الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ليلة في المقبرة !؟

ذكرى هلوينية. من سيرتي الذاتية .

بعد تخرجي من ثانوية الصناعة العراقية الألمانية تم تعييني وبضعة زملاء آخرين في معمل المنتجات النفطية في مُنشآت مصافي النفط الحكومية منطقة (الدورة)، حيث يتم في ذلك المعمل صنع القناني المعدنية للغاز المستعمل في البيوت، ومن ضمن الأخوة الخريجين الذي تعينوا معي الراحل إبن عمتي صلاح دنو والمغترب فريد ألياس منسي وهو من قلعة اربيل والصديق مؤيد علي وهو من أهل الموصل .

كان الدوام في المعمل على شكل ثلاث وجبات متداورة (وجبة الصبح، وجبة المساء، ووجبة الليل)، وكُنا أنا ومؤيد علي في نفس الوجبة .

أرضية وحدود المعمل كانت ملاصقة ومفتوحة على مقبرة قديمة جداً لسكان تلك المنطقة، وكانت هناك شائعات يتداولها غالبية عمال المعمل ويُصدقونها تقول بأن من يخرق حرمة المقبرة ويدخل ارضها ستُصيبه لعنة أمواتها ويموت أحد الناس االمقربين له خلال سنة أو أكثر !!، كذلك كانت الشائعات تقول بأن الحكومة حاولت تجريف المقبرة ولكن الجرافة ( بلدوزر ) تعطلت عن العمل ولم يستطع أحد من الفنيين إصلاحها !، وكانت ملقاة على جانب من جوانب المقبرة ، ولكن ... برأيي أنه كان بلدوزر عتيق جداً وغير صالح للعمل ولا علاقة له بالقصة المختلقة، ولكن عامة الناس الشعبيين الجهلة دائماً يُصدقون ويتداولون كل ما فيه خرافة ووهم وتهويل ورعب عن غيبيات من صنع خيالهم أوجدوها بأنفسهم وصدقوها لحد الرعب السخيف المضحك !.

طبعاً أنا ومؤيد وبضعة موظفين وعمال من المثقفين والمتعلمين لم نصدق تلك القصص الشعبية التي عادةً لها إرتباط عميق جداً بالجهل والتدين ووراثة الخرافة. لِذا كُنا دائماً نسخر من العمال أو الموظفين الذين يُروجون تلك الحكايات المخيفة عن المقبرة ولعنتها والجن والسعلوة والعفاريت ! .

ذات يوم إحتدم النقاش حول قصة ولعنة المقبرة بيني وبين (كريم) … وهو أحد الفورمنية ( فورمن - مانجر)، وتدخل وإشترك في النقاش عدد كبير جداً من الموجودين بين مؤيدٍ ومعارض!، وفي النهاية تحداني كريم وقال لي بالحرف الواحد:

لو كنتَ تدعي المرجلة والمفهومية والشجاعة أتحداك أن تبقى عدة ساعات داخل المقبرة في الليل .

قلتُ له مجيباً على إستفزازه وتحديه :

سأقوم بذلك عن طيب خاطر ولكن .. ليس مجاناً، فهل تُراهنني !؟.

قال وبفرح ظاهر : حتماً اراهنك، وعلى راتبنا الشهري فأما أخسر لك راتبي القادم أو تخسر لي راتبك .

وافقتُ فوراً على رِهانِه وتحديه، وقام بمصافحتي وهو غير مصدق والفرحة تكاد تأكل وجهه !، وقال لي وكأنه قد ربح الرهان فعلاً : إشوَرَطَك يا شاطر !!؟.

هنا تدخل زميلي مؤيد وقال :

سأكون مع الأخ طلعت في الدخول للمقبرة، فهل من مراهن ضدي ؟.

تبرع أحد العمال وقال : أنا اراهنك سيد مؤيد على راتبي، وتصافحوا … بينما بقية المحتشدين تعلو اصواتهم وضوضائهم وثرثرتهم حيث الغالبية كانوا قلقين لما سيصيبني والزميل مؤيد من شرٍ وأذى بسبب لعنة المقبرة ! .

