الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ارحلو... الاقسام 1، 2، 3، 4، 5

ارحل ... شعار رافق الإنتفاضات الجماهيرية في بعض البلدان العربية التي تكلل بالنجاح في بعضها ولم يحالفه الحظ بالتحقق في البعض الآخر . وبما ان وطننا قد تجاوز مرحلة التسلط الدكتاتوري الفردي ، فلم تعد صياغة هذا الشعار بالمفرد تفي بتطلعات شعبنا الذي يريد الرحيل لزمرة احزاب الإسلام السياسي التي اوصلت وطننا وقادت شعبنا الى المآسي والآلام المرتبطة بكل ما هو كارثي تحقق خلال الست عشرة سنة الماضية بحيث اصبح شعار إرحلوا هو الذي يتماشى مع وضعنا الحالي.

لم تزل الساحة السياسية العراقية ترفدنا كل يوم بالمزيد من الهبوط والتدني على مختلف المستويات الذي تواصل مسيرتها فيه احزاب الإسلام السياسي ومريديها من تجار الدين وسارقي اموال الشعب العراقي وكل لصوص العملية السياسية الذين فقدوا حتى ادنى درجات الشعور بالخجل حينما يواجههم الشعب بشعاراته الواقعية المعبرة عما يضمره هذا الشعب لهؤلاء اللصوص من اوصاف اجتماعية واخلاقية . احزاب الإسلام السياسي التي تعيش اليوم تشرذمها المميت الذي احالها الى عصابات لا هم لها إلا الإستمرار في الحكم لتواصل الإستمرار بانتهاك كل ما تدعيه من مبادئ دينية تبتعد عنها سنيناً ضوئية في كل يوم يمر عليها في قيادة العملية السياسية في وطننا. إن مجرد نظرة خاطفة على المقارنة بين ما تدعيه هذه الأحزاب من ثوابت دينية وبين ما تمارسه فعلاً من جرائم بحق الشعب والوطن ، وما تتراشق به من تهم الفساد والخراب الذي تمارسه منذ ان جاء بها الإحتلال الأمريكي لوطننا بعد سقوط البعثفاشية المقيتة عام 2003 وحتى يومنا هذا ، وكل ما تمارسه من سياسات الطائفية والعنصرية والعشائرية والمناطقية الشوفينية التي فرضتها على الساحة السياسية العراقية بقوة السلاح ، لا بقناعة المبادئ ، حتى غدت هذه الساحة ليس مسرحاً لنزاعات هذه الأحزاب فقط ، بل ونشط فيها لقتل العرااقيين وتهديم الوطن كل مَن هب ودب من الإرهابيين البعثيين والقاعديين والداعشيين والإسلامويين والقومانيين ، الذين إستظلوا بمظلة مقاومة الإحتلال التي أصبحت إهزوجة الجميع الذي يتنازع على السباق في عزف إسطوانتها التي زاد صدؤها يوماً بعد يوم حتى أصبح المفهوم الوطني المخلص لمقاومة الإحتلال أمراً يستعصي فهمه بين هذا الزعيق الذي تطلقه أبواق عصابات الإرهاب التي طالما تناغمت مع أبواق عصابات المليشيات الدينية لأحزاب الإسلام السياسي التي جعلت من إعتلاءها قمة السلطة وسيلة أخرى من وسائل الإرهاب التي عاشها الشعب العراقي على شكل إغتيالات لذوي الكفاءات العلمية والثقافية إن تجرأ أحدهم على نقد هذا التصرف او ذاك من قبل قادة أو كوادر أو حتى القواعد البسيطة لأحزاب الإسلام السياسي . أو على شكل محاربة النساء في مفردات حياتهن في الملبس والمأكل والمشرب والمساهمة في الحياة الإجتماعية ، حتى أصبح قتل النساء المباشر أو رفع شعارات التهديد على الجدران أو الملاحقات في الشوارع ، المهمة الرئيسية التي مارستها هذه العصابات على مسمع ومرأى وقبول من أحزابها . أو على شكل تهجيرات للمواطنين لتحقيق سياسة المناطق المقفلة لهذه الطائفة أو تلك أو حتى لهذه الفرقة الدينية او تلك التي تمتلك قوة السلطة إضافة إلى قوة السلاح . وغير ذلك من العمليات الإجرامية التي أضافتها هذه المليشيات إلى أعمال ألإرهاب التي يمارسها البعثيون والقاعديون والداعشيون والمتأسلمون والقومانيون .

حين ندرس الوضع المتأزم الذي يمر به الوطن اليوم بعد مرور أكثر من ست عشرة سنة على سقوط البعثفاشية المقيتة وبعد إستلام أحزاب الإسلام السياسي بالعراق مسؤولية الحكم لا نجد بديلاً للخروج من هذا المأزق ، الذي يلتهم الوطن جزءً بعد جزء يومياً ، سوى دعوة هذه الأحزاب إلى الإعتراف بفشلها ، والإعتراف بالخطأ فضيلة كما يقال ، وقد اعترف بعض قادتهم بذلك فعلاً ،" راجع على سبيل المثال . https://www.youtube.com/watch?v=3LVqoTHqtLA

والتنحي عن السلطة السياسية التي فشلت فيها وركونها إلى الإرشاد والتوجيه الديني الذي ربما تجيده خيراً من السياسة، إن وجد اصلاً من يجيد ذلك اليوم بين صفوفها التي امتلأت باللصوص والفاسدين في كل المجالات . إذ من خلال هذا التنحي قد نصل إلى الوضع الذي يستطيع فيه المؤهلون لقيادة الوطن من نبذ الطائفية والقومانية والعشائرية والمناطقية التي جرى على أساسها وضع سياسة المحاصصات موضع التنفيذ والتي تركت الباب مفتوحاً على مصراعيه للفساد الإداري والمالي وحتى الأخلاقي الذي أوصل العراق خلال هذه السنوات العجاف إلى حضيض المستوى العالمي في كل هذه المجالات . ومن خلال هذا التنحي قد يتفق المخلصون لهذا الوطن على برنامج سياسي وطني ، وليس محاصصاتي اسلاموي طائفي قوماني ، ينقذ الشعب والوطن من مغبة فسح المجال امام عمل عصابات البعثفاشية وخلايا الدواعش النائمة وكل المتربصين بوطننا . ومن خلال هذا التنحي سيعود الكثير من أصحاب الكفاءات الذين لا يزالون بعيدين عن الوطن لعدم نجاح أحزاب الإسلام السياسي المتسلطة على الحكم بضمان سلامة وجودهم على أرض وطنهم ، ناهيك عن ضمانة وضع الشخص المناسب في المكان المناسب ، هذا المبدأ الذي جردته سياسة المحاصصات الطاتئفية والقومانية العشائرية من أي معنى عملي له . ومن خلال هذا التنحي سيفقد المتدخلون في شؤون العراق قواعد عملهم في هذا الحزب أو ذاك أو في هذه الطائفة أو العشيرة أو تلك ، وبذلك قد ينجو الشعب من جرائم العصابات التي تمارس الإرهاب ضده سواءً بإسناد من دولة جوار أو من حزب سياسي أو من حركة دينية أو تجمع قوماني عشائري داخل وخارج الوطن . ومن خلال هذا التنحي يمكن فسح المجال أمام المخلصين من بنات وأبناء وطننا العرق أن يوقفوا هذه السرقات الملياردية التي مارسها ويمارسها وسيظل يمارسها فرسان أحزاب الإسلام السياسي طيلة مدة وجودهم على رأس السلطة ، وهذا ما أثبتته السنين الأخيرة التي يتراشق فيها هؤلاء الفرسان باتهام كل واحد منهم للآخر في هذه السرقات وذلك حينما يعتلون منابرهم أو منصات خطاباتهم مبسملين محوقلين ليقذفوا بني دينهم بكل ما يرفضه الدين من سيئات دأبوا جميعاً على ممارستها . وقد يقود هذا التنحي الى عودة سيادة القانون والتخلي عن الحلول العشائرية للمشاكل الإجتماعية التي تتفاقم يوماً بعد يوم . وأخيراً وليس آخراً فقد يقود هذا التنحي إلى أن يرى الناس بعض بصيص الأمل بتوفير الخدمات الضرورية لحياتهم بدءً بالماء والكهرباء والطبابة والمجاري والطرقات الداخلية والخارجية والمدارس المؤهلة للتعليم فعلاً واحترام الحريات الشخصية الدينية منها والسياسية والإجتماعية وانتهاءً بتوفير العمل للجماهير العاطلة وتوزيع الوظائف على المستحقين دون وضعها في سوق المزايدات وحصرها بمن يدفع أكثر لسماسرة أحزاب الإسلام السياسي التي تقف على قمة السلطة السياسية وتطهير قوى الأمن والشرطة والجيش من الإنتماءات الطائفية والمناطقية التي أخذت مأخذها من هذه المؤسسسات حتى شلت عملها في مكافحة الإرهاب والإرهابيين ، لا بل وقامت في بعض المناطق بتوفير الحماية لهم . ورحيل عصابات سرقة مال وخيرات الشعب العراقي من رواد الإسلام السياسي ومناصريهم من اصحاب المحاصصات قد يوفر الإمكانيات الأكثر والأسهل للبدء ببناء الدولة العراقية الديمقراطية المدنية التي لا يعترف بها هؤلاءالمتسلطون على الحكم اليوم لأن مثل هذه الدولة تقف لهم وللصوصيتهم بالمرصاد.

