الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
العمامة والأفندي.. والعمامة

أول معرفتي بالدكتور فالح عبد الجبار كان بعد انتفاضة آذار الشعبية ١٩٩١، اذ تحررتْ مدائن كردستان فأخذني معه في آخر تلك السنة صاحبي عبد العظيم كرادي ونزلنا مدينة زاخو التي مكثتُ فيها لشهرين وزيادة، أقمتُ في مقر الحزب الشيوعي العراقي في تلك البلدة النائية.. النائية عن بعقوبة، وقد تكون بعقوبة هي النائية عن أبناء زاخو، ففي ذاك المقر الحميم تعرفت - أيضاً - على "أبو روزا ناصرية" رفيقاً أليفاً ينتظر مرة البريد القادم من الشام ومرات ينتظر بقية أهله ليلتحقوا به، أما د. فالح فقد ظهر لي على رفوف مكتبة المقر الزاخرة، أقول زاخرة وهي كانت بسيطة ومتواضعة ولكن كتبها كلها وهي قليلة كانت تثير الشهية القصوى للقراءة لأنها من مفقوداتي لعقد عنيف مضى.

تناولتُ كتاب د. فالح عن الحركات الشيعية المعاصرة في العراق وارتكنت لقراءته بخلوة فبدأتُ بمقدمته المثيرة التي يشكر فيها رفاقه الأنصار لأنهم أنقذوا أوراق مسودات الكتاب وأوصلوها عبر الجبال الجامدة والسيطرات الجبّارة حتى أتوا بها عبر الخابور الى الشام فبيروت ثم نيقوسيا حيث استقر هو أواسط الثمانينات.

ما أغراني بالانكباب على الكتاب الذي كان أقرب الى الكراسة هو تفاؤلي التام حدّ اليقين بسقوط نظام الطاغية فلذا كان عليّ أن أعرف وأتعرّف على الأحزاب والحركات التي ستأتي، وهذا الكتيب هو خير مفتاح لولوج مجاهيل الآتين.

ومن هذا الكتاب الكاتم جذبني سحر د. فالح جذباً الى ما يكتب وأصبحتْ له منزلةٌ عندي فبدأت أراه وردياً جديدا على الرغم أنّ د. علي الوردي لا يُقارَن لأنه كان مبذولا بعلمه وبلغته كما الماء للشاربين، وبعد ٢٠٠٣ تعرفت على د. فالح عيانا فازداد انجذابي إليه لأنه كان يرتجل ارتجالاً في الندوات العميقة فأراه محاضرا ومناقشا ومداخلا ومجيبا بثقة وثقى لما يحمل من علم وأدوات وتجربة بل تجارب.

ومن كتبه فيما بعد استهواني "العمامة والأفندي" لأنه كتبَ فيه التاريخ الذي لم تكتبه أقلام الحكومات ثم لأنه كان يحلل كل نأمة مهما صغرت في لجة الصراعات الاجتماعية السياسية المتقدة، كان يبدأ من حيث ينتهي المؤرخون فيستنتج.

"العمامة والأفندي"، كتاب يتناول بدايات تشكل الهويات المذهبية بُعيد تشكيل الدولة العراقية الحديثة، ويرى د. فالح أن ثمة قضايا خلافية مذهبية - دولتية هي التي أسهمت في خلق حراك سياسي مبنيّ على أسس طائفية، وهذه القضايا هي:

1. سياسية وتعتقد بسيطرة طائفة واحدة على مفاصل الدولة منذ العهد العثماني وإبعاد المكونات والطوائف العراقية الأخرى.

2. اقتصادية وتخص قانون الإصلاح الزراعي الذي أقرته حكومة ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨ وأثره السلبي على خزائن كبار الملاك والتجار وعلى صناديق الزكاة والخمس.

3. ثقافية وتشير الى حلول الفكرة القومية محل الفكرة الدينية بنسخة ساطع الحصري.

4. قضية التبعية التي تتعلق بحقّ المواطنة وإسقاطه بالتهجير والتسفير على أساس الولاء مرة لإسرائيل ومرات لإيران طوال مراحل الحكم الملكي وحكم الأخوين عارف وحكم البعث الثاني.