في الأسبوع اللاحق وحين كان دوامنا في ( شفت الليل) حضرنا جميعاً إلى بداية أرض المقبرة، وبموافقة المهندس المناوب المسؤول عن الشفت الليلي، وخلال دقائق توغلنا مؤيد وأنا في عمق ظلام المقبرة حيث كان المفروض بنا البقاء داخلها منذ الساعة 12 في منتصف الليل ولحد الساعة الخامسة فجراً، أي 5 ساعات كما تقول شروط الرهان !.

مشينا أنا ومؤيد إلى أن وصلنا لعمقٍ كافِ داخل المقبرة ومن ثم جلسنا على الأرض بصورة أصبح ظهر كلٍ مِنا يسند ظهر صاحبه، أي جلسة إستراتيجية تحسباً لكل ما قد يكون حولنا من مجهول .

الحق أكذب لو بالغتُ وإدعيتُ اليوم وقلتُ بأننا كُنا في نزهة ليلية !، بل كُنا نوعاً ما قلقين ومتوتري الأعصاب ربما أكثر من خائفين، لإن المقبرة دائماً مكان موحش وكئيب ومرعب لكل البشر، وبرأيي أن أكبر اسباب خوف الناس من المقبرة والأموات هو لإنهم يجهلون ماذا بعد الموت ويرهبون الميت والموت عبر كل التأريخ البشري حيث كل مجهولٍ مُخيف ومرعب ولو لدرجة معينة! .

كان الليل مظلمٌ وموحش بلا قمر، والصمت مطبقٌ وثقيل ٌجداً، وكانت تصل أصوات السيارات البعيدة وكأنها شخير أحد الأموات!، وبين الفينة والفينة كنا نسمع صوت طائرٍ ليلي على مقربة منا لم نميز نوعيته، عدى ذلك فالصمت كان مُطبق وكريه جداً لدرجة كنا نسمع أصوات تنفسنا وحتى دقات قلوبنا وكأنها تدق في آذاننا !.

سألني مؤيد بصوتٍ خافت : تسوة هذي سالفة التحدي والرهان برأيك !؟.

قلتُ له بصوت شبه هامس أيضاً : هي مو قضية تحدي ورهان ومرجلة وشجاعة برأيي، لكني فقط أحاول أن ابرهن لهؤلاء الجهلة بأنه ليس هناك حقائق عن القصص الخرافية المضحكة التي يتداولونها فيما بينهم ويُصدقونها ويتوارثونها كما يتوارثون جهلهم وعمى بصيرتهم .

سألني مرة أخرى : هل انت خائف ؟.

قلتُ له : طبعاً خائف .. ولكن خوفي طبيعي وليس بسبب إيماني من أن احد الأموات سيقوم من قبره ليأكلنا، لإن الميت ميت ولا حياة او حركة له أو فيه، ولكن مع هذا يبقى جو المقبرة مرعباً حتى لأشجع الناس .

بعدها راح مؤيد يُغني بضعة أغاني بغدادية جميلة وبصوتٍ خافت نوعاً ما ليطرد عنا وحشة المكان وصمته ورهبته. وليلتها إكتشفتُ ان لمؤيد صوت رخيم وشجي لدرجة غير طبيعية، وكان من الممكن جداً أن يكون مغنياً لو أنه إستغل صوته وإدائه الأكثر من رائع ، ولكن تقاليد غالبية العراقيين لم تكن تُشجع على ان يكون المرءُ مغنياً أو فناناً للأسف .

مرت الساعات بطيئة جداً ولكن في النهاية إنبلج الصباح وعدنا بكل شوق الى أطراف أرض المعمل حيث كان ينتظرنا الجميع وبينهم الأخوة الذين راهنونا على رواتبهم والكل كانوا يُهنئوننا على شجاعتنا وقوة إرادتنا وبأسنا. لكنني أخبرتهم بأني ومؤيد لن نأخذ منهم رواتبهم الشهرية، لإنهم أصحاب عوائل، ورواتبهم بالكاد تكاد تسد إحتياجاتهم وعوائلهم، وإننا لم نقبل تحديهم لنا من اجل ان نربح رواتبهم ولكن فقط من أجل ان نُثبت لهم بأن ما يتداولونه هو مجرد خرافة وقصص غبية ووهم بليد وأمور ورثوها مع وراثة الخوف !. فشكرونا وبقوا على محبة وود لنا وتجاهنا للبقية الباقية من تواجدنا في ذلك المعمل، لكنهم ابداً لم يتخلوا عن فكرة أن لعنة المقبرة ستحل علينا يوماً ما !.