أحزاب الإسلام السياسي بالعراق فشلت لأنها ، إضافة إلى عدم كفاءتها السياسية ، لا تمتلك بُعد النظر في حركة التاريخ الذي وضع أمامها التجارب التي لم تستطع إستيعابها ودراستها بشكل يمكنها من إستخلاص العبر والدروس من هذه التجارب ، ولو أنها قامت بذلك بجدية تنطلق من ثوابتها فعلاً وليس من أهواءها الجانحة إلى السلطة والإثراء ، لما وجدت غير التنحي عن الحكم كوسيلة تضمن لها الحفاظ على ماء الوجه الذي تبدد بشكل لا تستطيع معه بذكر أي حزب من أحزاب الإسلام السياسي بين المواطنين ، إلا وارتسمت علامات الإستفهام على وجوههم حول السرقات والرشاوي والمحسوبية والتهديد والتزوير والإكراه ومحاربة الرزق وفرض الأتاوات والتجارة بالفتاوى وإشغال الوظائف بدون تأهيل والتدني الخلقي وغير ذلك الكثير مما يجري بالعراق اليوم منذ أن تسلطت عليه أحزاب الإسلام السياسي قبل ست عشرة سنة. ونظرة سريعة على هذه التجارب التي مر بها ألإسلام السياسي ، والتي لم تستوعبها أحزابه العراقية ترينا المأزق الذي تتحرك ضمنه هذه الأحزاب في الوقت الحاضر والذي أصبح يضيق عليها كالشرنقة يوماً بعد يوم ، وهذا ما سنتطرق له في القسم الثاني من هذا الموضوع.

ارحلوا 2

الإسلام السياسي بمفهومه الحديث الذي تبلور بعد تشكيل حركة ألأخوان المسلمين في مصر على يد السيد حسن البنا في اواخر عشرينات القرن الماضي والذي اقترنت ولادته بالمخابرات البريطانية ( راجع على سبيل المثال لا الحصر)

https://www.youtube.com/watch?v=03tnNoZq2Ps

هذا الإسلام السياسي الإخواني المنشأ خاض تجارب عديدة في مناطق مختلفة من العالم أراد من خلالها تحقيق هدفه ألأساسي المتمثل بالدولة الدينية . لقد إختلفت الرؤى وتعددت المفاهيم حول ماهية هذه الدولة بعد أن إختلفت وتعددت التنظيمات التي إنسلخت عن التنظيم ألأم وبعد أن برزت أحزاب وتنظيمات في المجتمعات الإسلامية وضع كل منها برامجه وتصوراته حول المحور الذي ترتكز عليه هذه الدولة والذي لم يتجاوز الدين الإسلامي الذي فسره كل على هواه ووظفه كل على ما يرى فيه من تحقيق لمآربه السياسية أو نزواته الشخصية أو الحزبية التي كثيرآ ما إبتعدت عن جوهر الدين وتعاليمه التي يروجون لها على الأقل . لقد أتبتت هذه التجارب الدينية جميعآ وبدون إستثناء بأنها غير مؤهلة لتحقيق النظم السياسية التي يمكنها التعامل مع الواقع اليومي الذي يمر به العالم اليوم , ناهيك عن التجاوب لطموحات الجماهير التي تريد التجمعات الدينية المختلفة التحكم بها من خلال فرض مفهومها للدين عبر قوانين بدائية جائرة , إذ أنها جعلت من حقول تجاربها مناطق تعيش ضمن الخصوصية التي إكتشفها على حين غرة دهاقنة الخطاب الديني فأثبتوا بذلك مدى تخلف خطابهم الذي جاء بفشل تجاربهم هذه كحصيلة حاصل لتوظيف الدين وإستغلاله.

سنحاول التطرق لبعض هذه المشاريع الفاشلة لا لتعليل ومناقشة أسباب فشلها , إذ أن مثل هذا ألأمر لا يحتاج إلى جهد وعناء للوقوف على هذه ألأسباب التي لا تتعدى التجارة بالدين التي مارسها تجار يجهلون حتى ماهية البضاعة التي يتاجرون بها , بل لنرى حتمية هذا الفشل الذي صاحب هذه المشاريع بالرغم من تباين المنطلقات والتوجهات في توظيف الدين لتحقيق النظام السياسي الذي يتطلع إليه منفذو هذه المشاريع . بعبارة اخرى يمكن القول بكل تأكيد ان مجرد وضع الدين كموجِه للسياسة امر مكتوب له الفشل الأكيد حتى وان تعددت المناهج الدينية التي تدعوا الى مثل هذه المشاريع ، والتاريخ العالمي يرينا ذلك بكل وضوح.

وللتوغل في هذه الفكرة أكثر نحاول مناقشتها من زوايا مختلفة حسب القناعات التي فرضتهاالجماعات الدينية المختلفة محاولة تطبيقها على الواقع العملي كنظام سياسي . فلقد لعب الإنتماء المذهبي لأحد المذهبين الكبريين في الدين الإسلامي , المذهب السني , بجميع مدارسه وتشعباته, الذي يمثل الغالبية العظمى من التعداد السكاني ألإسلامي العالمي والمذهب الشيعي , الذي تشعب هو الآخر, والذي يمثل الأقلية الواضحة بين مسلمي ألأرض كافة , لعبت هذه الإنتماءات دورآ أساسيآ في تحديد معالم النظام ألإسلامي الذي تبنته وعملت على تحقيقه القوى المنضوية تحت هذه الإنتماءات وفي مناطق مختلفة من مناطق ألإنتشار السكاني ألإسلامي . وربما نستطيع القول " رُبَّ ضارة نافعة " حينما نرى فشل جميع هذه التجارب , إذا ما أخذنا بالمفاهيم العالمية الحديثة لتحديد الفشل والنجاح لأي نظام سياسي في عالم القرن الحادي والعشرين.

لقد قامت دولة الطالبان في أفغانستان كدولة لها توجهاتها الدينية الإسلامية ضمن الثوابت السُنية التي تنطلق منها هذه الجماعة والتي جعلت منها نظامآ سياسيآ لا يمكن وصفه , من خلال ما حققه طيلة سنين تسلطه على رقاب الشعب الأفغاني , إلا بالهمجية والبدائية التي عطلت قدرات وقابليات هذا الشعب الذي بدى للعالم وكأنه يعيش في غياهب قرون ما قبل التاريخ . لقد أجبر هذا النظام التسلطي الرجعي البدائي في أفغانستان حتى تلك القوى التي ساهمت بتأسيسه ودعمه ماليآ وعسكريآ والمتمثلة بالمخابرات المركزية الأمريكية ونظام آل سعود في شبه الجزيرة العربية ،على التخلي عنه حيث لم تستطع هذه القوى حتى من إيجاد مبرر إيجابي واحد لإستمرارية وجود هذا النظام تستطيع التلويح به ولو من بعيد ضمن سياق دفاعها عنه. لقد قامت دولة الطالبان على نظرية الوقوف بوجه المد السوفيتي آنذاك وبتوجيه وتمويل من المخابرات السعودية والأمريكية. وسقط هذا النظام الإسلامي السُني على يد من أقاموه ومولوه كنتيجة حتمية لإنتهاء دوره الذي وضعه له مؤسسوه في محاربة الشيوعية في المنطقة إنطلاقآ من محاربة التدخل السوفيتي في أفغانستان آنذاك أولآ, ولعدم إستطاعة هذه القوى التي جاءت بهذا النظام ترويض وتجميل الهمجية التي واكبت جميع تصرفاته واقترنت بجميع قراراته محليآ وعالميآ ثانيآ , بحيث أصبح من المستحيل ألإشارة إلى سبب إيجابي واحد لإقناع ألآخرين باستمرارية وجوده ولجزع الشعب الأفغاني , ثالثآ , من تسلط عصابات الطالبان التي قننت, ضمن ضوابط شريعتها, كل تحرك في المجتمع الذي بدى وكأنه لا ينتقل من ظلمة إلا ليقع في أخرى أكثر سواداً وأشد تخلفآ . فسقط غير مأسوف عليه وسقط معه هذا المشروع المؤسس لدولة دينية إسلامية ضمن التوجه العام لمشروع الإسلام السياسي.

وكما فشل المشروع الأفغاني السُني فشل قبله المشروع ألإسلامي الجزائري الذي تبنته القوى ألإسلامية الجزائرية التي إنطلقت من ثوابتها ألإسلامية السُنية أيضآ , بالرغم من إختلافها عن ثوابت المدرسة التي يمثلها ألإسلام السياسي لدى حركة الطالبان . لقد أدى هذا التوجه ألإسلامي الجزائري الذي ظل يخطط لقيام الدولة ألإسلامية في الجزائر إلى أن يتكبد الشعب الجزائري مئات ألآلاف من الضحايا التي شملت جميع طبقات المجتمع الجزائري ولم يفرق " المجاهدون المسلمون " بين الشاب والشيخ أو المرأة والرجل أو الرضيع والصبي في عمليات الذبح التي كانت ترافقها صيحات التكبير والتسبيح بحمد الله . لقد كان هذا المشروع مرتبطآ بالجريمة التي وجد لها منفذوها مختلف الفتاوى والتبريرات الدينية التي نسجوها وفق مقاسات فهم عقولهم الضامرة, إلا أن ذلك لا يتعارض ووضع هذا المشروع الإجرامي ضمن محاولات ألإسلام السياسي الداعي لتأسيس الدولة الدينية ألإسلامية .

وليس ببعيد عنا ذلك التوجه الهمجي لدولة الدواعش التي استنسخت التجربة الجزائرية الفاشلة محاولة اضفاء همجية ووحشية اكثر على مقومات الدولة الإسلامية في العراق والشام .

وقد رأينا مؤخراً كيف اطاح الشعب السوداني بدولة البشير التي تنهج النموذج الإسلامي لبناء الدولة التي اوصلت الشعب السوداني الى اسوأ ما عاشه من تردي لكل مفاصل الحياة واستغلال خيرات البلد للدكتاتور الإسلامي وحاشيته الذين حاولوا لثلاثة عقود من تاريخ السودان فرض الإسلام السياسي بثوابته السنية أيضآ من خلال التبجح بتطبيق تعاليم الشريعة الإسلامية التي إتخذت منها ذريعة لقتل أبناء الشعب السوداني في الجنوب وفرض القوانين المجحفة المنافية للحياة الإنسانية في عموم القطر السوداني . وكلنا عاش التصرف الهمجي ضد الصحفية السودانية لبنى وزميلاتها بسبب أرتدائهن للبنطلون..