5. إدارية وبدأت بقرار تجريد الوظائف الدينية من رجال الدين.

ويؤكد د. فالح بأنه منذ الخمسينات بدأت بواكير حركات الاسلام السياسي ردّاً على تنامي الحزب الشيوعي بعد إعدام قادته في شباط عام 1949 وسيطرة الحزب على الشارع، وبعد انتقال العديد من سكان الريف إلى المدن ودخولهم في التنظيمات السياسية التي صارت قنوات للتعبير عن طموحاتهم ورغباتهم في المشاركة بحكم البلد وفِي عملية التنمية ومعارضتهم لمخططات الحكومة داخل العراق وخارجه، كما أن القمع الذي تعرضوا له في الحقبة الملكية و تهميش مناطق الأطراف والتركيز على بغداد في مشاريع التنمية كان له دوره في انضمام هؤلاء الشباب للأحزاب اليسارية.

ويوضح د. فالح بأن المواجهة وصلت ذروتها بين نظام البعث والإسلام السياسي الشيعي في العام ١٩٧٧ لعدة عوامل، منها: مقتل 15 ألف جندي من مدن الجنوب في المواجهات والمعارك مع الحركة المسلحة الكردية، الحملة القسرية لتبعيث الجامعات العراقية، الجفاف الذي نتج عن إنشاء سد الطبقة السوري وضعف الموارد الزراعية ومستوى التزود بالمياه، كذلك محاولة سلطة البعث منع الشعائر الكربلائية ولكن تحدى أكثر من ثلاثين ألف شخص هذا المنع وشاركوا في الزيارة الأربعينية لتلك السنة مشيا من النجف نحو كربلاء، وهنا حشّدت الحكومة شرطتها وجنودها ففتحوا النار على قوافل الزائرين.

وبعد أن يستعرض د. فالح ما جرى إبان الحرب العراقية الإيرانية وما جرى بعد غزو الكويت وعاصفة الصحراء وما جرى أثناء الغزو الأمريكي وما بعد الاحتلال، يستنتج بأن الاسلام السياسي الشيعي مرّ داخل العراق بثلاث مراحل، كانت الأولى محاولة خلق هوية دينية جامعة لكن سرعان ما تم وأدها بسبب عدم رغبة رجال الدين المشاركة في السياسة، ثم المرحلة الثانية وهي محاولة اكتساب الهوية المحلية بسبب الحكم العسكري للأخوين عارف وظهور النزعة الطائفية بخاصة في عهد عبدالسلام، وأخيرا اكتساب الهوية السياسية الواضحة بعد انتصار الثورة الإيرانية وإحياء فكرة تولي رجال الدين الحكم، فاكتملت خارج العراق تيارات دينية سياسية متماسكة مع بروز تيار الصدر الثاني في الداخل الذي اتسم بمعارضته السلطة واستناده الى قاعدة شعبية واسعة.

ختاماً، أظنّها هي الجلطة اللئيمة التي أخذت العالم والمناضل د. فالح مسرعا وإلا فهو ما كان ليغادر هذه الحياة دون أن يضيف كلمة أخرى لعنوان كتابه هذا ودون أن يضيف فصولا للمتن، أظنه كان بصدد أن يسميه: (العمامة والأفندي.. والعمامة).

وأخيرا، جاء د. فالح الى بغداده في تشرين الثاني 2017 وصادفت زيارته مع ذكرى الزيارة الأربعينية، ودعوناه الى جلسة هو اختار لها عنواناً: {بناء أو تفكك العراق في إطار نظريات سوسيولوجيا القوميات والأمم}، ومع انقطاع الطرق وتبخر وسائط النقل وتوقف الحياة بشكل شبه كامل في بغداد فإذا بمبنى الاتحاد بكل قاعاته وغرفه ومكتبته يكتظ بحضور نوعي لا نظير له حتى في أيام المهرجانات، واذا بي أرى د. فالح عبد الجبار وقد تحوّل من كاتب وباحث الى ساحر للجمهور وصار اسمه أسطورة عراقية.

  كتب بتأريخ :  الخميس 15-03-2018     عدد القراء :  3474       عدد التعليقات : 0