الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الزى والمظهر تمييز طائفى فى الأديان

حين هاجر الرسول من مكة إلى المدينة كان على علم كامل بالجغرافيا البشرية، والتركيبة الدينية والاجتماعية لمدينة يثرب، وطموحها فى احتضان دينه الجديد، حتى تقترب من قدر ومكانة مكة، وتكون فى مواجهة مع مركزها الدينى الذى يستأثر بالحج، ومن ثم مركزها التجارى، وكان على علم بالخلاف بين الأوس والخزرج، وما سيجده من صراع مع يهود المدينة، وإن كان قد استمالهم حين وصل بوثيقة «الصحيفة»، وصوم يوم عاشوراء، وكان هذا مؤقتا، فهو يعلم أن المواجهة قادمة يوما ما، ويعد ويجهز لها، وكان لزاما قبل المواجهة أن يبدأ بتغيير معالم الزمان والمكان ويصبغ الناس بصبغة إسلامية، يعزل فيه القديم عن الجديد، ويفارق بين زمانه وأزمان من سبقوه، وينسخ ما كان مألوفا، ولا يعتز المسلمون ويفخرون إلا بدينهم وزمنهم الجديد، ويكون هذا البناء الجديد منفصلا بلا روافد أو وصلات.

وكان بداية هذا الفصل وهذا القطع هو فصل المكان، وقد سمى مدينة يثرب أو اثرب «بالمدينة»، وكانت كفارة من يذكر اسمها القديم «يثرب» ترديد اسمها الجديد «المدينة» عشر مرات متتابعات، حتى يستقر على لسان القوم. أما الزمان فقد وصفوا زمن ما قبل الرسالة بالجاهلى، ورفاقه بالجاهليين، والتاريخ بالجاهلية، حتى يعزف الناس عن الارتباط والانتساب إليه، وذلك على الرغم من استمرار العمل بحدود وعادات اجتماعية، وقيم ومعاملات وطقوس دينية بعد البعثة، ونزلت قرآنا يتلى، كحد الحرابة وحد السرقة وطقوس الحج.

أما العزل والإقصاء «الثقافى» بدأت بقصر ومنع تسلل ثقافة اليهود إلى المهاجرين الجدد، أو الاقتراب منها، فلما حاول بعضهم التعرف على ثقافة وصحائف اليهود، غضب الرسول من الصحابة، وكان على رأسهم عمر بن الخطاب، حين حاول قراءة بعض من صحائفهم، فعزل المسلمون أنفسهم عن الأديان الأخرى، وكان من قبل فى مكة يقارعهم الحجة بالقرآن، وكان الجهاد جدليا، حتى هاجر إلى المدينة، (وقد وضعت الهجرة الخلاف بين النبى وقريش، خلافا سياسيا يعتمد على القوة والسيف، بعد أن كان يعتمد على الجدل قبل الهجرة وهذا هو رأى د. طه حسين)، وهو ما دفع النبى إلى تحصين دينه ورفاقه ضد قريش ومن له صلات بهم، حتى يكتمل الفصل، وبعده جلاء الغير.

أما ما كان من أمر الناس فقد نهى عن التشبه باليهود، فلما مر بصحابى يجلس جلوس اليهود ويده اليسرى خلف ظهره ومتكئ على الأخرى، نهره (أتجلس جلوس المغضوب عليهم)، وكان يختار أسماء جديدة لأصحابه إن كانت تمت للجاهلية أو اليهودية بصلة، وكان يطلب من الذين يدخلون الإسلام أن يغيروا هيئاتهم التى كانوا عليها، وكان أمر اللحية واضحا (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى وخالفوا المشركين)، وهو شكل مغاير، ويميز المسلمين عن غيرهم، وقد قرر شكل اللحية بعد معرفته بشكل اللحى السائدة عند اليهود وغيرهم، ولم يكن هذا أمرا من الله أو تنزيلا أو تشريعا، (بل عرضه عليهم عند مخالطة البعض من الأمم الأخرى لتمييز المسلمين، فاستحسنوها وأخذوا بها ووافقوا عليها، وغالوا فيها وزادوا عليها وألبسوها لباس الدين) «الإمام محمد عبده»، وكانت أولى أن يكون أمرا من الله محددا قاطعا، لا يقبل القسمة أو الاختلاف، وقد كان سهلا ويسيرا أن تكون كل الأوامر الخلافية صريحة واضحة فى القرآن، وكانت أولى من غيرها.