أما في الصومال الذي جعلت منه المحاكم الصومالية السنية الثوابت أيضآ ساحة للإقتتال ليس بين أبناء الوطن وحسب بل بينهم وبين جيرانهم أيضآ بغية خلق مبررات القهر والإضطهاد والتحكم برقاب الناس بالعزف على وتر الدفاع عن الوطن ، فلم يكن نصيبه من التخلف والإنحطاط والسير بالبلد نحو الفقر والمجاعة والإضطهاد باحسن مما آلت اليه الإنظمة الدينية التي سبقته.

وسنة واحدة من حكم الأخوان المسلمين في مصر كانت كافية لأن تبين بوضوح كيف يستغل الإسلاميون المبادئ الديمقراطية ، بالرغم من التشوهات التي يدخلونها عليها ، للوصول بواسطتها الى قمة السلطة السياسية ليضربوا بعدئذ هذه المبادئ عرض الحائط من خلال التسلط الدكتاتوري للإنفراد بالسلطة التي رفضها الشعب المصري طارداً هذه الدولة الدينية من على ارضه التي اصر شعبها على صيانة جميع حقوقه وعلى مختلف المجالات من عبث الإسلاميين وجرائمهم.

ولا تنتهي هذه السلسلة من اخفاقات الدولة الدينية بالتوجه السائد على ارض منشأ الإسلام فيما يسمى اليوم بالمملكة العربية السعودية التي لا حاجة لشرح طبيعة الحكم الهمجي فيها والذي يستند بكل مفاصل الدولة ومؤسساتها على توظيف الفكر الديني كمنهاج ثابت للدولة التي اصبحت بمرور الزمن تشكل رمزاً من رموز العصور الوسطى التي يسعى فيها البعض لتحسين قباحة النظام ببعض ما يسمونه من الإصلاحات التي لا تخرج عن الإطار الديني الذي يعمل بموجبه هؤلاء المصلحون ايضاً.

هذه المشاريع الفاشلة للإسلام السياسي السني التي لا يرتبط فشلها بالمدرسة التي يتبنى ثوابتها هذا المشروع أو ذاك , بل بتوظيف الدين ذو الطبيعة الروحية التأملية العبادية التي تتغلب عليها الخصوصية الشخصية أكثر من تلك العمومية التي تجعل الدين رهينة لتقلبات وضع سياسي أو إقتصادي معين أو لمزاجات شخص أو مجموعة ما . هذه المشاريع التي رافقتها الجريمة وأشاعت مبدأ القتل وشرعنت إستعمال العنف حتى بدى وكأنه العلامة الفارقة لمثل هده المشاريع , لا ينبغي أن يرتبط فشلها بتوجهها السني , بل بإرتباطها بتوظيف الدين لخدمة أهدافها السياسية وفشلها في هذا التوظيف الذي ربطته بالعنف دومآ , إذ أن التوجه الديني الآخر الذي خطط ويخطط لتأسيس مشروع الدولة الدينية إنطلاقآ من ثوابت الإسلام الشيعي لا يقل بؤسآ وهمجية ووحشية وتوظيفآ فاشلآ للدين عن نظيره السني ولا تتحقق له فرص نجاح أكثر منه , حيث إرتبط هذا التوجه أيضآ بعامل العنف المؤدي إلى الجريمة متنكرآ هو ألآخر لكل أساليب ألإقناع التي تشكل القاعدة ألأساسية لأي فكر بما فيه الفكر الديني. وخير مثال صارخ على فشل هذا التوجه الطائفي الشيعي يتجلى في نظام ولاية الفقيه الذي سنناقشه في القسم الآخر من هذا الموضوع ، إضافة الى مناقشة ما يتفاخر به ادعياء الدولة الدينية من ذلك الهجين المشوه للدولة في بعض الدول ذات الأغلبية الإسلامية والتي تدعي انها تؤسس لدولة مدنية حديثة بتوجه اسلامي كتركيا والباكستان مثلاً ، او المجتمعات الخليطة ذات المذاهب المختلطة التي تؤسس لهذا الهجين من الدول ، حيث يعتبرها الإسلام السياسي نماذج ناجحة . إلا ان الفشل الذريع الذي يرافق مثل هذه الدول لا يمكن لكل ذي بصر وبصيرة انكاره، وهذا ما سنتطرق اليه في القسم الثالث من هذا الموضوع

ارحلوا 3

لم يكن فشل الدولة الدينية الذي رافق النماذج السنية، التي تطرقنا اليها آنفاً ، يقتصر على التبعية المذهبية السنية ، فولاية الفقيه التي تبناها مشروع ألإسلام السياسي الشيعي في أيران أثبتت بعد مرور اربعة عقود على تاسيسها مدى تخلف القائمين على هذا النظام عن الركب العالمي ومدى كذب الأطروحات الدينية التي يُسوقها مشايخ وملالي هذا النظام الدكتاتوري الهمجي الذي لم يكسب طيلة هذه العقود الأربعة غير العزلة العالمية التي يفتخر بها أحيانآ حينما يقرع على طبول خصوصيته ألإسلامية التي ما إنفكت تردد ذلك النغم النشاز الذي لم يتوقف عن التأكيد على نظرية المؤامرة على ألإسلام والمسلمين, وذلك كلما دخل أزمة محلية أو عالمية لا يستطيع الإفلات منها إلا من خلال أحكام جائرة وسياسات عقيمة لم تجلب للشعب ألإيراني ، ذو التراث الحضاري الموغل بالقدم ، غير المتاهات والتخبط والدكتاتورية . لقد تظاهر الشعب الإيراني في كثير من المدن الإيرانية ، خاصة الكبرى منها ، وفي مناسبات كثيرة انتخابية وغير انتخابية ، والتي قابلتها عصابات ولاية الفقيه بكل قسوة وهمجية سقط بسببها عشرات القتلى والجرحى ، ودلَّ ذلك كله ، على مدى أكاذيب هذا النظام بادعاءه الديمقراطية ومدى تخلف هذا النهج الذي يسمونه دينياً حتى عن المبادئ الدينية التي يروجون لها انفسهم على انها ترفض الظلم والجور والإضطهاد.

إن من دلالات فشل هذا النظام الملائي بروز حركة اصلاحية من صلب هذا النظام الذي اعترف بعض دعاته بفشله في سنينه الأولى مطالبين باصلاحه ، إلا ان حتى هذه الحركة الإصلاحية جوبهت بالقمع والتنكيل بالرغم من انطلاقها من مؤشرات دينية تمثل نفس الطائفة التي اسس لها دعاة ولاية الفقيه.

لقد نشأت هذه الحركة في رحم النظام الإيراني الثيوقراطي وولدت وترعرعت فيه كرد فعل على ممارسات الهيمنة التي مارسها المتربعون على سلطة هذا النظام والذين حاولو من خلالها التنكر لما بدأت تشعر وتفكر به الملايين من بنات وأبناء الشعب الإيراني ، خاصة تلك الفئات الشابة التي تشكل الغالبية العظمى من هذا الشعب . لقد دلت جميع الإحصائيات الأخيرة على ان أكثر من ثلثي الشعب الإيراني هم تحت سن الثلاثين من العمر ، وبنفس الوقت دلت الكثير من الإحصائيات على ان هذه الفئات من المجتمع التي لم تعش عصر الشاه بوعي أو لم تعشه أصلاً ، تقف ضد سياسة الإكراه الديني الذي تمارسه المجاميع المسلحة على شوارع المدن الإيرانية والمتعلق بالملبس والمأكل والمشرب والموسيقى والفن وكل ما يتعلق بما تطمح إليه حياة شباب القرن الحادي والعشرين .

لقد جاءت الحركة ألإصلاحية من صلب هذا النظام الثيوقراطي لتنقذ هذا النظام من المزالق الخطيرة التي إنزلق إليها والتي ستؤدي بالمحافظين والإصلاحيين على السواء فيما إذا تحول هذا الرفض الشعبي إلى حركة ثورية ديمقراطية حقاً تؤمن بحرية الإنسان وتحترم إنسانيته أيضاً وليس دينه أو معتقده أو قوميته فقط . لقد غيبت دولة ولاية الفقيه كثيراً من الأصوات الرافضة لنهجها في السلطة ، كما انها لم تسمح للمئات من المرشحين سواءً في مجال الإنتخابات البرلمانية أو الإنتخابات الرئاسية ليرشحوا انفسهم باعتبارهم من غير المؤمنين بالخط السياسي الذي يتبناه ساسة ولاية الفقيه. إن هذه الترشيحات والإنتخابات تُذكر العراقيين بتلك الترشيحات والإنتخابات التي كانت تنظمها دكتاتورية البعثفاشية ، حيث كان لا يُسمح لأي مرشح بتقديم أوراق ترشيحه ما لم يوقع على قناعته بمبادئ الحزب والثورة والتزامه بتطبيق هذه المبادئ في عمله . وظل العراقيون يتندرون على هذه السياسة الخرقاء كونها تأتي بمنتسبي حزب البعثفاشية مهما طالت أو عرضت وتشعبت الدعاية الإنتخابية للمرشحين المختلفين فإن الفائزين ينتمون إلى طينة واحدة . وعلى هذا الأساس وصف العراقيون إنتخابات دكتاتورية البعثفاشية على أنها تنطلق من سياسة الإختيار بين الأرنب والغزال ( تريد أرنب أخذ أرنب ، تريد غزال أخذ أرنب) وهذا ما تحاول كل الأنظمة الدكتاتورية السير عليه ، خاصة بعد أن إشتدت الطلبات الجماهيرية إلى التغيير ، حيث عمدت هذه الأنظمة إلى ترقيع قباحاتها باقنعة سمتها إنتخابات أرادت من ورائها إعطاء أنظمتها سحنة من سحنات الديمقراطية ، إلا أنها مخلوطة بنَفَس دكتاتوري تسلطي قمعي . إن التزمت الملائي الذي قذف بالمجتمع الإيراني إلى دياجير التفكك والإنحلال من خلال إنتشار المخدرات والعلاقات الجنسية التي صبغوها بصبغة دينية ، كزواج المتعة مثلاً ، وانتهاك حقوق الإنسان بتنفيذ عقوبات الإعدام والرجم التي وضعوها هي الأخرى في اطر دينية جاءت بها تأويلاتهم للنص الديني ليقضوا بها على معارضيهم أو ليشبعوا بها نزوات بعض معمميهم ، وليقمعوا اية حركة تحرر نتشد العدالة الإجتماعية والحريات السياسية والثقافية ، كما يحصل الأن للقوميتين العربية في الأحواز والكوردية في كوردستان الشرقية ، وليؤججوا ، كسابقتهم البعثفاشية ، ألأجواء العالمية بقرع طبول الحرب من خلال إستغلال بعض القضايا المركزية على الساحة السياسية الشرق أوسطية والمتاجرة بها ، كالقضية الفلسطينية التي تتاجر بها السياسة العربية منذ اكثر من سبعين سنة ، فلم تات إلا بالنكبات تلو النكبات لأصحاب القضية انفسهم، للشعب الفلسطيني ، ولينشروا مآسي هذا النظام الدكتاتوري ، نظام ولاية الفقيه ، من خلال دعم الإرهاب وتمويل المنظمات الإرهابية ونشاط عملائهم ، على اراضي ألأقطار المجاورة . وكلنا يعلم ما عانى ويعاني منه وطننا العراق من هذه السياسة الحمقاء التي يساهم في تسويقها على الساحة السياسية العراقية بعض أحزاب الإسلام السياسي ورموزه التي ترى وجودها على قمة السلطة العراقية من خلال الدعم المادي والعسكري والمعنوي الذي تتلقاه من معممي ولاية الفقيه . هذا بالإضافة إلى توجه سياسة ولاية الفقيه إلى خلق سياسة المَحاور في منطقة الشرق الأوسط لتأجيج العداء والتناحر وذلك من خلال التاثير على سياسة بعض الدول بالطرق المختلفة وتوظيف اموال الشعب الإيراني من العائدات النفطية لتحقيق هذه السياسة الخرقاء.

