الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
متى وكيف يمكن تغيير ميزان القوى لصالح الشعب في الصراع الجاري في العراق؟

منذ إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة عبر تحالف دولي خارج الشرعية الدولية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وتسليم الولايات المتحدة قيادة الدولة بسلطاتها الثلاث ووسائل الإعلام، كسلطة رابعة، بيد تحالف سياسي من الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية والأحزاب الإسلامية السياسية السنية والأحزاب القومية الكردية بقيادة القوى والأحزاب الشيعية وإقامة نظام سياسي طائفي محاصصي، برزت بدايات الصراع بين قوى سياسية ديمقراطية رافضة لهذا النظام باعتباره مخالفاً لتطلعات المجتمع في إقامة دولة ديمقراطية حديثة ومجتمع مدني ديمقراطي من جهة، وبين قيادات القوى والأحزاب التي تسلمت السلطة من جهة أخرى. وخلال السنوات 16 المنصرمة لعبت القوى الحاكمة دوراً بارزا في الهيمنة التامة على جميع مفاصل الدولة بـ:

1.   تكريس نظامها السياسي الطائفي المحاصصي والهيمنة التامة على مجلس النواب بممارسة الفساد المالي والإداري وعمليات الإفساد لتعزيز وجودها في السلطة، إضافة إلى بناء دولة عميقة بقوى عسكرية فعلية تابعة لها هي الميليشيات الطائفية المسلحة التي تدين بالولاء للأحزاب الإسلامية السياسية التابعة فعلياً لولاية الفقيه والحكم الطائفي في إيران.

2.   الهيمنة الكاملة على الموارد المالية للدولة والتصرف بها بما يسهم في تكريس وجودها وتفسيخ وإفساد السلطات الثلاث والسلطة الرابعة التابعة لها ونشر الفساد على أوسع نطاق ممكن في المجتمع بحيث تحول إلى نظام معمول به وساري مفعوله على الدولة والمجتمع.

3.   التخلي الكامل عن عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والاعتماد على موارد النفط المالية في إغراق الأسواق بالسلع المستوردة واعتماد المزيد من توظيف العاطلين عن العمل في أجهزة الدولة والسكوت عن دفع رواتب لعشرات الآلاف من الفضائيين المسجلة بأسماء وهمية أو مكررة.

4.   فسح في المجال إلى ولوج النفوذ الإيراني في عمق السلطات الأربعة، التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلام، وبشكل خاص في وزارات الدفاع والداخلية والأمن الداخلي، وفي الاستخبارات، وقوات مكافحة الشغب والقوات الخاصة وقوات عمليات بغداد، إضافة إلى تشكيل الحشد الشعبي بجزء أساسي من قوام الميليشيات الطائفية المسلحة التابعة لإيران. وكذلك دورها المباشر في الجانب الديني المذهبي وفي المجتمع.

5.   تأييد المرجعيات الشيعية في النجف للقوى والأحزاب الإسلامية الطائفية الشيعية الحاكمة ودعمها المستمر في الهيمنة على السلطة السياسية ومجلس النواب والقضاء العراقي ووسائل الإعلام، لاسيما وأن لهذه المرجعيات، خاصة مرجعية السيستاني، تأثير كبير وملموس، شئنا ذلك أم ابينا، على جمهرة كبيرة من اتباع المذهب الشيعي. ولم يتغير هذا الموقف جوهرياً طيلة السنوت الـ 16 الفائتة.  

إن هذا الواقع قد جعل ميزان القوى في الدولة والمجتمع يميل بقوة لصالح الأحزاب التي تسلمت زمام الدولة والحكم وتسنى لها، رغم وجود صراعات غير قليلة فيما بينها تتركز حول المناصب والمواقع في السلطة ومجلس النواب وعلى الحصص المالية والنفوذ العام في المجتمع، كما منح الحكام الفاسدين فرصة تجاوز الكثير من الأزمات التي مرّت بها الدولة العراقية والهبات الشعبية التي انطلقت في أعوام 2997&2008 و2011 و2014/2015 و2018، وكذلك عبور أزمة وكارثة ومآسي الأنبار وصلاح الدين وديالى في عام 2011، ومن ثم الفواجع والإبادة الجماعية التي اقترنت باجتياح الموصل وعموم نينوى وأجزاء من كركوك وديالى ووصولاً إلى مشارف بغداد في عام 2014. وقد كلفت هذه الأزمات وغيرها مئات ألوف القتلى والجرحى والمعوقين والنازحين والمهاجرين والمسبيين والمغتصبين من النساء ومئات المليارات من الدولارات الأمريكية وتعطل كامل لعملية البناء وتوفير الخدمات.

