الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ربيع باليسان و الضربة الكيمياوية

ربيع باليسان و الضربة الكيمياوية ! ـ 1 ـ

منذ سنوات كانت تنتابني بين حين و آخر حالات من الدوار و ضعف التركيز و البصر، و ضعف عام يجعلني لا استطيع الوقوف على قدميّ، حالات لايجمعها تفسير طبي .  . اضافة الى اختلال هرموني تسبب لي بزيادة وزن ثم بمرض السُكّر ، اضافة لأعراض لايجمعها جامع، كانت قمّتها قبل ستّ سنوات حين اصبت بحالة من التقيؤ الشديد الذي كان نزيفاً شديداً فقدت فيه نصف دمي بتقرير مستشفى طوارئ برلين.

و بعد انقاذ الحياة و نقل الدم و العملية الجراحية لايقاف النزيف اجريت لي فحوص متنوعة اشارت الى تزايد الضغط في الكبد و تشمّعه، الذي تسبب بانفجار الاوعية الدموية ذات الصلة و المحيطة بالمرئ و ان الاسباب تتركز باصابة الكبد بسموم غير مألوفة ثم شُخّص قسم منها، و انها التي تسببت باختلال هرموني و بزيادة الوزن .  . و يجري علاجي في المستشفى المركزي في برلين بمراقبة دورية خوفاً من تفجّر نزيف مفاجئ كما مرّ، في حياة .  .  . ؟؟

* * *

في ربيع 1987، وكانت الثلوج تذوب مشكّلة غدراناً، والخضرة قد بدأت تكسو الروابي، استلم مكتب الفوج 31 الذي كنت مسؤوله الحزبي، برقية معممة الى وحدات البيشمركةالأنصار افادت باستعداد عشائر بشدر و عشائر منطقة رانية، جوارقورنة، بتوين التي كانت ساحة عمليات فوجنا، استعدادهم لإعلان انتفاضة عارمة ضد الدكتاتورية الشوفينية ومعاقبة رجالها على حملة التهجير الدموية التي كانت تقوم بها وحداتها بحق قصبات وقرى كردستان العراق، متسببة بقتل وتشريد عشرات الآلاف من سكانها المدنيين العزّل رجالاً ونساءاً، شيوخاً واطفالاً .

ولابد من الأشارة هنا، الى ان منظمات البيشمركة والأنصار في ذلك الوقت بكل فصائلها ومنظماتها كانت ملتزمة بعدم ضرب الجيش الذاهب او القادم من جبهة الحرب العراقية ــ الإيرانية، وسارت في عملياتها واعمالها السياسية والعسكرية بوجهة تحييد ومحاولة كسب الجيش وودّه . . و كانت امينة للشعار الذي رفعته الجماهير منذ انتفاضة ربيع 1982 " نحن اخوان الجنود واعداء الدكتاتورية الفاشية " .

الاّ ان الدكتاتورية كانت تحاول وبكل الطرق تدمير تلك الوجهة، في محاولات جرّ  البيشمركة الى مواجهات عسكرية مع الجيش، فكانت تقوم بخطط مرسومة تزج فيها بوحدات عسكرية خاصة للقيام باخس الأعمال العسكرية ضد الجماهير، من حرق وتدمير وتهجير ونسف الأحياء السكنية، اضافة الى زجها بكل اصناف القوة الجوية وكل اصناف اسلحة الجيش، لإستثارة البيشمركة ضد الجيش و لتحقيق تلك الأهداف الشوفينية .

خالقة بذلك معادلة متوحشة لأمرار سياساتها باشعال الحروب، ولأمرار محاولاتها لكسر الحركة الشعبية الكوردستانية وعموم الحركة الشعبية العراقية بكل الوسائل، ولأظهارها بكونها كما لو كانت حركات تخريبية هدفها تحطيم الجيش العراقي واعاقته عن (اداء دوره في الدفاع عن الوطن) على حدّ تعبيرها .  .