ألصراع الذي يدور اليوم بين رافضي نظام ولاية الفقيه ، ليس في ايران فقط ، ومؤيديها انعكس على التشرذم الذي تعاني منه احزاب الإسلام السياسي العراقية ، وهو صراع على السلطة ضمن هذه التشكيلة الرامية إلى تحقيق معتقداتها الدينية في دولة يسمونها إسلامية تضمن لهم مقومات هذه السلطة ، كما تضمن لبعضهم مقومات ألإثراء اللامشروع من خلال سيطرتهم على بعض المرافق الإقتصادية المهمة في الدولة الإيرانية ، وفي اي مجتمع آخر يتبوأون فيه مراكز القيادة السياسية ، كما في العراق مثلاً.

ولا نريد إطالة الحديث حول دكتاتورية دولة ولاية الفقيه التي ستؤول الى الفشل حتماً كما آلت اليه كل الدول الدينية على مر التاريخ ، بل نكتفي بالقول ان كل ما تدعيه هذه الدولة من مظاهر الديمقراطية والحرية يمكن الشطب عليه بشكل مباشر وسريع بجرة قلم من المرشد الأعلى الذي جعله دستور هذه الدولة الحاكم بامره رغم انف البرلمان او اية مؤسسة تنفيذية اخرى.

إلا أن محاولات تبني مشاريع الإسلام السياسي لم تقتصر على المجتمعات ذات الأغلبية السكانية لهذا المذهب أو ذاك , بل تجاوزتها إلى المجتمعات ذات التوزيع السكاني المذهبي المتقارب , أي في تلك المجتمعات التي يتواجد فيها أتباع هذا المذهب أو ذاك بنسبة قد تجعل منه يفوز بفارق بسيط أو ليس كبيرآ جدآ على أتباع المذهب الآخر. لقد أظهرت مجريات ألأحداث في مثل هذه المناطق التي يمثلها العراق ولبنان أحسن تمثيل مدى فقر ألإسلام السياسي إلى وضوح المنهج وإمكانيات التعامل مع الواقع السياسي والإجتماعي والإقتصادي والعلمي الذي تمر به الجتمعات التي يتواجد فيها , بحيث أدى به إلى أللجوء إلى العنف لتصفية الحسابات الشخصية والعائلية والمناطقية والعشائرية ليس داخل أتباع المذهب الواحد فقط , بل وبين أتباع المذهبين أيضآ وكل يحمل راية ألإسلام ويكَبِر ويذكر إسم ألله على منحر ضحيته التي تستقبل الموت بالتكبير ايضاً ، والكل مسلمون والحمد لله.

إن ما يجري بالعراق اليوم لا يشذ عن هذا النمط الذي أصبح قاعدة ترافق هذا النوع من التوجه السياسي الذي يربطه مؤسسوه بالدين ألإسلامي . فأحزاب ألإسلام السياسي والمنظمات ألإسلامية داخل السلطة وخارجها أثبتت من خلال الوضع الذي تبلور عن سياستها على الساحة العراقيه بأن تحقيق مشروعها السياسي مرتبط بالعنف والجريمة والفساد ،وإن القائمين على هذا المشروع لا يختلفون في تخلفهم عن أشباههم من القائمين على مشاريع الإسلام السياسي ألأخرى خارج العراق , حتى وإن إختلفت أساليب القتل والعنف والنهب والسلب من مشروع إلى آخر. إنهم جميعآ يدّعون إنتسابهم إلى ألإسلام ولا يكفون عن تكرار مقولة وحدة ألإسلام أينما وُجد أتباع هذا الدين في مشارق ألأرض ومغاربها , إلا أنهم عاجزون تمامآ عن تحقيق وحدة أبناء الوطن الواحد ، لا بل المذهب الواحد ، المرتبطين ببعضهم البعض ليس إرتباطآ دينيآ وحسب , بل وإرتباطآ عائليآ واجتماعيآ ومهنيآ وقوميآ أيضآ . إن عجز ألإسلام السياسي هذا عن تحقيق أبسط مفاهيم الدين الذي يريد تمثيله على مختلف ألأصعدة الوطنية والمتمثلة بوحدة الهدف إنطلاقآ من القناعة بوحدة الدين, إن دل على شيئ فإنما يدل على كذب ونفاق ودجل جميع القائمين على تحقيق هذا المشروع حينما يجعلون الدين طريقهم لقتل أبناء الدين الواحد الذي يتبجحون بالإنتماء إليه , ويبين بما لا يقبل أدنى شك بأن هدفهم ليس دينيآ, بل سياسيآ بحتآ ألبسوه اللباس الديني ليمرروا تحايلهم عبر الدين على كثير من الناس في مجتمع كالمجتمع العراقي الذي عانى عقودآ من الإضطهاد والحرمان والقهر والتعتيم المعرفي وغياب الإنفتاح ألإعلامي الذي جعله التسلط البعثفاشي المقيت كالغريق الذي يتشبث بكل ما تقع عليه يداه . لقد أثبت القائمون على تنفيذ مشروع ألإسلام السياسي بالعراق أن المكاسب الشخصية البحته من مال وجاه ومميزات لم يكونوا يحلمون بها تأخذ الموقع ألأول ضمن أولوياتهم , يلي ذلك وضمن المرتبة الثانية من هذه الأولويات ألأهل والأقارب والعشيرة , أي صلة الرحم , مبررين ذلك دينيآ أيضآ بمقولة ألأقربون أولى بالمعروف , إذ شرعنوا سرقة أموال الوطن وأباحوا التلاعب بمقدرات الرعية من قبل القائمين على هذه الرعية للتمتع بها شخصياً أو لتوزيعها على ذوي القربى وجعلوا ذلك يقع ضمن أعمال المعروف , حسب فتاواهم . ثم يلي ذلك وفي المرتبة الثالثة من أولوياتهم الحزب أو الجماعة التي أوصلتهم إلى هذا الموقع بغض النظر عن سلوكية وتاريخ وأخلاق أفراد هذه الجماعة التي تضمن لصاحب الجاه هذا أمنه وحمايته ونفوذه مقابل الجماعات الأخرى المنافسة , نعم المنافسة في توظيف الدين . وهنا لا تلعب حتى الطائفة أي دور ولا يفرز حتى ألإنتماء الطائفي أي عامل يحدد إستعمال الوسيلة الناجعة للتخلص من هذا الخصم أو ذاك قتلآ أو إختطافآ أو أية وسيلة مشابهة أخرى ، المهم في ألأمر أن تؤدي هذه الوسيلة إلى ملئ خزانة الحزب لتكون عصاباته المسلحة مؤهلة في أي وقت للتخلص من منافسيه ألآخرين سواءً من الطائفة نفسها أو من خارجها من التنظيمات ألإسلامية ألأخرى , وجوزوا شرعآ إستعمال هذه الوسائل ضد التنظيمات غير ألإسلامية أيضآ . وفي المرتبة الرابعة من ألأولويات يقف ألإنتماء الطائفي ليشكل العامل المشترك مع الشركاء الآخرين في النهب والسلب والقتل والإختطاف . فبإسم الطائفة تقام حفلات النصر على أعداء الدين والمذهب وبإسم الطائفة تُخلق المناطق المُغلقة ويجبر الجار على التنكر لجاره والصديق لصديقه والزميل لزميله وربما الزوج لزوجته أو بالعكس , فللدين الطائفي هذا ضرورات تبيح المحذورات حسب الفقه المعمول به لدى فقهاء هذا الإسلام السياسي عمومآ , فلماذا لا يجري سحب العام على الخاص وكفى ألله المؤمنون ألإيمان بالطائفة دون سواها . وفي سياق هذه الأولويات تفتش عن شيئ إسمه الوطن وقد تجده أيضآ , ولكن كمن يجد ألأوراق المهملة في سلة المهملات , قد يمكن ألإستفادة منها يومآ ما كما يُستفاد من ألأوراق المهملة كمسوَّدات تُستعمل في ظرف إنتخابي طارئ أو نقاش تجاري عابر أو لأي غرض آخر شريطة أن لا يمس بجوهر ألأولويات التي ليس لمصطلح الهوية العراقية موقع فيها , وإن تجرأ أحد على النطق بها أمام دهاقنة ألإسلام السياسي فما هو إلا عَلماني كافر أو متآمر على الدين وأمته أو مجنون يهذي بمصطلح لا يقره الدين الذي لا وطن له ، حسب تأويلاتهم وما ينشره خطابهم.

