مشايخنا قديما وحديثا يتجاهلون أن الحج لمن إستطاع إليه سبيلا ، وأن القدرة والإستطاعة شرط لتمام الركن وألقيام بالشعيرة ، ويسقط التكليف عن غير القادر ماديا وصحيا` . ويتناسون أن النبى حج لمرة واحدة فى السنة العاشرة من الهجرة، وكثيرا من الصحابة سنوا سنته وساروا على هديه . ومشايخنا يسروا وسهلوا على الناس الحج بالإستدانة والتقسيط ، على أن يكون قادرا على سداد الدين فى المستقبل ، وهل يضمن العبد رزقه وأنفاسه وغده ؟ وأصبح لمن إستطاع إليه تدبيرا ، بديلا عن لمن إستطاع إليه سبيلا . ولم يعيروا حاجة الناس وفقرهم إعتبارا ،وفتحوا الباب للأغنياء أن يحجوا ماشاءت إرادتهم وقدرتهم إلى ذلك سبيلا ، سنة تتلوها أخرى ، وكان أنفع وأقرب لله أن يعيرها الأغنياء للتعليم عاما وللصحة ألثانية وللثقافة والتربية الثالثة ، والرابعة والخامسة ماأراد الناس وأحتاجت الدولة ، خمسة أعوام يعيرها الأغنياء لبلادهم وأوطانهم لن تنقص من أموال أهل الحرمين شيئا ، لكنها ستزيد وتعدل الميزان عندنا ، إلا أنهم لايبالون حتى لو قصموا ظهر الدولة وأفقروها وأفلسوها. وأجازوها أيضا هدية وهبة وعطية ومنحة ، فأنحرفت ومالت الى الرشوة ،ومقابلا لقضاء مصالح قوم ليس لهم الحق فيه ، كل هذا ليس حبا فى هؤلاء البسطاء ، أو حرصا على أدائهم الفريضة بل مكسبا ومغنما ومربحا لأصحاب الديار العامرة ، التى فاق الحب لها كل الديار حتى ديارنا التى تأويهم ، وزيادة فى الخير لأرض الخير حتى لو كان على حساب إفقار الفقراء وحاجة المحتاجين وهم أهليهم ، فيربطون على بطونهم واولادهم طوال العمر ، حتى يكبونها كبا فى جيوب عامرة مكدسة من كل حدب وصوب ، وكان أولى أن نقول للناس البسطاء والفقراء قولة حق ، من أراد الذهاب إلى ألكعبة منكم وتاق وأشتاق إلى الحج ولم يستطع الى ذلك سبيلا ، ستأتيه الكعبة يحج إليها ، كما سارت من مكة إلى البصرة لتحج إليها رابعة العدوية .
والحج كان ومازال مصدرا للرزق الوفير لأهل مكة من مئات السنين ، وهم قوم تجارة ، فلا زرع فيها ولاماء ، ولاوجود لها إلا بالتجارة ، ولاتجارة فيها إلا مع الحج ،وهذا بن الخطاب يقول : " وهل كانت معايشنا إلا من التجارة فى الحج !؟ " وكانت العرب تحج إلى ألكعبة بكل دياناتها حتى الوثنيين إلى السنة التاسعة للهجرة حين فرض الحج على المسلمين فأنفردوا بها ، أما عن عام الفتح، فقد حج المسلمون بجوار الأديان الأخرى يرافقهم الوثنيون، ومعلق على جدرانها تمائم لكل الأديان ، وكانت الأشهر الحرم فترة هدنة بين العرب ، ليمر الحجيج وتعبر قوافل التجارة فى طريقها المعهود فى أمن وسلام ، وكان يقام فى موسم الحج قبل الإسلام سوقان فى مكة ، واحد فى عكاظ والثانى فى مجنة فى شهر ذى القعدة ، وسوق آخر هو ذى المجاز فى شهر ذى الحجة ، ايهما إرتكز على الآخر التجارة أم الحج ؟ يقولون ربما تساندا منذ اليوم الأول ، وأقول الحج كان سندا للتجارة ومبدأها . والأشهر الحرم أربعة ، لايحل فيها قتال أو غزو ، ثلاثة متصلة للحج وهم ( ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ) وهى مقسمة شهر للذهاب وشهر للإقامة وآداء المناسك والأخير للعودة ، والشهر الرابع( رجب ) منفصل للعمرة ويكفى للبلاد المجاورة فقط ، وأبقى الإسلام على طقوس الحج كاملة ، إلا القليل منها ، تعظيما لديانة إبراهيم وتلبية لرجائه ، وحفظا لمعاش المكيين كما أوصى عبد المطلب . وكان لعبد المطلب جد النبى وصاية الأنبياء على الحجيج قبل الإسلام ، فقد حرم الطواف حول الكعبة على السكارى وعلى العرايا ، وكان العرب يطوفون حول الكعبة إما بملابس يحرقونها بعد المناسك " الحمس وهم أهل قريش" ، وإما عرايا كما ولدتهم أمهاتهم وهم باقى الحجيج ، حتى لايحج الحاج ويقابل ربه فى ثياب قد دنسها بأفعاله ، والإسلام قد ورث من العرب الجاهليين الكثير من الشئون التعبدية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية وأهمها مناسك الحج ، وحد السرقة والحرابة وعدة المرأة والتطهر من الجنابة والطلاق ثلاثا ، والمحلل ، وغيرها الكثير .
لم يكن الحج إلى عهد قريب على هذا النحو ، وأعداد الحجاج والمعتمرين لم تكن بهذه الكثافة المتزايدة ، إلا أن السياحة الدينية والترويج لها ، وإنتشار الفكر الوهابى والسلفى ، والمراكز الإسلامية التى تمولها دولة الحرمين ، وفرض الحجاب والنقاب شكلا وتمييزا وتفصيلا ،وتمادى ظاهرة التدين بأشكاله المعتدل منه والمتطرف ، وتزايد أعداد سفرائهم ووعاظهم ومؤيديهم ومشايخهم وشركاتهم ، والإسراف والبذخ فى بناء المساجد ،قد زاد اعداد الحجيج ، الحاليين والقادميبن ،و قد من عليهم بالخير الوفير ، وأضحى المردود يزيد مئات المرات عما أنفق ، والداخل أكثر من الخارج . أيها السادة زوار البيت من كان فقيرا فلا حج عليه ، ومن كان غنيا ولافائض عنده لاحج عليه ، ومن كان غنيا وحج مرة واحدة فقراؤكم وجهلاؤكم ومرضاكم أولى من أغنيائهم ، الحجة الأولى لله ، والثانية لأهلك .
adelnoman52@yahoo.com