.com

"المصري اليوم" القاهرية

  كتب بتأريخ :  الخميس 21-12-2017     عدد القراء :  2625       عدد التعليقات : 0