ألا يجعل كل ذلك من شعار ارحلوا عن العراق ، ارحلوا عن هذا الوطن الذي تراجع من خلال سيطرتكم عليه طيلة السنين الست عشرة الماضية ، ألا يجعل من هذا الشعار ضرورة حياتية ملحة ما على العراقيين إلا العمل الدائب والنضال العسير لتحقيقه ؟ غير ان تحقيق هذا الشعار ورحيل زمر اللصوص عن ارض وطننا يفرض علينا ، نحن رواد الوطن والمواطنة ، ايجاد البداءل لهذا الوطن المنكوب ، وهذه البداءل ستكون موضوع حديثنا القادم .

ارحلوا القسم الرابع

دعاة الدولة الدينية في شقها الإسلامي طالما يتبجحون ببعض الأمثلة التي يعتبرونها ناجحة ، دون ان يتعبوا انفسهم على التفتيش عن اسباب فشل معظم ما تنفذ من برامجهم في تأسيس الدولة اليوم. وطالما يذكرون تركيا والباكستان كمثالين ناجحين لدولتهم الدينية الإسلامية المزعومة.

قد يطول الحديث حين التحدث عن ماهية الأنظمة السياسية السائدة في هاتين الدولتين . إلا ان ما يمكن ان يقال لعكس الواقع المعاش فعلاً لا يتعدى النظرة السريعة الفاحصة التي تبين لنا مدى فشل او نجاح هذين النظامين.

الدولة الباكستانية التي طالما يجري الحديث عن تقدمها وامتلاكها للسلاح الذري وديمقراطيتها هي دولة تحاول ان تمزج بين الديمقراطية والإنتماء الديني للإسلام الذي تضع ضوابطه ، كما يفهمها فقهاء هذه الدولة ، في مصاف الدستور الذي يدعو لتأسيس الدولة الديمقراطية الخاضعة للضوابط الدينية . وسوف لن نذهب بعيداً اذا قلنا بأن كيان هذه الدولة المرتكزة على الدين لا تختلف في ديمقراطيتها المزعومة عن ديمقراطية الدولة الصهيونية التي تنطلق من نفس المفاهيم الدينية بصيغتها اليهودية والتي يجري فيها كل انواع القهر والتعسف والإضطهاد لكل ما هو غير يهودي بالرغم من توثيفها الدين اليهودي لتمرير سياستها القمعية ، لا قناعة بهذا الدين ، بل هي تجارة به ، تماماً كتجارة الإسلام السياسي الذي توظفه الباكستان. ففي الباكستان يشكل الإنتماء الديني للإسلام واحداً من اسباب احترام هذا الإنسان ومعاملته بما يقتضي ذلك ، ولا ضير ان اتفقت هذه المعاملة مع النصوص الديمقراطية في دستور البلد ام لا. وهذه الدولة التي تدعي الديمقراطية لا تخجل من قيام شرطتها مثلاً على جلد من يجاهر بافطاره في شهر رمضان في وسط الشارع الذي يلقى فيه القبض عليه ، او ان ترفض المؤسسة الدينية الإسلامية ، بل وتحارب القوانين التي تنص على منع ضرب النساء ولم تتخذ الحكومة اية اجراءات رادعة لهذه المؤسسة، وهناك من الوثائق والأفلام ما يؤكد ذلك والكثير الآخر من توظيف منطلقات الإسلام السياسي في الشؤون العامة للدولة الباكستانية.

اما الدولة الأخرى التي يتبجح الإسلاميون بنجاحها المزعوم فقد كشرت عن انياب قادتها من حزب التنمية والعدالة الإسلامي الذي اعتمد الكذب والدجل والتسويف بغية الوصول الى الحكم لينقلب على كل ما كان يدعيه من قناعة بالديمقراطية وامتثالاً لمبادئ الدولة المدنية التي اسس لها كمال اتاتورك بعد نهاية الحرب العالمية الأولى التي قضت على السلطنة التركية التي ابتزت الشعوب التي حكمتها لمئات من السنين بنفس الأسلوب الذي يدعيه الإسلاميون اليوم والذي يعتمد على التجارة بالدين وجعله الأساس الرئيسي الذي تقوم عليه الدولة . لقد انكشفت سياسة اردوغان الدكتاتورية التي ترفض ان ينافسها احد على الحكم الإخواني الذي تسير عليه ، وما الغاء انتخابات رئيس بلدية اسطنبول المعارض للتوجه الإسلامي لحزب اردوغان إلا مثلاً واحداً ودليلاً على النهج المتخلف الذي يسير عليه الحزب الإسلامي التركي ، حزب اردوغان ، حزب التنمية والعدالة الحاكم . اما اضطهاد وقمع المعارضة بكل السبل الدكتاتورية والإعتداءات المتكررة على حدود الدول المجاورة كالعراق وسوريا فهي على قمة السياسة التي يتبعها حزب اردوغان في تركيا اليوم التي تسير بكل ثبات نحو دكتاتورية الحزب الواحد.

للأسباب التي طرحناها اعلاه والمتعلقة بفساد ودكتاتورية وتخلف والجهل بمقومات الدولة الحديثة التي تتصف بها احزاب الإسلام السياسي على اختلاف مذاهبها وتشعب فرقها وطوائفها ، ندعوا الى رحيل هذه الأحزاب من ساحة وطننا العراق الذي لم ينل من تسلطها طيلة الست عشرة سنة الماضية سوى التخلف على مختلف الأصعدة ، وسوى النهب والسلب لكل خيرات الوطن ، وسوى انتشار الفساد بكل انواعه وبكل مؤسسات الدولة ، وسوى ازدياد نسبة الفقر والجهل الى جانب تكديس المليارات لدى البعض الذي لم يكن يملك قوت يومه قبل ان يأت به الإحتلال لوطننا الذي اطاح بدكتاتورية البعثفاشية المقيتة. ولكن اية دولة نريد بعد رحيل شراذم اللصوص هذه ؟

يمكننا التمييز اليوم , في القرن الواحد والعشرين , وفي هذا المجال بين أربعة أنواع من علاقة المجتمع المتمثلة بشكل النظام ألإجتماعي والإقتصادي والسياسي والثقافي , أي علاقة الدولة المؤسساتية , بالدين من خلال المسؤولية العامة التي تتحملها الدولة تجاه جميع مواطنيها على ألإطلاق.

: النوع الأول هو نظام الدولة اللادينية ، والمستل من المفردة اللاتينية :Laizisim

Laicus

والذي يمكن ترجمة مضمونه بما يلي : تقليل أو إبعاد تأثير خصوصية الدين والمؤسسات الدينية الخاصة به على كل ما يتعلق بالطابع العام في المجتمع , أي بالدولة . وابرز مثال يمكن تقديمه في هذا المجال هو النظام القائم حاليآ في فرنسا . إذ يقوم هذا النظام على منع أي مظهر من مظاهر ألإشهار بالدين عبر أللباس أو الطقوس أو أية ممارسات أخرى في المجالات والمؤسسات الخاضعة لإدارة الدولة . فدرس الدين لا يُدرس في المدارس التابعة للدولة ولا تسمح الدولة للعاملين في مؤسساتها بإظهار أية دلالة تشير إلى إنتماءهم إلى دين معين . أي أن الدولة تتصرف مع جميع ألأديان التي يدين بها المجتمع تصرفآ حياديآ بحتآ ولا تزج نفسها بمفردات التدين أو عدم التدين لمواطنيها وتنظر إلى الدين كمسألة شخصية بحتة لا علاقة للدولة بها كمؤسسة عامة لكل مواطنيها . كما يحاول هذا النظام إبعاد أي تأثير ديني , مهما كان نوعه , على الدستور ألأساسي للدولة وعلى القوانين والتعليمات المتعلقة بإدارة شؤون هذه الدولة . بعبارة أخرى يمكن القول أن هذا النوع من الدول لا يعطي أي إهتمام لرعاية ألأمور الدينية التي تخضع للمؤسسات الدينية الخاضعة بدورها إلى رقابة الدولة باعتبارها مؤسسات إجتماعية كأي مؤسسات أخرى رياضية أو علمية أوفنية وغير ذلك . وتتجلى هذه الرقابة على طبيعة ممارسات هذه المؤسسات ماليآ واجتماعيآ بحيث لا تتناقض هذه الممارسات مع دستور الدولة الأساسي والقوانين المنبثقة عنه . كما ان على الدولة هذه أن تقدم الخدمات لهذه المؤسسات الدينية كما تقدمها إلى أية مؤسسة إجتماعية أخرى كالحماية من ألإعتداء عليها أو الخدمات العامة التي تتقاضى عليها الدولة أجورآ على شكل ضرائب أو أسعار لخدمات أخرى .