اثر البرقية، تم اعداد مفرزة صغيرة لمرافقتي وعلى عجل لأبلاغ سرية ملا عثمان/ خوشناوتي المنتشرة في مناطق حرير وشقلاوة وخوشناوتي تلك الأنباء ، ولمناقشة مدى امكانياتهم للمساهمة وكيف . . لعدم وجود اتصال لاسلكي معهم، بعد ان قررت قيادات بيشمركة الأحزاب المتواجدة هناك (1)، اسناد الأنتفاضة والتفاعل معها وتطويرها الى نجاحات اكبر، ووضع خطط جديدة للحركة بتلك الوجهة .

وصلت مفرزتنا الى قرية " كاني جيز" حيث شجرة جوز القرية العملاقة المتفردة قائمة على نبع الماء الذي كان مستمراً بالتدفّق رغم محاولات الوحدات الخاصة تفجيره و سدّه اثناء تهجير القرية وتهديم بيوتها ومسجدها !

وبعد ان انتهينا من تناول شئ من طعام محفوظ في ظل الشجرة العملاقة التي خففت علينا من المطر المنهمر، اخذنا نستعد لقضاء الليلة هناك ونحن مبللين نرتعد من البرد و لأن المطر لم يتوقف، و كنا لانستطيع ان نشعل ناراً  كي نتدفأ بها، في منطقة مكشوفة تشرف عليها ربايا عسكرية جاشية عدة . . فبعد ان نظّمنا الحراسة وتمددنا منهكين، كلٌّ في مكان اعدّه لنفسه من الأعشاب الأقل رطوبة . . مرّت بنا مجموعة من سرية خوشناوتي، كانت متوجهة الى قوتها المنتشرة في مدينة شقلاوة في ذلك الوقت، فاخبرناهم بالمستجدات و كتبت لهم بسرعة فحوى البرقية، لإخبار انصار سريتهم والتهيؤ وفق ظرفهم، و كنت شبه متأكد بانهم متهيئين.

وبينما كان الظلام يرخي سدوله وفي حدود الثامنة مساءاً . . . شقّ السكون هدير سمتيات كان يتصاعد بشكل سريع متواصل، فاسرع كلّ منّا الى سلاحه متخذاً وضع القتال، الاّ ان السمتيات الأربعة التي كانت احداها تكشف مسافة طويلة من الفضاء الذي امامها بضوئها الكاشف القوي، واصلت طيرانها السريع واجتازتنا بسرعة لتليها اربع سمتيات أخرى ثم أخرى ، قادمة من جهة شقلاوة نحو ماوراء جبل " هه وري " . . . الى " دولي باليسان " .

ولمّا كانت قواعد البارتزان تشدد بعدم اطلاق النار وعدم كشف موقع القوة الصغيرة وخاصة تلك التي ليس بحوزتها مضاد للدروع ولامضاد للجو، و  عليها الإكتفاء بالإختفاء والسكون لتتوقى التدمير والفناء الكامل ان كشفتها اعداد السمتيات تلك، او قامت بانزال جويّ عليها . . فاحكمنا استعدادنا على الأرض واخذنا مواقع القتال خشية تقدم بريّ، قد يترافق معها ويستتر بالظلام، في تلك المنطقة المهجورة الواسعة التي أُخليت من القرى والبشر بحملات التهجير الوحشية تلك.

حاول أحد انصار المفرزة التنصت على احاديث طياري السمتيات، بالترانزستور الجيد الذي كان بحوزته، بعد ان حوّل الموجة التي كان يتسمّع عليها بصوت خافت لأغاني المطرب الكردي الشهير " طاهر توفيق " ، الى موجة FM ، ولكن بلا جدوى . . لاصوت ! فيما لفّ الصمت كل ما احاط بنا ، عدا هدير السمتيات المتنوّع الشدة !!

وبينما كان الوقت يمرّ ، لم يظهر ايّ تقدّم او هجوم ارضي يستهدفنا . . فيما كان عدد السمتيات التي كانت تطير ليلاً، بارتفاع منخفض وبسرعة غير اعتيادية، يتزايد ! لم يمرّ احد منّا حتى ذلك الزمان بمثل ذلك الموقف،وتوالت تصوراتنا :

ـ قد تكون مهمة سريّة ؟ ! . .