خلال الفترة الفائتة عجزت القوى التي رفضت، وتلك التي انتقدت النظام السياسي، عن تشكيل جبهة واسعة قادرة على التصدي للقوى الحاكمة وسياساتها غير الوطنية، بل بعضها الأساسي قد اعترف بالعملية السياسية الجارية وسار فيها، مع انتقاده لها وعمل مع بعض قواها تحت خيمة مهلهلة تحت واجهة "الكتلة التاريخية" التي لم تكن في حقيقة الأمر الكتلة التاريخية المنشودة. وبالتالي استطاع النظام رغم الهبات والمظاهرات في عام 2011 و2014 و2018 أن يصمد ويتجاوز الوضع موقتا، ولكن كانت هناك نيران تتحرك تحت الرماد.

وفي السنوات المنصرمة تبلورت جملة من الوقائع عبر عملية تراكم لكل العوامل السابقة التي أمكن من خلالها إزالة الكثير من الرماد عن الجمر المتوهج، منها:

1.   إدراك المزيد من العراقيات والعراقيين، لاسيما الشبيبة، بفقدان الوطن، وطنهم العراق، بغياب الحس أو الروح الوطنية العراقية عند الحكام الطائفيين الفاسدين وتبعية القوى والأحزاب السياسية الطائفية الشيعية لإيران دون مواربة، في حين التحقت القوى الإسلامية السنية أما بتركيا أو السعودية أو بعض دول الخليج، في حين توزعت علاقات القوى الكردية بين مؤيدة لتركيا وأخرى لإيران مع صراعات حادة ومستمرة ومن ثم قبول بالعلاقة الراهنة مع رئيس الوزراء الحالي لتجاوبه مع مطالب القوى الكردية، لاسيما المالية.

2.   تلمست الشبيبة عبر أوضاعها الحياتية والمعيشية تفاقم الفساد المالي والإداري وتوقف كامل لعملية التنمية مع عجز حقيقي لدى الدولة عن تأمين وظائف جديدة لأفراد المجتمع بحيث تفاقمت البطالة المكشوفة والمقنعة وأصبح الفساد نظاماً سائداً ومعمولاً به، ولم يعد ممكناً إصلاح فساد الدولة بمن أفسدها، بعكس الوهم الذي برز لدى بعض القوى السياسية.

3.   إن هذا الواقع رفع من حجم الفقر في البلاد إلى مستويات غير مسبوقة وأصبح العيش غير ممكن في ظل هذا النظام، حين لا يجوع فرد واحد فحسب، بل الملايين منهم، عندها لا يمكن إلا أن يحصل شيء ما ليلعب دوره في التغيير، القشرة التي تقصم ظهر البعير!

4.   لقد تلمست الشبيبة الدور الإيراني المهيمن بشكل كامل على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية وعلى السلطات الثلاث بمؤسسات الدولة الرسمية، وبيدها الدولة العميقة أيضاً، وعلى أجهزة الإعلام الحكومية والفاسدة، وبالتالي لم يكن أمام هذه الشبيبة الواعية إلا أن تأخذ الأمر بيديها وتعلن انتفاضتها المقدامة بوجه الحكام الطائفيين الفاسدين.

لم يشعر الحكام الفاسدون بضرورة الإصلاح أو التراجع عن هيمنتهم الكاملة على الدولة، بل شعروا بالقوة وقدرتهم على مواجهة الشبيبة المنتفضة، فعمدوا، بسبب خشيتهم على فقدان الحكم ومعه مصالحهم الذاتية، إلى استخدام أسلوب التصدي بالحديد والنار، فسقط عشرات الشهداء والجرحى ومئات المعوقين. ولم يدرك هؤلاء الأوباش ما قاله الجواهري الكبير بحق:

سينهض من صميم اليأس جيل        مُريد البأسِ جبارٌ عنيدُ

يقايض ما يكون بما يُرجّى           ويعطف ما يُراد لما يُريدُ

وازداد سيل الدماء بعد الجولة الثانية من الانتفاضة بعد الـ 25 تشرن الأول/ أكتوبر 2019، وهنا أيضاً استقبل الحكام الجبناء ذلك باستخفاف ودم بارد، كما برز ذلك في خطب المسؤول الأول عن الدم المسال، عادل عبد المهدي، ولم يدركوا مغزى قول الجواهري الكبير:

أمينُ لا تغضبْ فيومُ الطـَّغامْ       آتٍ وأنفُ شامتٍ للرَّغامْ

أمينُ لا تغضبْ وإنْ هُتـِّكَ الـ       سِّتـْرُ وديستْ حُرُماتُ الذِّمام

أمينُ خـلّ الــدمَ ينزف دماً       ودعْ ضـرامـاً ينبثقْ عـن ضــرامْ

منذ شهرين والمظاهرات السلمية مستمرة وفي اتساع يواجهها النظام بمزيد من التصدي وبمزيد من القتلى والجرحى والمعوقين والمعتقلين والمختطفين والمغيبين، ودون أن تبدو في الأفق بارقة حل سريع؟ فما العمل؟ ليس أمام المنتفضين غير الاستمرار حتى النصر المبين ولتحقيق ذلك لا بد من تغيير ميزان القوى لصالح الشعب المنتفض، فما هي الاحتمالات المتاحة في هذا الصدد؟