النوع الثاني هو نظام الدولة الدينية الثيوقراطية THEOCRACY

ألإغريقيين THEOS وتعني ألرب أو ألإله و KRATOS وتعني القوة أوالسطوة , حيث وضع الحاكم نفسه موضع ألأله وجعل من حكمه وسطوته حكمآ وسطوة إلهية . لقد طبقت هذا النوع من كيان الدولة المتمثلة بشخص حاكمها كثير من الشعوب سابقآ وتطبقه أو تحاول تطبيقه بعضها حاليآ . إذ تميزت الحضارات السومرية والبابلية والفرعونية والصينية القديمة بهذا النوع من الكيانات ألإجتماعية التي أسس فيها ألحكام دولآ أو كيانات دول تقوم على تأليه الحاكم الذي وضع نفسه موضع ألإله من خلال تسلط المؤسسات الدينية , التي تخضع له خضوعآ تامآ , على كل مفردات ومفاصل الحياة الإجتماعية . كما ساد النظام الثيوقراطي في أوربا القرون الوسطى بالشكل الذي خضعت فيه الكنيسة خضوعآ مطلقآ للحاكم الذي جعل من مباركة الكنيسة لحكمه مفهومآ مقدسآ لا يجرأ أحد على المساس به نقدآ أو فعلآ , ومن يجرأ على ذلك فمصيره أبشع أنواع العقوبات التي قننها الحاكمون آنذاك كالقتل والحرق والرمي إلى الوحوش الجائعة أو في زنزانات السجون المظلمة . لقد تلاشى هذا النوع من ألأنظمة الثيوقراطية على الساحة المسيحية , وخاصة ألأوربية منها , بعد نضال مرير وطويل خاضته الشعوب التي أبتليت بمثل هؤلاء الحكام . أما في العالم ألإسلامي فقد جرى العمل بهذا النوع من الحكم , أو على ألأقل تفسيره على هذه الشاكلة , في العصور التي كان الحكم فيها للخلفاء والسلاطين الذين جعلوا من أنفسهم ظل ألله على ألأرض , إذ كانت العقوبات الدنيوية الصارمة والشديدة تنتظر كل من أبدى شكآ في صدق هذه العلاقة بين ألله والحاكم . كما برز هذا النوع من علاقة الدولة بالدين على هذا ألأساس الثيوقراطي في بعض الدول التي سيطرت فيها الجماعات ألإسلامية ذات النزعات الطائفية المختلفة على زمام مؤسسات الدولة التي حولتها إلى دولة ثيوقراطية تخضع لخطاب رجل الدين الحاكم , كما رأينا ذلك في أفغانستان أثناء قيام دولة الطالبان أو ما نراه اليوم في إيران مُمثلآ في دولة ولاية الفقيه , او ما تحاول تحقيقه بعض ألأحزاب السياسية الدينية في مناطق مختلفة من العالم ألإسلامي. إن السمة المميزة لهذا النوع من الدول والأنظمة التي تسودها هو تضييق فسحة الإعتراف بالآخر إلى المساحة التي لا يُسمح له بتجاوزها والتي تخضع دومآ لمراقبة السلطة الثيوقراطية وإلى تطبيق قوانينها ألجائرة على هذا الغير في أي وقت تشاء .

للتوسع في هذا الموضوع يمكن مراجعة كتاب ( محمد أركون : الفكر ألإسلامي , نقد واجتهاد , ترجمة هاشم صالح , دار الساقي , الطبعة الثانية 1992 )

النوع الثالث هو الدولة العَلمانية _ بفتح ألعين _ حيث أن هذا المصطلح المترجم عن المصطلح اللاتيني

Saeculum

والذي يعني ضمن ما يعني من معان أخرى , عالمي أو دينوي وقد جرى تطبيقه في أوربا على تدويل المؤسسات الدينية واستعمالها ضمن القوانين والأنظمة التي تضعها دولة المؤسسات. اي أن ذلك يعني بشكل عام تحقيق المبادئ التي جاءت بها الحركات الإنسانية ألإصلاحية ألأوربية وما رافقها من أفكار تحررية تتعلق بالفرد والمجتمع والتي إنعكست , وبشكل خاص, على المجتمعات ألأوربية التي تبنت فصل سلطة الكنيسة التي كانت تتمتع بها في القرون الوسطى عن سلطة المؤسسات التي حققتها الثورة الفرنسية التي طالبت بامتلاك الدولة للمؤسسات الكنسية خاصة في أوقات الكوارث والمجاعات . إلى جانب هذا التعريف العام هناك بعض الشروحات لهذا المصطلح الذي لا يزال مصطلحآ غامضآ ومشوشآ عند الكثير من المجتمعات الإسلامية التي لم يتسن لها , أو لم يُسمح لها , بالتعرف على تطور الفكر العالمي وذلك بسبب القمع السياسي الذي تعرضت ولا تزال تتعرض له الجماهير الغفيرة في هذه المجتمعات, أو بسبب الفقر الثقافي الذي نشره المتسلطون على شؤونها العامة . فالعَلمانية تُنسب إلى العالَم , إلى الكون الفسيح الذي يعج بالتغيير في كل لحظة من حياته , حيث قاده هذا التغييرإلى أن يعيد النظر في كثير مما كان يُعتبر من المسلمات التي كانت تخلط السياسة بالدين والدين بالسياسة , حتى توصل هذا التطور في حياة بعض الشعوب إلى الإقرار, ومن خلال القوانين والمؤسسات , بعدم ممارسة مؤسسات الدولة لأية سلطة دينية وعدم ممارسة المؤسسات الدينية لأية سلطة سياسية, أي فصل الدين عن الدولة. وحينما نتطرق إلى هذا الموضوع ينبغي لنا وضع التعاريف الدقيقة للمصطلحات التي نتعامل معها في هذا المجال . إن أهم ما ينبغي التطرق إليه هو وضع مفهومآ معينآ عن الحدود الثلاثة المتداخلة في هذه المعادلة : الدين والدولة والمجتمع . فالدين , أي دين , والتربية الدينية تشكل في غالب الأحيان القاعدة الأساسية لكل المعتقدات والقناعات الروحية التي يمارسها أفراد المجتمع بشكل فردي او جماعي , بالأكثرية أو ألأقلية إنطلاقآ من ألإيمان الكامل بها على أنها فوق مستوى الفكر البشري , وعلى أنها إنعكاسات لما فوق ألإرادة البشرية وإن مضمونها سيكون بالتالي خارج حدود النقاش والجدال وإن ألإيمان بها على هذا ألأساس أصبح نوعآ من التراث الثابت الذي يتناقله ألأبناء عن ألآباء دون تغييرفي ألأسس العامة, وإن حصل بعض التغييرفإنه إما أن يكون عامآ تقتضيه متطلبات التغيير الزمني ,أو أن يكون تغييرآ إصلاحيآ يتناول بعض ألثوابت التي لم تعد تتلائم ومتطلبات العصر. وعلى هذا ألأساس فإن الدين يشكل أحد العوامل التي تدخل في تركيب المجتمع وتكوين بناه الروحية واتجاهاته الفكرية في هذا المجال . فالدين إذن ظاهرة إجتماعية تؤثر في المجتمع وتتأثر فيه وتشكل حاجة روحية أساسية من إحتياجات ألأكثرية أو ألأقلية من أفراد المجتمع . وبالرغم من إجتماعية هذه الظاهرة التي نسميها ألدين , تظل درجة وشدة ألإلتزام بها ذات طابع خاص بكل فرد من أفراد الجماعة التي تتبلور هذه الظاهرة بينها. أي أن عموميتها لا تنفي خصوصية التعامل معها من قبل أي فرد من أفراد المجتمع الذي تنشأ فيه. أما الدولة بمفهومها الحديث فهي النظام ألإجتماعي الذي يأخذ بعين ألإعتبارمقومات المجتمع الحديث بكل مكوناته ألأثنية والدينية ضمن منطقة جغرافية معينة ورعايتها وإدارتها والمحافظة عليها من خلال مؤسسات عامة تخضع لرقابة المجتمع وتتفاعل مع طموحاته ضمن قوانين وتعليمات يضعها هذا المجتمع ويعمل على تطبيقها وتغيرها كلما دعت حاجة تطوره إلى ذلك.

أما المجتمع الذي تتعامل معه هذه الدولة فيتكون من المجاميع البشرية المختلفة ألأجناس والأديان والتي يجمعها التواجد المشترك ضمن الحدود الجغرافية لهذه الدولة والتفاعل المشترك والمتساوي مع مؤسساتها. اي ان الدولة تتعامل مع مواطنها بغض النظر عن قلة او كثرة او نوعية الإنتماءات لهذا المواطن الذي تقوم الدولة على العمل لتحقيق طموحاته في الحياة.