قال مام رستم، الذي كان عريفاً سابقاً في الجيش وعاش ظروفاً قتالية متنوعة كبيشمركة .

ـ ولكن ماهي ؟ ! !

ـ اسمع ! ! هل هي قنابل ام ماذا ؟ !

كانت اصوات انفجارات مكتومة لم يسمع أحد منّا مثلها سابقاً، وكانت تتوالى ببطء، آتية من ماوراء جبل " هه وري " !! وبعد حوالي الساعة رجعت السمتيات مسرعة الى الجهة التي اتت منها، التي قيل بعدئذ انها كانت " معسكر كومسبان " (2) .

بقينا يقظين حتى مطلع اول خيوط الفجر الذي يساعد على الرؤية، حيث لم يكن معنا من يعرف ممرات جبل " هه وري " من تلك الجهة الكثيرة الوعورة، و بدأت المفرزة الصغيرة سيرها الحذر، الذي قررنا ان يكون اتجاهه نحو باليسان لكوني طبيب لمساعدة الجرحى وتفقّد ماجرى، في منطقة هي جزء من ساحة عملياتنا و من ساحة الانتفاضة المرتقبة كما مرّ .  . بعد وقت غريب لم نسمع فيه ايّ صوت لقتال او لمقاومة ارضية في الليلة الفائتة، فقط الصمت الوحشي غير المعروف، وقدّرنا انه قد لاوجود لوحدات بيشمركة في ذلك الوقت هناك لإنشغالها في مواقع اخرى او لأي سبب لم يكن معروفاً لنا على الأقل وقتذاك .  .

لأن التهجير كان جارياً على قدم وساق، كوحش منفلت، وكان البيشمركةالأنصار يحاولون الدفاع عن القرى، ويحاولون ايقاف ذلك الوحش باذلين غاية ما استطاعوا لذلك سبيلا . . فيما كانت وحدات أخرى منشغلة بتأمين طرق للذوبان في المدينة، للأحتماء الوقتي بها او للقيام بعمليات فيها . . ثم الأنطلاق او التحرك منها، حيث ان تهديم القرى كان جارياً بشكل فضيع محوّلاً ذلك الريف العريق المترامي، الى ارض محروقة خالية من الحياة ! (يتبع)

15 / 4 / 2019 ، مهند البراك

-------

كانت الفصائل المتواجدة في المنطقة آنذاك تابعة للأحزاب ؛ الحزب الديمقراطي الكوردستاني، الأتحاد الوطني الكوردستاني، الحزب الشيوعي العراقي، الحزب الأشتراكي الكوردستاني .

معسكر يقع في سفح جبل صلاح الدين من جهة مدينة اربيل، عرف عنه آنذاك انه كان معسكراً للقوات الخاصة، ثم اقيم فيه مخزناً للأسلحة الكيمياوية .

ربيع باليسان و الضربة الكيمياوية ! ـ 2 ـ

وبينما كنّا في طريق النزول المتعرّج ( صعوداً، نزولاً نحو السفح) نحو وادي باليسان، ظهر امامنا فجأة عدد من مدنيين عزّلً من السلاح . . كانوا يصعدون سويّة بشكل هرولة سريعة كمّن مسّه تيار كهربائي صاعق، كانوا يصرخون صراخاً حاداً متصلاً بشكل وحشي. وكانت عيونهم شاخصة الى الأمام ( او الأعلى ) مبحلقة جامدة شبه ميّتة، كأنهم أتوا من كوكب آخر، او لاصلة لهم بالعالم المحيط . . واجتازونا كمّن يجتاز صخوراً، غير مبالين بنا رغم تحيّاتنا ورجاءنا لهم بالتوقف، لأن معنا " طبيب " ! ولكن لم يتوّقف احد منهم ، وواصلوا صعودهم ذلك وكأنهم اشبه بـ (قطيع ) افزعه رعب لايوصف.

