الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الدين والعشيرة ...

خطّأ متظاهرو تشرين لعام 2019 بمحض تظاهراتهم المجردة ذات المطالب الوطنية العامة المؤسستان التقليديتان الرئيسيتان في المجتمع العراقي ممن أستعين بهما لتفسير ما حدث ويحدث من وقائع اختلط فيها الحسن وغير الحسن على السواء: المؤسسة الدينية والعشيرة.

فقد هز الشباب من متظاهري تشرين في عدد من المحافظات العراقية وعي المجتمع بكل مؤسساته الدينية والعشائرية والسياسية والاقتصادية من خلال تظاهرات عارمة رفعوا فيها الأعلام العراقية وتلفعوا بها مرددين شعارات وطنية تجلى أكثرها شيوعاً في الشعار الذي عبر عن جوهر ما اجتمعوا عليه وتطلعوا إليه "نريد وطن ...". يريدون وطناً يشعرون أنّهم السادة فيه بنسائه ورجاله، ولهم الحق بذلك. إنّهم يريدون وطناً يخططون فيه لأحلام متحققة وطموحات ممكنة وقابلة للتطبيق. وطن لا يتم تجاهله في نشرات الأخبار أو السياسات الدولية لأنّه يحيا ويمارس الحياة في مسرح العالم بحيوية ونشاط. إنّهم يبحثون عن الوطن الغاطس في عمليات الفساد والفضائح المالية والإدارية المكشوفة والمرصودة لينتشلوه ويعيدوا بناءه على أسس سليمة يحظى فيه الجميع بالرعاية والأمن والأمان.

بالمقابل، لم تفعل المؤسستان الرئيسيتان الدينية والعشائرية مؤخراً إلا ما يعزز الابتعاد عنهما وعدم التعويل عليهما. تتزاوج هاتان المؤسستان وتتضامنان في مجتمع مثل المجتمع العراقي. هذه حقيقة مؤكدة ومعروفة سبق أنْ وجدت مصداقاً لها في ظروف تاريخية معينة وبخاصة في ظل التفكك وعدم الإستقرار السياسي والاجتماعي. بيد أنّ جديداً طرأ على هذه المعادلة كما أظهرت تظاهرات تشرين تمثل في أنّهما انعزلتا وصارتا تمارسان فعلهما على مستوى نخبهما العلوية فيما أفلتت منهما القواعد الشعبية الشبابية الواسعة على وجه التعيين. شكراً للبطالة والتخلف وضياع بوصلة المستقبل التي دفعت أعداداً كبيرة من هؤلاء الشباب إلى الثورة والتمرد. إنّه جيل يعي ما يقوم به ويدرك حجم الثروات المحجوبة عنه وقد خرج ليطالب بحقوقه المهدورة لينتزعها رغم أنف المسوفين والمماطلين.

لا تملك المؤسسة الدينية غير القدرة على شحذ العواطف وتقديم التوجيهات. إنّها ولأسباب موضوعية معروفة لا تملك الأدوات اللازمة لإحداث التغيير كالجيش والشرطة والقرار السياسي. وعليه فإنّ من الحكمة بالنسبة إليها ألا تنشغل بما يحدث وتتصور إمكانية التأثير فيه. إنّها محكومة بطبيعتها الفكرية والتنظيمية بمرجعيات إلهية تقدم أجوبة عامة ومطلقة ليس من الممكن بلوغها واقعياً في الغالب. لذلك فهي تخاطب جمهور المؤمنين بأنْ ينظر "إلى من هو أشد بلاءاً منه"، ليحتمل بلاءه. وتبشر بنهاية سعيدة وفق الآية "إنّ مع العسر يسرا"، وتنصح بالصبر على الرزية من حيث أنّ "لله ما أعطى ولله ما أخذ". أما العشيرة فهي لا تتعاجز عن تكرار سلوكها القائم على التقرب للحاكم والسلطان من خلال تلبية دعواته والجلوس في مجلسه والإستماع إليه وتلقي مكافآته لقاء التعهد بالقيام بتهدئة جماهيرها والسيطرة عليهم. وفات الحاكم والسلطان إدراك أنّ تظاهرات تشرين ليست عشائرية أو دينية ولا حتى مذهبية من حيث المطالب والتطلعات ومقدار التعاطف والدعم الذي حظيت به والتشجيع الذي نالته رغم افتقارها لقيادات سياسية معروفة ومشخصة. إنّها تظاهرات مدينية يقودها طلبة وموظفون شباب وخريجون عاطلون عن العمل وفقراء يعيشون على هامش المجتمع ببراءة ونكران ذات من أمثال سواق التك تاك.