أما النوع الرابع والأخير فهو الهجيني بين الدولة الثيوقراطية والدولة العلمانيه والذي يكاد أن يكون ظاهرة تختص بها المجتمعات الإسلامية على الغالب . ومن الممكن إعتبار هذا النوع الجديد من أنظمة الدولة ظاهرة عالمية تستحق الدراسة والبحث حيث أنه يتواجد بهذا الشكل الهجيني أو ذاك في جميع الدول المنضوية تحت راية المؤتمر ألإسلامي والذي يضم 51 دولة . إن اهم ما يميز هذا النوع من ألدول هو إختلاط الديني بالسياسي بحيث لا يستطيع أحدهما التخلي عن ألآخر, بغض النظر عن هذا الآخر إن كان يمثل السياسي التقليدي أو الديني التقليدي. إن الظاهرة الغالبة في مثل هذا النوع من الدول تنعكس من خلال توزيع المهام بين الديني والسياسي بحيث ينسق كل منهما عمله مع الآخر ويستمد شرعية وجوده من إسناد الآخر له . ففي هذا النوع من الدول يتبوأ السياسي قمة السلطة السياسية دون أن يشاركه فيها مباشرة رجل الدين الذي يبدو وكأنه معتكف في مؤسسته الدينية إلا انه يراقب السلطة السياسية عن كثب . يحاول السياسي في مثل هذه الدول أن يعكس للرأي العام إستقلالية قراره , إلا انه لا يضع الخطوط النهائية لهذا القرار قبل أن يكون قد حصل على الضوء الأخضر من المؤسسة الدينية , خاصة إذا ما تعلقت هذه القرارات بإجراءات ذات علاقة بالدين أو بالتراث أو بإطروحات المدرسة الفقهية التي يعلن السياسي عن تمسكه بها دومآ ويعاهد على أن لا يشذ عن تعاليمها فيكون بذلك قد حظى مقدمآ بتأييد المؤسسة الدينية له التي ستشرعن له الحكم السياسي . إذ أننا غالبآ ما نجد هنا فعل التأثير المتبادل بين شرعنة السياسة دينيآ والمحافظة على الموسسة الدينية سياسيآ . إن لإنبثاق هذا النوع من الدول , خاصة بعد الحرب العالمية الثانية , سببآ تاريخيآ يعود إلى موجة ألإستقلال التي تمتعت بها الكثير من الدول ذات المجتمعات ألإسلامية والتي أرادت إعطاء إستقلالها وبالتالي وجودها وزنآ سياسيآ من خلال إنضمامها إلى الأمم المتحدة والإلتزام بميثاقها وتمثيلها جنبآ إلى جنب مع الدول المستقلة ألأخرى في كافة محافلها والهيئات المنبثقة عنها . إلا أن ألإنضمام إلى هذا التنظيم العالمي لم يتم جزافآ , إذ وجب على المتقدم للإنضمام أن يتقدم بطلب خطي مُلزِم يتعهد فيه طالب ألإنضمام الإلتزام بميثاق ألأمم المتحدة وأولية تطبيق بنوده حتى على بنود الدساتير المحلية إن ثبت هناك بعض التعارض بين ميثاق الأمم المتحدة والدساتير المحلية للأعضاء . فالمادة 18 مثلآ من ميثاق الأمم المتحدة تنص على : " كل شخص يملك الحق في حرية التفكير والعقيدة والدين . ويتضمن هذا الحق حرية تغيير الدين أو المعتقد إضافة إلى حرية إظهار الدين او المعتقد بمفرده أو بصورة جماعية , خفية أو علانية . " لقد وقَّعت الدول ألإسلامية التي إنضمت إلى الأمم المتحدة على هذه الوثيقة فأصبحت بذلك ملزمة بتطبيقها . واستنادآ إلى ذلك وضعت دساتير حاولت دبلجة نصوصها وكأنها توحي بضمان تحقيق هذه المبادئ ألأممية , إلا انها وجدت نفسها أمام المؤسسة الدينية الإسلامية التي لا تعترف بهذه المبادئ وترفضها رفضآ باتآ , فحصل أشبه ما يوصف بغض النظر من الجانبين . إذ عملت المؤسسة السياسية على ألإيحاء للمؤسسة الدينية على جعل هذه النصوص حبرآ على ورق , وعملت المؤسسة الدينية على تأويل هذه النصوص بالشكل الذي توحي به ببراءة المؤسسة السياسية من الشذوذ عن القواعد الدينية والإلتزامات الشرعية.

من الطبيعي أن لا تكون المؤسسة الدينية بمختلف فصائلها على خط واحد من العمل المشترك مع المؤسسة السياسية في مثل هذه الدول . إلا ان ذلك لا يمنع من توجه المؤسسة السياسية في هذه الدول من تبني هذا الجناح أو ذاك من المؤسسة الدينية التي تشرعن لها سياستها امام الجماهير المتعلقة بتراثها الديني تعلقآ فطريآ . وعلى هذا ألأساس نجد المؤسسات الدينية المرتبطة مباشرة بالدولة على شكل وزارات للأوقاف أو للشؤون الدينية او غيرها من التسميات التي يوحي بهذا هذا الخليط الهجيني بين الديني والسياسي في مثل هذه الدول.

أمامنا ألآن اريعة نماذج تكاد تكون واضحة المعالم بالنسبة لعلاقتها بالدين . فاي من هذه النماذج نرجوه لعراقنا الجديد...؟ بعد رحيل الجاثمين على صدره من لصوص الإسلام السياسي منذ اكثر من ست عشرة سنة ؟ وأي ممارسة للدين يمكن أن تتبناها الدولة العراقية الجديدة...؟ وما الذي نرجو تحقيقه من كل ذلك...؟ هذا ما سنناقشه في القسم الخامس والأخير من هذا الموضوع.

ارحلوا القسم الخامس والأخير

    وعلى هذا ألأساس يمكننا التمييز بين الدولة العلمانية والدولة أللادينية على أساس أن الدولة العلمانية تأخذ علاقة المجتمع بالدين بنظر الإعتبار فتحاول تنظيم العلاقة بينها وبين المؤسسات الدينية على أساس القوانين العامة التي وضعها المجتمع ، اي القوانين الوضعية ، والتعامل معها ضمن هذا السياق الذي يجعل المؤسسة الدينية تتحرك ضمن ضوابط معينة تتحكم فيها القوانين العامة طالما تعلق ألأمر بعلاقة هذه المؤسسة الدينية بالنشاط ألإجتماعي العام كالدعوة إلى الدين مثلآ او جعل مادة الدين كمادة مدرسية ضمن البرامج التعليمية للدولة دون إجبار الطلبة على دخول درس الدين وحقهم باختيار درسآ بديلآ في الثقافة العامة إذا إقترن هذا الرفض بموافقة أولياء أمر الطالبة أو الطالب , أو جعل بعض المناسبات الدينية عطلة رسمية لكافة مؤسسات الدولة ألأخرى وغير ذلك من التعامل مع الدين من خلال كثافة تواجده في المجتمع . وبما أن مفهوم الدين لدى هذه الدولة يتصف بالعمومية , فإن مثل هذه ألإجراءات لا تكون مقتصرة على دين معين , بل أنها تشمل جميع الأديان التي تتواجد ضمن الحدود الجغرافية للدولة بكثافة سكانية تؤهلها لأن تشكل ظاهرة إجتماعية واضحة في مجتمع الدولة العلمانية . ففي ألمانيا مثلآ تم وضع تدريس الدين ألإسلامي في المدارس الرسمية ضمن المنهج التعليمي العام في المناطق التي يتواجد فيها عدد كاف من الطالبات والطلاب المسلمين. ولعل ما كتبته الباحثة ألإجتماعية فاطمة المرنيسي في كتابها " ألخوف من الحداثة , ترجمة د. محمد ألدبِّيات , دار الجندي , سوريا " يوضح لنا بجلاء موقف الدولة العلمانية بهذا الخصوص .

    كما يمكننا التمييز بين الدولة العلمانية والدولة ألدينية من خلال عدم تمييز الدولة العلمانية بين دين وآخر من ألأديان التي يدين بها أفراد المجتمع . إن الدولة العلمانية تعتبر نفسها مسؤولة عن حرية وجود وممارسة جميع ألأديان مهما كان عدد المنتمين إلى هذا الدين أو ذاك , إذ لا تلعب ألأكثرية أو ألأقلية هنا أي دور أمام معاملة هذه ألأديان ومنتسبيها معاملة متساوية . الدولة العلمانية , بخلاف الدولة الدينية , لا تتبنى أي دين , إلا أنها تحافظ على كل دين . إن ذلك يعني أن جميع ألأديان تتمتع بنفس الحقوق وعليها نفس الواجبات بغض النظر عن قلة أو كثرة منتسبيها ولا سلطة لدين الأكثرية على أي دين آخر ولا دور لدين الحاكم أو الفئة الحاكمة في تقديم دين على آخر, حيث أن المبدأ العام لهذه الدولة لا يعترف بوجود أفضلية دين على دين آخر. في الدولة العلمانية لا يفضل المؤمن بدين ما على غير المؤمن ولا الرجل على المرأة , بل أن الكل سواسية أمام القانون ، اي مبدأ المواطنة ، الذي يجري تطوره مع التطور الحديث في الحياة. الدولة الدينية تجعل من تشريعاتها التي يسنها البشر تشريعات إلهية غير قابلة للنقاش والنقض وإنها مجردة عن الزمن وتتمتع بصلاحية الحقيقة المطلقة , بخلاف الدولة العلمانية التي تخضع كل تشريعاتها وقوانينها للمراقبة الشعبية الصارمة التي قد تنقضها يومآ ما لتحل محلها تشريعات تنسجم وروح العصر الذي تعيش فيه , في حين تتمسك الدولة الدينية بالنص الحرفي حتى وإن قيل قبل آلاف السنين . وباختصار شديد يمكن القول دون أي تردد أن الدولة الدينية دولة دكتاتورية في حين تمثل الدولة العلمانية أعلى مراحل الديمقراطية . ، لقد قامت في التاريخ دول علمانية خرجت عن المفهوم الديمقراطي للدولة العلمانية ، وبذلك فقدت صفتها العلمانية هذه فتحولت الى دكتاتورية بالرغم من فصلها الدين عن الدولة ، وهذا ما يؤكد بجلاء مدى ارتباط العلمانية بالديمقراطية التي اخذت مفهوماً جديداً متطوراً لا ينطلق من الثوابت السابقة المتعلقة بالأكثرية والأقلية فقط ، بل ومن انسنة الديمقراطية ، اي توظيفها لخدمة الفرد المواطن بغض النظر عن الإنتماءات وعن العدد الذي تشكله مجموعة هذا المواطن. وهذا يعني ان المواطن الواحد له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات التي تطال المواطنين الآخرين كثُر عددهم او قلَّ . وعلى هذا الأساس يصبح مصطلح " الأقليات " الذي نستعمله اليوم للإشارة الى بعض المواطنين العراقيين ، مصطلحاً مرفوضاً لا ينسجم ومراحل تطور انسنة الديمقراطية.