الزى والمظهر تمييز طائفى فى الأديان (2)

قلنا فى المقال السابق إن الرسول حين وصل يثرب «المدينة» قصد الفصل بين مكان وزمان المسلمين وغيرهم، وبين ثقافة الإسلام وتاريخه وثقافات وتاريخ الآخرين، فغير اسم يثرب إلى المدينة، وفصل تاريخ الجاهلية والجاهليين عن تاريخ الإسلام والمسلمين، ومنع سياسة الاختلاط والتفاعل مع ثقافات الغير، حتى لا يستقر فى نفوس صحابته إلا الإسلام وأماكنه وطقوسه وسننه وتشريعاته، وأن يكرهوا ويخاصموا ويعادوا غيره، تمهيدا لإقصاء وإجلاء وإخلاء الغير، وقد سار الصحابة على هذا النهج وتعاهدوا والتزموا به، وإن كانت الفتوحات والغزوات فى عهد الخلفاء مدعاة إلى الاختلاط والتفاعل والتعامل مع أصحاب البلاد الموطوءة، إلا أن التزامهم بما جاء عن نبيهم دفعهم إلى العزلة تماما، ورفضوا الاختلاط والاندماج ببقية خلق الله، ومما زاد الأمر صعوبة عليهم أيضا، أن مسألة الغزو والتى ليست من الحق والعدل فى شىء، كانت عازلا بين الغازى وأصحاب الأرض الحقيقيين.

وهناك حادثتان تؤكدان الالتزام بهذا الفصل المجتمعى، وهذه العزلة الثقافية، وكانتا فى عهد عمر بن الخطاب، الأولى: حرق مكتبة الفرس، حين أرسل سعد بن أبى وقاص رسالة للخليفة عمر، يستفتيه فى أمر الكتب والمجلدات والمخطوطات، فأمره أن يحرقها، والثانية: حين استفتاه عمرو بن العاص فى شأن مكتبة الإسكندرية وكتبها ومجلداتها ومخطوطاتها فأمره أيضا أن يحرقها، وكان رده فى الحريقين واحد (عندنا كتاب الله وليس لنا بها حاجة) وأتصور أن عمر بن الخطاب قد استحضر فى الأمرين، تفاصيل اللقاء الذى جمعه بالرسول، حين أقبل عليه بعد الهجرة فى المدينة، يصحب بعضا من مخطوطات اليهود لقراءتها فنهره الرسول بشدة رافضا هذا التبادل وهذا التفاعل وهذه المشاركة، وظل هذا الفكر قائما حتى تاريخه، فهذه العزلة الثقافية.

وهذه المخاصمة المجتمعية مع العالم، هى نبت ما تمت زراعته منذ قرون، وأثمرت حباتها وزادوا عليها وغالوا فيها حتى صار الجبل عازلا صلبا، وربما كانت ضرورية فى صدر الإسلام لتمكينه كرسالة فى الأرض، لكنها لا تصلح فى غيره، فنرى تجمعات المسلمين فى بلاد المهجر معزولة عن غيرها، متخاصمة معها وربما متشابكة ومتضاربة ومتصادمة مع الآخر، وكان من باب أولى أن يتعايش المسلم مع هذه المجتمعات النازح إليها والهارب من ظلم مجتمعه إلى رحابها وحريتها واتساعها، خصوصا أن هذه المجتمعات لا تفرض عليه رأيا أو ثقافة، كما يحاول المسلم مع الآخر فى بلاد المهجر، وهم الأضعف والأقل، تحت دعاوى أنهم مأمورون من الله بهذا، وليس الأمر كذلك إنما هى ثقافة زمنية توارثتها الأجيال دون تنقية أو فرز، وهى مأساة المسلم ومشكلته (الفرز والتجنيب). ولم يكن زى المرأة إلا تمييزا بين المسلمات والإماء والجوارى من المسلمات وغيرهن، والسبب كان من كثرة الاعتداء والتحرش بالنساء من فساق المدينة،حين يذهبن

إلى الغائط، فالتمييز هنا والفرز منجاة لهن من الاعتدا والتحرش، إذا استطاع الواحد منهم التفرقة بين الأمة والحرة، فيعتدى على الأمة ويترك الحرة مخافة العقاب والانتقام، ودعنى أتساءل سؤالا هو فصل الخطاب، لماذا تركت الأمة «الجارية» المسلمة دون هذا الزى، بل ومنعت من ارتدائه، وكان يضربهن عمر بن الخطاب إذا تشبهن بالحرائر، وكن أجمل من نساء العرب، ويرتعن فى بيوت المسلمين شبه عاريات، يكشفن من السرة حتى الركبة، أليست فتنة ودعوة للفسق؟ ولو كان الأمر لعفة أو لغض البصر ما تركوهن يمرحن عاريات بين الرجال، يرحن ويجئن على طول أبصارهم. وسؤال برىء آخر لماذا يرتدى رجال الجزيرة غطاء الرأس؟ ليس هناك زي إسلامى أو مايوه شرعى أو فرح إسلامى، بل هناك عادات اجتماعية وسلوك مجتمعى ليس إلا.

adelnoman52@yahoo.com

"المصري اليوم" القاهرية

  كتب بتأريخ :  الخميس 30-08-2018     عدد القراء :  2571       عدد التعليقات : 0