على وفق الواقع العراقي الراهن هناك الاحتمالات الآتية لتحقيق تغيير في ميزان القوى بحيث يقلب السحر على الساحر، بحيث يعجز الحكام عن الدفاع عن نظامهم ودستورهم ومجلسهم النيابي وقوانينهم:

1.   أن تتعاظم المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات السلمية وتستمر بدأب وعناد شديدين لتعبئة الشعب، كل الشعب حولها بما يسهم في تحطيم إرادة الحكام البغاة والجبناء ويفرض عليهم الاستسلام للأمر الواقع. وهذه العملية ممكنة ولكنها لم تصل بعد إلى درجة النضوج القصوى، فهي بحاجة إلى صبر وجهد ودأب كبيرين، وربما المزيد من الشهداء على أيدي الجناة.

2.   أن يجرى تحول كامل في أجهزة الدولة المدنية وفي الحياة الاقتصادية حين يعلن العصيان المدني التام في البلاد وتعجز الدولة عن إدارة شؤون الحياة وتتولى القوى المنتفضة تسيير الأمور وتضطر السلطة على التراجع وتسلم الأمر بيد الشعب وفق قواعد معينة دون حصول فوضى. (وهو أمر ممكن حين يتعاظم المد الثوري السلمي ويشمل المجتمع والدولة عدا قيادات الدولة الفاسدة).

3.   أن تغير القوات المسلحة، لاسيما الجيش، موقفها وترفض الدفاع عن النظام والنخب الحاكمة التي خانت قضية الشعب والوطن ولطخت أيديها بدماء الشهداء والجرحى والمعوقين. (وهو أمر ممكن في لحطة حاسمة دون أن يقترن ذبك بانقلاب عسكري).

4.   أن تتخذ المرجعية الشيعية، والتي لا زال لها تأثير في الأوساط الشيعية من الشعب، موقفاً حازماً إلى جانب المنتفضين بمطالبتها الصريحة باستقالة الحكومة أو إقالتها وتسليم السلطة إلى حكومة كفاءات مدنية مستقلة لإنجاز مهما المرحلة الانتقالية. ومثل هذه المسألة ستحرك الشعب أكثر فأكثر من جهة وستضع الحكام الشيعة الذين يدعون سماعهم لنصائح المرجعية على المحك أمام المجتمع والعالم كله. (حتى الآن لم يحصل هذا الأمر بسبب المساومة الجارية بين المرجعيات الشيعية والأحزاب الحاكمة من جهة، وبسبب المساومة بين المرجعيات الشيعية في العراق ومرجعية قم وولي الفقيه على خامنئي وتأثير الأخير المستمر حتى الآن على المرجعية الشيعية في النجف من جهة ثانية). إن أهمية هذا الاحتمال تكمن في إيمان الكثير من أتباع المذهب الشيعي في العراق بدور المرجعية، والذي كما يبدو واضحاً آخذ بالتراجع السريع بسبب ضعف مواقف المرجعية أمام النخب الحاكمة في العراق وإيران.

5.   الاحتمال الأخير حصول انقلاب عسكري ضد الحكم القائم دون أن تعرف من هي القوى التي تنفذه وماذا تريد وإلى أين تتجه أولاً، مع احتمال نشوب نزاعات دموية لا تبقي ولا تذر ثانياً. وهو ما يتجنبه المنتفضون وعموم الشعب، لأنهم ضد العنف واستخدام السلاح وضد الانقلابات. إلا إن هذه المسالة ليست بيد المنتفضين، بل ترتبط بمن يقوم به وبسلوك الحكام الفاسدين وما يمارسونه ويدفعون إليه.        

إن قوى الانتفاضة الشبابية والشعبية تقف بحزم وإصرار إلى جانب الاحتمالات الثلاثة الأولى السلمية، مع حقيقة إن جماهير واسعة لم تغسل يديها بعد من احتمال حصول تحول في موقف المرجعية لصالح الشعب لحماية وجودها ودورها الديني، وتسعى إلى تحقيق تلك الاحتمالات، في حين ترفض الانقلاب العسكري إذ لا ترى فيه حلاً لمشكلات البلاد ويمكن أن يدخلها في سلسلة من المشكلات الجديدة بما في ذلك بروز دكتاتور جديد على غرار صدام حسين ونوري المالكي وعادل عبد المهدي ومن لفّ لفّهم.  

  كتب بتأريخ :  الجمعة 29-11-2019     عدد القراء :  2061       عدد التعليقات : 0