 

    ونظرآ لهذه الإختلافات المبدئية بين الدولة الدينية والدولة العلمانية يسعى ألإسلام السياسي إلى لصق صفة ألإلحاد بالدولة العلمانية لأنه لا يستطيع أن يقارع الحجة بالحجة على أرض الواقع المعاش الذي لا يريد أن يعترف به ألإسلام السياسي , وخاصة المتطرف منه , والذي يتجاهل التطور التقني والعلمي والإجتماعي فيسعى إلى ربط المجتمع بنصوص لم تعد تنسجم والواقع الذي يعيشه المجتمع اليوم ومن ضمنه ألإسلام السياسي ومنظروه أنفسهم. إن الدولة العلمانية تحافظ على المقدسات بشكل أوسع وأعمق وأكثر إلتصاقآ بالواقع مما هو عليه في الدولة الدينية التي تتبنى واحدآ فقط من هذه المقدسات لتجعله سائدآ باسم الحقيقة المطلقة التي تتبناها الدولة الدينية, والتاريخ يعلمنا ما قاد إليه تبني فكرة الحقيقة المطلقة في أوروبا العصور الوسطى وما يقودنا إليه تبني هذه الفكرة اليوم , خاصة في بعض المجتمعات ألإسلامية التي تتحكم في شؤونها االأحزاب الدينية . وللإمعان في تأليب الجماهير على الدولة العلمانية يسعى ألإسلام السياسي , بسبب فقره الفكري , إلى طرح الدولة العلمانية وكأنها تسعى إلى فصل الدين عن المجتمع أو عن السياسة وليس عن الدولة . وهنا يجب التأكيد على بعض الحقائق الثابتة التي يجهلها أو يتجاهلها ألإسلام السياسي :

    أولها أن إعتراف الدولة العلمانية بكل ألأديان يجعلها مؤهلة أكثر من الدولة الدينية على إحترام إرادة وتوجه كل أفراد المجتمع وتحقيق رغباتهم في ألإرتباط بأي دين كان وتسعى إلى تحقيق كل السبل المؤدية إلى ذلك . فالدولة العلمانية إذن لا تسعى إلى فصل الدين عن المجتمع , بل بالعكس فإنها تسعى من خلال قوانينها إلى تحقيق رغبات أفراد المجتمع في ألإرتباط بأي دين واستناداً الى القوانين السائدة ، مهما صغر أو كبر حجم الفئة الإجتماعية . إذن فالعكس هو الصحيح , اي ان الدولة الدينية هي التي تسعى لعرقلة إرتباط فئات إجتماعية بالدين الذي تريد إذا كان هذا الدين غير الدين الذي تتبناه الدولة الدينية والأمثلة على ذلك كثيرة جدآ سواءً في الدول الدينية في القرون الوسطى أو في الوقت الحاضر.

    وثانيها هو ألإدعاء الذي يتبناه ألإسلام السياسي حول سعي الدولة العلمانية لفصل الدين عن السياسة . إن هذا ألإدعاء هو ألآخر ينم عن الجهل المطبق لمبادئ الدولة العلمانية التي تسعى لمنع المؤسسات الدينية للأديان المتواجدة ضمن حدودها الجغرافية من ألتأثير على التوجه السياسي لمنتسبي هذه ألأديان , بخلاف ما ينص عليه دستور الدولة العلمانية وقوانينها التي اقرها الشعب عبر ممثليه في مؤسسات الدولة. أي أن لا تربط توجهاتهم ألإنتخابة مثلآ بالعامل الديني , كما فعلت وتفعل بعض ألأحزاب ألإسلامية التي ربطت إنتخاب أوعدم إنتخاب قوائمها بالثواب والعقاب الرباني . والدولة العلمانية لا تتعامل مع رجل الدين الذي يخوض العمل السياسي من منطلق المقدس الذي لا يتعرض للنقد وتفنيد طروحاته السياسية دون أن يرتبط هذا النقد والتفنيد بالصفة الدينية لرجل الدين هذا الذي يجري التعامل معه في هذا المجال كأي سياسي آخردون أخذ أي إعتبار لموقعه الديني , وعلى رجل الدين هذا أن يخضع لنفس القوانين التي يخضع لها أي سياسي آخر حينما يقرر ممارسة العمل السياسي . أي أن إزدواج الشخصية الدينية بالشخصية السياسية , هذا ألإزدواج الذي يسعى له ألإسلام السياسي , أمر مرفوض في قوانين الدولة العلمانية . أما الفصل الذي تسعى إليه الدولة العلمانية فهو , كما أشرنا أعلاه , الذي يتضمن حيادية الدولة , كمؤسسة إجتماعية عامة , تجاه كل الأديان التي يتبناها أفراد مجتمع هذه الدولة دون تمييز أو تفريق بين أي دين أو آخر. أي فصل الدين عن الدولة ، باعتبار ان الدولة العلمانية لا تتبنى اي دين ، لإلا انها لا تضطهد اي دين او تابعيه بخلاف الدولة الدينية التي لا ترضى إلا بما تتبناه من دين .

    ألدولة أللادينية لا يمكن ألإقتداء بها , في مجتمع كمجتمعنا الذي تتعلق شرائح كبيرة منه تعلقآ فطريآ بالتعاليم الدينية , وبالرغم من الصفة أللادينية لهذا النوع من الدول والتي تناولنا فرنسا كمثال لها , نجد أن كثيرآ من المسلمين يحاولون وبشتى الطرق الوصول إلى هذه الدولة هربآ من الجحيم الذي يلاقونه في دولهم التي تسمي نفسها إسلامية . لقد دلت كثير من ألدراسات التي قامت بها مؤسسات عالمية مختلفة بين المسلمين على تفضيل فرنسا كبلد لجوء او عمل على كثير من الدول , خاصة ألإسلامية منها . ومعروف تمامآ ان ألإمام الخميني وجميع أفراد عائلته وحاشيته ومرافقوه قد لجأوا إلى فرنسا وقضوا فيها طيلة السنين التي سبقت مجيئهم إلى إيران بعد سقوط النظام ألشاهنشاهي . ومعروف أيضآ أن الجالية ألإسلامية في فرنسا والتي يشكل الأفارقة غالبيتها العظمى تحظى بمعاملة من قبل هذه الدولة أللادينية لا تحلم بجزء بسيط منها في أي دولة من الدول الإسلامية التي هربت منها.

    أن التعلق ألإجتماعي بالقيم الروحية في المجتمعات ألإسلامية مشوب , في كثير من ألأحيان , بالتشويش المصلحي ألذي تمارسه بعض المؤسسات الدينية التي تستغل المشاعر الدينية للجماهير التي عملت ألأنظمة القمعية المختلفة على حرمانها من أبسط وسائل التعليم والثقافة التي تتيح لها الفرز بين التعاليم الدينية الحقة والمصالح ألذاتية لبعض الفئات التي جعلت من نفسها فيصلآ بين ألديني واللاديني , وذلك حسب ما تقتضيه مصالحها الذاتية وطموحاتها المرحلية . لذلك فإن الدولة ستتحمل مسؤوليتها في هذا المجال لتوعية الجماهير من خلال البرامج التعليمية والثقافة العامة بالمحتوى الإنساني للدين والبعيد عن ألإستغلال الشخصي والتطرف المذهبي والعداء للآخر الذي بلوره الإسلام السياسي في العراق , خاصة في السنين الماضية التي تلت سقوط البعثفاشية .

    أما الدولة الدينية التي عشنا أمثلتها في النماذج اعلاه ، فلا أعتقد بوجود عراقي واع لما يدور في وطنه ألآن أوعاش حقب القمع الديكتاتورية أن يرضى بعودة هذه الحقب على شكل ديكتاتورية دينية هذه المرة. لقد اثبت هذا النوع من الدول التي حاولت تسويق الدين ألإسلامي على طريقتها البدائية في عالم اليوم على أنها غير قادرة على تحقيق طموحات شعوبها التي جعلتها تتخلف عن الركب العالمي في جميع مجالات الحياة . ومن الجدير بالذكر هنا هو رد الفعل تجاه الدولة الدينية ألإيرانية الذي ظهر لدى كثير من العراقيين الذين لجأوا إلى هذه الدولة إبان التسلط البعثفاشي على العراق والذين يتعاطفون فكريآ مع هذه الدولة، لابل والمنضوين تحت راية نفس الطائفة التي تدعي ولاية الفقيه الدفاع عنها او تمثيلها مذهبياً . إن كثيرآ من هؤلاء العراقيين أخذوا يقدمون النصائخ لمن يعرفونهم من طالبي أللجوء من العراقيين أن يذهبوا إلى أية دولة من دول " ألكفر " ولا يحاولون أللجوء إلى إيران، وذلك بسبب المعاملة القمعية التي تلقاها هؤلاء اللاجئين الى ولاية الفقيه بالرغم من انتماءهم الفكري والمذهبي لهذه الولاية.

    أما دول الهجين الثيوقراطي العلماني فهي التجربة التي نعيشها منذ ما يسمى بالإستقلال الوطني وحتى اليوم على جميع بقاع المجتمعات ألإسلامية . ولا ضرورة تدعونا الآن لشرح المآسي والنكبات والكوارث والهزائم والإحباطات والتخلف والفساد الذي رافق هذا النوع من الدول منذ وجودها ولحد ألآن , إذ أن كل شيئ بات معروفآ حتى لأبسط الناس في هذه المجتمعات . لذلك فإن المجتمعات ألإسلامية التي تعيش كل ذلك اليوم , ومنها مجتمعنا العراقي , تنتظر التغيير الذي يقودها إلى غدها الواعد بكل شيئ , وإن هذا الغد لا يمكن أن يتحقق إلا ضمن أُطر الدولة العلمانية .

    نظام ألدولة العلمانية , لمزاياه أعلاه , هو نظام الدولة ألأمثل للمجتمعات الإسلامية وللمجتمع العراقي الذي يتألف من طوائف وأديان وقوميات مختلفة يجمعها الإنتماء للوطن الذي يجب ان يظل وطنآ للجميع لا يُفَضَل فيه دين على دين ولا قومية على قومية. الهوية الوطنية هي الفيصل في معاملة الدولة لمواطنيها , وليس أي شيئ آخر غير المواطنة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات . هذه العلاقة الإنسانية الحرة المتفاعلة مع روح العصر هي العلاقة التي نرجوها بين الدين والدولة في عراق الغد , العراق الخالي من الطائفية والطائفيين , العراق الذي يتطلع إلى ألأمام دومآ مواكبآ مسيرة البشرية في قرنها الحادي والعشرين، بعد رحيل عصابات الإسلام السياسي المتحكمة في شؤونه اليوم. فلنشدد من نداءنا برحيلهم الذي آن اوانه بعد كل هذا التردي الذي وضعوا وطننا فيه .

  كتب بتأريخ :  الجمعة 10-05-2019     عدد القراء :  2493       عدد التعليقات : 0