قال احد البيشمركة : " يظهر انهم مصابون بغازات سامة !! "

وقال بانه عندما كان في وحدات بيشمركةانصار قاطع بهدنان، حين واجهَت كل قوى البيشمه ركة هناك، وحدات القوات الخاصة التي كانت تهجّر قصبة " كاني ماسي" وتحاول الغاء الريف المحيط بها، استخدمت غازات الأعصاب المرعبة وتركت مجاميعاً من البشر ممن اصيبوا، كانوا قد فقدوا احساسهم بالوجود . . كان بعضهم يضحك بوحشية بصوت عالٍ غير معقول ويبحلقون بنظرات عيون قاسية، كانوا يهومون بتلك الصورة ويتساقطون بالتدريج بعضاً اثر بعض فاقدي الحياة ؟! و الشئ الاهم للوقاية من اخطارها هو الصعود الى اعالي الجبال.

لم تكن لدينا اية معلومة او تجربة بالتعامل مع الاسلحة الكيمياوية، دع عنك معالجة مصابيها، و كان موضوعها اشبه باحاديث خيالية ليست من الواقع حتى ذلك الوقت، واقع رشّ مبيدات ضد البشر ليتساقطوا كالحشرات ان صح التعبير، و لكن كنت على الاقل اعرف من معلوماتي بانها اثقل من الهواء و ان الوقاية منها هو الصعود الى اعلى الجبال .  .  و هنا كانت الخطورة الهائلة لذلك السلاح المحرّم دولياً، هي المفاجأة باستخدامه !!

بدأنا بالوصول الى وادي باليسان من جهة جيوة العليا . . كانت الأرض موحلة، وكان السكون مطبقاً، لا أصوات بل لا ضجيج حتى للطيور، لا رائحة بيتية ما . . كان الصمت مطبقاً في الوادي معلناً عن وحشية وهيمنة الموت . . وتعثرنا بسيرنا باوراق الشجر  الربيعية الخضراء التي كانت تكسو الأرض بعد ان تعرّت منها الأشجار الواقفة، تعثّرنا بالعصافير والطيور الميتة وببيضها المكسور، وبانواع الزواحف والضفادع الميّتة وكانت حتى اوراق الحشيش الطويلة متوسدة الأرض الطينية وكأن هناك من اقتلعها وهي خضراء، بقرة ميتة هنا واخرى هناك منفوخة البطون، جثث كلاب منتشرة . . بيوت نصف مهدمة او تهدّمت سطوحها، بدأت تظهر لنا في نزولنا عن بعد ارجل و جثث اطفال مبعثرة بين ملابس، من ابواب عدد من البيوت .  .

صار يقيناً لنا ان الوحدات الخاصة القذرة قد استخدمت الغازات الكيمياوية ولكن اين المصابون لإنقاذ حياتهم ؟ !! وتفرّقنا نبحث عن مصابين او عمن يحتاج لمساعدة، في قسم الوادي الواقع بين قرية " ده راش" و "جيوه وجيوه"، مستمريّن في توجهنا نزولاً نحو الطريق العام الذي يربط " خليفان" بـ " رانية " . .

رأينا بيوتاً متفرّقة محطمة السقوف و الجدران لإصابتها بصواريخ الطائرات، و كان يتصاعد منها النحيب والبكاء و اصوات تقيؤ عالية . . وصلنا الى اقربها وكان قد رُبط جنب بابه حصان اسود شُدّ حول فمه كيس علف . .  و كان في داخل البيت الصغير المبني على عجل، شاب طويل القامة شاحب الوجه كان يحاول ربط مغذيّ طبي في وريد امرأة كانت تأنّ .  .

تبيّن بعد حين انها أمه وانه قدم على عجل راكباً ذلك الحصان القوي حاملاً ما علّمته الحياة المدمّرة، من طعام و وسائل انقاذ الحياة من الأنحاء القريبة، لأنقاذ امه التي تركها وحيدة لمحاولته تدبير ارزاق، لأن وادي باليسان كان تحت الحظر الأداري الذي يمنع وصول الأرزاق اليه !! حين وقع ذلك الهجوم الوحشي الذي لم يكن مألوفاً ؟ !