**************

بعد عدة أشهر تم نقلي مع زميلي مؤيد علي إلى معمل التاجي للغازات النفطية وهو المعمل الذي تتم فيه تعبئة القناني المعدنية بالغاز .

تم تعييني مسؤولاً عن قسم (المضخات والمكائن) ومؤيد مسؤلاً عن قسم (الحرائق والإطفاء) .

تنقضي شهور وفجأةً يختفي زميلي مؤيد وينقطع عن الدوام في وظيفته !، ولم يكن عنده خط هاتف بيتي ولهذا بقينا جميعاً في حيرة من أمر غيابه وأسبابه المجهولة، وكما يقول المثل : “الغائب عذره معاه “.

بعد اسبوع يظهر مؤيد وهو شاحب الوجه نحيلاً غائر العينين كئيب الملامح والوجه !.

عانقني في غرفتي الخاصة وأجهش في البكاء، ولم يستطع أن يتفوه بكلمة واحدة حيث خنقته غصة البكاء. طيبتُ خاطره وقدمت له قدح شاي حار ورحتُ أقبل رأسه وجبينه وأنا أبكي معه حتى بدون أن اعرف اسباب بكائه، لكني خمنتُ أن هناك مصيبة كبيرة قد حلت بحياة صديقي الطيب مؤيد علي .

هدأ مؤيد وإرتشف الشاي دفعة واحدة وقال لي من خلال شهقاته المتتالية بأن زوجته الصبية (بنت خالته) فارقت الحياة اثناء المخاض والتعسر وهي تلد ابنتهم الرضيعة التي عاشت وهي بخير الان !!.

وكأن الصمت أمسك بلساني وتلابيب حنجرتي فعجزتُ عن الكلام وكأنني أخرس !، وشعرتُ بأن أي شيء سأقوله سيبدو سخيفاً وبلا معنى !، فبقيت ساكتاً صامتاً بلا حراك وأنا أحدق في اللا مكان وفي عمق المجهول، .

وبعد فترة صمتٍ رهيبة إلتقت عيناي بعيني مؤيد وقرأ أحدنا افكار الآخر بكل دقة ووضوح.

همس مؤيد بصوت خافت :

أعرف بماذا تفكر، هل تعتقد حقاً أن لعنة المقبرة حلت علينا يا طلعت !؟.

قلتُ له بعد أن إبتلعتُ ريقي عدة مرات :

فكرتُ بذلك للحظة عابرة، ولكن ….. عقلي ونوع شخصيتي وكياني وثقافتي ومعتقداتي ترفض هذه الخزعبلات !، هي مجرد صدفة عزيزي مؤيد، والناس تموت يومياً كحتمية حياتية، وهو شيء جداً طبيعي ان يكون من ضمن اقاربنا وأصدقائنا من سيموت خلال سنة أو سنتين من الزمن، ورجائي أن لا تفكر بقصة المقبرة ولعنتها التي يتداولها الجهلة من الناس .

****************

بعد سنوات … هاجرتُ ألى امريكا وكانت بيني وبين الصديق مؤيد عدة مراسلات إنقطعت بعد فترة سنوات ولا اعرف أين هو اليوم أو ما حل به، وارجو أن يكون بخير لإنه كان واحداً من أطيب الناس الذين التقيتهم في حياتي ولدرجة يستحق كلمة وصفة (الصديق) ومن دون مجاملة .

لكني اعرف أنني فقدتُ أخوتي الإثنين نبيل وفيصل ميشو في حروب البعث والعبث بين صدام والخميني، واعرف أن موتهم كان حدثاً طبيعياً كما حدث لألاف وملايين غيرهم .. وليس بسبب أن احد اقاربهم بقي في مقبرة عتيقة حتى مطلع الفجر .

المجد للعلوم والثقافة والمعرفة، والخزي للخرافة .

طلعت ميشو . Oct - 30 - 2018

  كتب بتأريخ :  الإثنين 29-10-2018     عدد القراء :  1632       عدد التعليقات : 0