الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
هانلاقيها منين ولَّا منين

الكاتب أو المثقف أو صاحب الفكر التنويري، أصبح أقل الناس أمناً وأماناً، وسلامة وطمأنينة، فلا يثاب إلا مرة واحدة إذا أصاب، لكنه يعاقب مرتين أو أكثر إذا أخطأ، فلا يُكتفى بحبسه فقط في قضايا الرأي، مخالفين في ذلك الدستور الذى يحظر الحبس في قضايا النشر، بل يلحق به تشويه وتشنيع وتلويث سمعته وسمعة كل من يمت له بصلة، بل يطارد في لقمة عيشه وعيش أولاده، فهذا أولاً سيف الازدراء مسلط على رقبته إذا تحدث في الدين، أو اجتهد، أو قال رأياً مخالفاً للسلف، أو فسر تفسيراً يساير العصر، ويتفق مع العلم والعقل، ويخالف تفاسير الأقدمين، كل هذا تحت دعاوى "التخصص العلمي" واحتكار فئة بذاتها وسيطرتها على الدين ومفاصله، فهماً وتفسيراً ودعوةً، بحجة أن العلم الديني له متخصصوه، يخوضون فيه حسب ما يرونه، وليس حسب ما يحتاج إليه الناس ويتوافق مع مصالح العباد، وليس من حق غيرهم الرأي أو الخوض أو الاجتهاد فيه، وهي أكذوبة تاريخية، واحتكار لدين نزل للناس كافة، وهم مطالبون فيه من ربنا في أكثر من موقع بإعمال العقل والتدبر والتفكر في شئونه وخلقه، والدين ليس هندسةً أو طباً نحتاج فيه إلى متخصصين، أو تجارة نحتاج فيها إلى خبرة ودراية، كما قال عن ذلك ابن تيمية: (فالله لم يرسل لنا طبيباً أو نجاراً أو تاجراً، بل أرسل إلينا نبياً) يقيم ديناً، ويرسم للناس طريق الوصول إلى الله، وليس الطريق إلى العلم والحداثة، أو يسد عنا الطريق إلى فهم جديد أو تفسير عصري للأحكام والنصوص، وتغيير الفهم البشري للنصوص والأحكام، ولم تنزل الرسالة على الصحابة الذين فهموه وتفقهوا فيه بعد دراستهم علوم التفسير وعلم الحديث والفقه في المعاهد، أو على أيدي الأزاهرة، بل كان معظمهم أميين لا يقرأون ولا يكتبون، وكم قلنا إن الإمام أبوحنيفة النعمان، وهو إمام الفقهاء، كان يعمل في التجارة، وتعلم ودرس وتفقه في الدين، وهذا الإمام أحمد بن حنبل، وهو شيخ أهل السنة والجماعة، كان يأكل من كد يده، ورفض العطايا والمنح في عهد الخلفاء العباسيين حتى يكون مستقل الرأي والفكر، بل رفض العمل في القضاء، وهو منصب رفيع وسامٍ، كان يسعى الفقهاء إليه، حتى لا يبيع ضميره للخلفاء العباسيين، أو يحتكرون أحكامه لصالحهم، وتعلم على يد الغير وعلم نفسه، الدين، دين الجميع يحق للناس جميعاً السؤال عنه، والبحث والخوض فيه، دون قيد أو شرط، ويحق للناس سماع الإجابة دون تجريح أو إهانة، وليس هذا الأمر بغريب، فقد سبقنا في هذا فرق إسلامية على رأسها المعتزلة، التي طالبت منذ قرون بدراسة متأنية لنظام المواريث والطلاق والحجاب مثلاً. هذا عن ازدراء الأديان. أما عن الثاني فهو عن ازدراء الرموز الوطنية، وإن كان القانون لا يجرم هذا إلى الآن، فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، إلا أن الأمر قادم وفي الطريق، وبه يطال من يفلت من تهم ازدراء الأديان، فيحاصر بتهمة ازدراء الرموز التاريخية، ومن نجا من شبكة الصيد وقع في قبضة الصياد، ومن لم يُطَل بالسيف إذا زاغ، حصّلوه ورموه بالرمح، ورموزنا التاريخية مفروشة في طول بلادنا العربية، من شرقها إلى غربها، منشورة على أعمارنا وأزماننا كلها، العادل منهم والظالم، التقى منهم والفاجر، الجائر منهم والمنصف، وسنحبس فيهم جميعاً حتى لو كان يهينهم أو يحتقرهم أحفادهم الذين جاءوا من أصلابهم، ويسكنون ديارهم ويرثون أرضهم، وتسرى دماؤهم في عروقهم، ولا يحاكمون ولا يحبسون فيهم مهما تقولوا عليهم، أو أهانوهم أو احتقروهم، ولا شأن لنا بهم وبتاريخهم، حتى لو أهانوا تاريخنا، وأهالوا عليه التراب، واعتبروه تاريخ الجاهليين، فلا نحاسبهم أو نحبسهم، بل من سوء حظنا أننا سنُحبس وسنُحاكم نحن في تاريخهم وتاريخنا، ورموزهم ورموزنا، وما نقوله عن رموزهم ورموزنا، ويا للعجب أن يكون التافه عند صاحبه عزيزاً علينا وغالياً عندنا .

أما عن الثالثة فهي هذا المشروع الذي يعاقب الملحدين، وهو قضية فكرية لا يواجه فيها الملحد بالحبس، بل بالفكر والإقناع، فليس الإيمان بالإكراه أو الإجبار، وليس في الإلحاد ركن مادي يعاقب الملحد عليه، فهذا شأنه، ولو كان قد قصر في حقه، فهناك تقصير أشد غرابة من المجتمع، ومن رجال الدين الذين دفعوا هؤلاء دفعاً إلى الإلحاد، أما وأن نكتفي بحبسه، فهذا ظلم، فلقد حبسنا طرفاً وتركنا الآخر، وهذا إنكار معلوم من الدين بالضرورة، فالله قد ترك للإنسان حرية الإيمان وحرية الكفر "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، وترك عقوبة الملحد أو المرتد خاصة به يوم القيامة، يقررها كيف يشاء، وقد تفنن في هذا الأمر من قبل حكام بني العباس "العباسيين"، حيث تفوقوا في تعذيب المعارضين في حكمهم تحت دعاوى الخروج على الحاكم، أو المروق على الجماعة، أو الكفر، وكان إبداعهم في تعيين" مفتش عموم الزندقة " في كل أنحاء البلاد عملاً تفوقوا فيه على الشيطان، وهي الوسيلة الجديدة لصيد كل المعارضين، الذين يفلتون من التهم السابقة، فمن زاغ من سطوتهم ونفوذهم، وفلت من التهم السابقة، اصطادوه بتهمة الزندقة، وتعذيبه والتنكيل به وبأهله وولده.

هذا هو حال أصحاب الفكر على مر العصور، مشوهون مطاردون مهمشون مكروهون، من أصابته تهمة الازدراء فعليه السلامة، ومن تاهت عنه ولم تصبه، ترصدته وانتظرته آخر الطريق تهمة الزندقة، وهي تهمة قادمة بحكم التاريخ، وتكرار دورة الحياة، ودائرة المظالم في عالمنا العربي.

adelnoman52@yahoo.com

"مصراوي" القاهرية

  كتب بتأريخ :  الثلاثاء 13-03-2018     عدد القراء :  2532       عدد التعليقات : 0