قمت بمساعدته على ربط المغذيّ لوالدته بعد ان عرفني و حيّاني بإسمي " دكتور صادق " وتذكّرني حين كنت الطبيب في مقر قاطعنا في قرية " شيخ وسّان " في اعوام 82 ـ 1983، و قدّم نفسه بإسم " ريبوار " ، واضفت الى المغذي شيئاً من الـ "اتروبين" من امبولات قليلة كانت في الحقيبة الطبية التي كنت احملها، و تحدّث لي عن القصف الذي كان مختلطاً من صواريخ و رمي انواع من شبه قناني كبيرة او براميل بلاستيكية تتحطم او تُفتح عند ارتطامها بالارض . .

و ان من نجى من المصابين هرب باتجاهات مختلفة و ان ضرب مركّز جرى على قرى "باليسان " و "شيخ وسّان " و ان هناك طبابة متروكة في قرية " خه تي " في الجانب الآخر من الوادي، استطاع جلب قنينة المغذي منها، و انه مستعد لجلب اية ادوية قد احتاجها مع تحذيره بضرورة ترك الوادي باسرع وقت كما اخبره عدد من البيشمركة في اعالي " خه تي "، كما يعملون هم و انهم سيعودون بعد مرور الوقت لإنقاذ من يمكن انقاذهم. (يتبع)

ربيع باليسان و الضربة الكيمياوية ! ـ 3 ـ

بعد ان عبّر "ريبوار" انه مستعد للإتيان بالادوية سريعا بذهابه و عودته السريعة بذلك الحصان الاسود القوي الجميل .  . كتبت ما احتاجه من الادوية و المغذيات التي يمكن ان تكون موجودة في تلك الطبابة المتروكة التي كان فيها مساعد طبي و تركها هارباً  كما قيل و نقله "ريبوار"  .  .  . و اتفقنا كمفرزة ان يذهب نصيران الى مقر الفوج في " دولي سماقولي " ، لإخبارهم باضطراري للتأخر لمعالجة المصابين و باني ساعود رفقة النصير الثالث الذي للاسف لا اتذكر اسمه، باسرع وقت، بعد ان ابلغنا رسالة التهيؤ للانتفاضة كما مرّ.  

و فعلاً عاد "ريبوار" محمّلاً بأغلب الادوية التي طلبتها و بالمغذيات بكميّة مقبولة بعد ساعات، في ظرف كان فيه الهواء طبيعي الرائحة، بلا روائح التفاح و الخل و الثوم و الخردل التي تشيعها الغازات السامة في العادة، الأمر الذي شجّعني على محاولة انقاذ اكبر عدد ممكن و الالتزام بعدم النزول أكثر الى عمق الوادي، و غير عارف بالمدى الزمني لسموم الغازات تلك التي اثبت بعدئذ انها خليط من الغازات السامة كما عرفت لاحقاً.  

و بعد التأكّد بواسطة السماعة الطبية و جسّ النبض، من ان عدداً من الضحايا كانوا احياء بالبحث عنهم و اخراجهم من بين الجثث .  . استطعنا مرافقي و انا انقاذ اكثر من عشرين مصاباً بحدود ماتوفر من الادوية و المغذيات، اضافة الى انقاذ حياة مصابين بحالات معقدة اخرى، بالكورتيزون والأتروبين والأمينوفللين وشئ من المهدئات، و لمواجهة تقرحات الأغشية وضيق التنفس، والأضطرابات العصبية المتنوعة كالتقيؤ القوي المتواصل بالصراخ و تشنجات العضلات و لمن فقد البصر  و لمن عاني من الحساسية المفرطة للعيون بتأثير سموم الغازات، وسط الصراخ الذي بدأ و ملأ المكان  .  .

كان همّنا انقاذ الضحايا من الموت بأية وسيلة و باسرع وقت، و قد غلب الواجب الانساني كطبيب على الواجبات الاخرى، في وقت لامعرفة لأي طبيب مدني عراقي بالتعامل مع ضحايا السلاح الكيمياوي، الاّ المعارف السرية لأطباء الوحدات الخاصة العسكرية و المخابراتية التابعة لصدام مباشرة، كما تبيّن بعدئذ.