بدلاً من العمل على تعظيم الموارد من خلال تشغيل المصانع والمعامل التي تمّ إيقافها عن العمل والتي تقدر أعدادها بالآلاف لتلبية مطالب المتظاهرين بالعمل وتوفير الخدمات شرع مجلس النواب العراقي بتعديل قانون التقاعد العام. وهذا تعديل يبشر بزيادة خطيرة في أعباء الدولة وتهديداً لمحاولة تعبئة الأموال اللازمة لتلبية مطالب المتظاهرين. خذ على سبيل المثال أنّ عدد الأشخاص في الفئة العمرية (60-64) التي أستهدفها التعديل من خلال خفض سن التقاعد إلى (60) سنة يقرب من (690) ألف نسمة حسب أدق اسقاطات السكان الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط لعام 2015. يشكل هؤلاء أقل من 2 % من حجم السكان الكلي البالغ (38) مليون نسمة فيما سجل عدد الأشخاص في سن العمل أو ما يسمى النشيطين اقتصادياً ممن يقعون ضمن الفئة العمرية (15-59) سنة ما يزيد بقليل على (20) مليون نسمة. ويشكل الأطفال عمر (14) سنة فما دون ما يقرب من (15) مليون نسمة. معروف أنّ هؤلاء يمثلون شريحة سكانية مهمة يتوقع لها أنْ تدخل سوق العمل لتطالب فيه خلال الخمس سنوات القادمة. أضف إلى ذلك أنّ التعديل القانوني المشار إليه سيساهم بتوسعة شريحة المتقاعدين ممن تقدر أعدادهم بأربعة ملايين نسمة حالياً الأمر الذي ينبئ بزيادة العبء المالي على الدولة في قادم الأيام عندما يأخذ القانون المعدل طريقه إلى التطبيق والعمل به. يلاحظ في الوقت نفسه أنّه لا يوجد ما يمنع هؤلاء من المنافسة في سوق العمل للحصول عليه بصيغة عقود أو أجور يومية اعتماداً على مهاراتهم وخبراتهم في مجال العمل والوظيفة. يحدث هذا في الوقت الذي أصدرت فيه منظمة الصحة الدولية تصنيفاً جديداً للأعمار استند إلى مسح عالمي قامت به أخذ بالإعتبار التطور النوعي لمستويات الصحة للبشر وزيادة توقع الحياة والذي يعرّف في سياق عدد السنوات التي يتوقع للإنسان أنْ يعيشها منذ الولادة. وفقاً لهذا التصنيف فقد أعتبر الأشخاص عمر (17) سنة فما دون من القصر فيما أعتبر الأشخاص عمر (18-65) من الشباب. ودخل الأشخاص عمر (66-79) في مرحلة أواسط العمر. يليهم الأشخاص عمر (80-100) ممن أعتبروا من كبار السن. أما المسنون فهم الأشخاص الذين بلغوا سقف الـ (100) عام من العمر.

من جانب آخر، لا يبشر احتمال توسعة القاعدة الانتخابية إلى (150) ألف نسمة بدلاً من (100) ألف نسمة لغرض خفض حجم مجلس النواب إلى (210) نائب بدلاً من (328) نائب بالكثير من حيث أنّه تزحزح قليلاً حجمه الضخم وليس غير. يكفي العراق أنْ يمثل بـ (55) نائب فقط إذا ما وسعت القاعدة الانتخابية إلى (350) ألف من السكان المؤهلين للمشاركة بالانتخابات ممن يقعون ضمن الفئة العمرية (18) سنة فما فوق. ويستطيع الـ (55) نائب التواصل مع جماهيرهم على افتراض أنّهم سيفعلون ذلك من خلال مكاتب للتواصل تنتشر في المحافظات والمناطق المعنية شريطة العمل الجاد والمنظم وليس الكيفي والمزاجي أو الذي يقوم على أسس قرابية أو دينية ومذهبية أو حزبية وما إلى ذلك.

لا تتطير دول العالم من التظاهر لمجرد أنّه تظاهر ولكنّها تتطير من فشل مسؤوليها لمعالجة الأوضاع وتلبية المطالب الشعبية. ينظر إلى التظاهر على أنّه شهادة على التلكؤ والفساد من حيث أنّ عيون مواطنيها لا تخطأ. ولكنّ الأوضاع في العراق تسير وفق قناعات مختلفة يعتقد فيها المسؤول أنّه مفوّض بالبقاء والتمسك بالسلطة رغم أنف المواطنين. هذا ما يقرأه المراقب الحيادي لتطور مسار الأحداث في العراق هذه الأيام. لم تزحزح تظاهرات شبابية واسعة تحظى بدعم وتضامن شعبي واسع أيضاً القابعين في مناصبهم على مستوى الرئاسات الثلاثة ومن يرتبط بهم من المستشارين والموظفين بل وزادتهم تضامناً مع بعضهم البعض وضد مواطنيهم. وكان أقصى ما فعله هؤلاء العمل الدعوة لعقد الاجتماعات والخروج بحزم إصلاحات وفرت أدلة على مقدار التلكؤ والفشل في تصريف شؤون المواطنين والتعبير عن تفهم مطالب المتظاهرين وتوظيف قواهم لصد هؤلاء بإسم "حماية المتظاهرين". سيكون من الحكمة أنْ يصار إلى اتخاذ قرارات جريئة تعترف للمتظاهرين بحقوقهم ومطالبهم ممن يمثلون رصيد المجتمع ورأسماله البشري والاجتماعي بالتنحي عن السلطة وتركها لمن يتمكن منها. مهما يكن الحال فإنّ المهمة ستبقى صعبة على من سيأتي لأنّ التركة ثقيلة ومرهقة.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 25-11-2019     عدد القراء :  1854       عدد التعليقات : 0