امّا مارواه الأهالي آنذاك و بعد ذاك فقد كان مرعباً رهيباً :

"  .  .  . القت السمتيات قنابل كانت تنفجر باصوات مكتومة لاكاصوات انفجار القنابل التي الف صوتها حتى الأطفال، وانما القت براميل، تكسّرت وفاحت منها روائح كروائح التفاح والثوم، فيما كانت السمتيات الأخرى تمشّط الجبال والمرتفعات المحيطة و مسالك الصعود اليها بقذائفها، مانعة الناس من الألتجاء اليها ولحصرهم في منطقة التأثير الأقوى لتلك الغازات السامة (*). كي يُصاب اكبر عدد منهم بالسلاح الكيمياوي، في مذبحة كيمياوية أُعد لها بوسائل شيطانية متطورة.

في الوقت ذاته تدفّقت اعداد من القوات الحكومية، من شاحنات كبيرة متنوعة، مكشوفة ومغطات، من جهتي الطريق العام وبشكل اخص من جهة رانية، كانت تحمل الآلاف من افراد القوات الخاصة والجاش الذين كانوا يلبسون ملابس وعباءات الوقاية من الغازات الكيمياوية، و نظاراتها المخيفة . . هاجموا تلك القرى الجميلة العزلاء المرتعبة التي قاوم ابناؤها مع من كان موجوداً من البيشمه ركة بما يستطيعون، الاّ انهم كانوا يتساقطون واحداً اثر آخر بتأثير الغازات السامة . .

و فيما هربت اعداد من المصابين الى مستشفى خليفان لعلاج من يمكن علاجه بوجوب قولهم ( انهم ضحايا لقصف طائرات ايرانية) في زمن الحرب، لأن من خالف ذلك القول كان يُعتقل فوراً دون اي علاج  .  .  حمّلوا الشاحنات بالأهالي المصابين احياءً وامواتاً، شيباً وشباناً، رجالاً ونساءاً واطفالاً، ولم يعرف احد الى اين نُقلوا ؟ ! في وقت اختفى عدد في المغاور او في الحقول . ."

كانوا كالمجرم الذي اراد تدمير كلّ مايدل على جريمته، على مجزرته المروّعة بحق البشر . . التي نجى منها القليل حاملاً تأثيراتها المروّعة بجسمه التي تظهر فوراً او لاحقاً، وناقلاً ايّاها الى ابنائه وبناته مذكّراً البشر . . بوجود اعداء للبشر، اعداء ينبغي ان لايمرّوا وان يعاقبوا علناً وان يكونوا عبرة لمن اعتبر !!!

اشّرتْ مجاميع البيشمركة من كلّ القوى من بُعد هناك بالايدي و بالجمدانيات ، لبعضها  بضرورة مساعدة من يمكن مساعدته على عجل، وترك المنطقة بسرعة ذلك اليوم، لمخاطر السموم الفاعلة التي نسى الجميع ان تأثيرها كان يتواصل، خاصة وانهم كانوا في حوض الوادي امام تلك المأساة البشرية  .   .  وتفرّقوا بعد ان وضعوا خطة للأنقاذ والأسعاف وفق ما كانوا يستطيعون عليه .

لقد كانت تلك مأساة قصف قرى دولي باليسان بالأسلحة الكيمياوية . . . شيخ وسان، باليسان ،جيوة وجيوة، ده راج، خه تي، آلانه . . التي احتضنت البيشمه ركة والأنصار، كرداً، عرباً، فيليين، كلدوآشوريين، صابئة وتركماناً، وايزيدية وآوتهم واطعمتهم، وساعدت وحمت جرحاهم،  كما عشتها و أُصبْتُ بها . . (انتهى)

20 / 4 / 2019 ، د. مهند البراك / طبيب

(*) الغازات السامة اثقل من الهواء، لذا فانها تستقر في الوديان .

  كتب بتأريخ :  الجمعة 26-04-2019     عدد القراء :  2721       عدد التعليقات : 0