الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
لسنا فى خصومة بل فى خلاف

لسنا فى خصومة مع الأزهر الشريف، أو مع رجال الدين، حتى إن أنكروا علينا حقاً كفله الله لنا، ونازعونا فيه وعليه، بل نحن معهم على خلاف، حتى لو جحد الناس جميعاً عليهم هذا الحق، واستنكروه منهم واستكثروه عليهم، واستفظعوا ما يقولونه، فنحن نرى أن للمعرفة حقاً، وأن للناس فيها نصيباً، والجميع شركاء فى الوسيلة وفى الهدف، ولا معنى لأن يستظل بعضنا بالحقيقة ويراها بعينيه أو يظن كذلك، ويحرمنا رؤيتها إذا أراد القلب الاطمئنان عليها، ويكون حجبها ومنعها واحتكارها مثار شك وريبة فيمن منع وفيما منع، وقتها لا لوم على من ضاق صدره وانصرف، ولا عتاب على من عاتب ورحل، ولا خصومة لمن خاصم وفارق.

والواجب على رجال الدين أن يأخذوا الناس باللين والهوادة، والرفق بالعقول وشطحاتها، وقلق النفوس وضيقها، كل على قدر فهمه وحيرته، وألا ينغصوا عليه حياته، ولا يستوحشوا عليه مماته، وهو بينهما تائه وشقى، فما استعصى أمر على الفهم قدر هذه الأديان، وما شاقها أحد إلا وغلبته، وليس يسعدنا أن يكون بينهما غالب أو مغلوب أو مقهور، وتشتد حيرة المغلوبين منه من الناس يوماً بعد يوم، وكلما غاص رجال الدين بالناس فى بحوره، وأحاطوا حياة الناس كلها بسياجه، وحبسوا مقدرات الناس داخل أسواره وحكاياته وأساطيره، وعكفوا على أسراره، وأغلقوا دونها الأبواب، اشتدت غربة الناس فيه، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وهرمت وعجزت وبليت كل الدلائل، وأصبحت قصصاً وحكايات تروى للمعاتيه والصغار، كمن يخاطب الموتى فى قبورهم، أو حديثى الولادة فى مهدهم، وظن مشايخنا أنهم يحسنون صنعاً، إلا أنهم قد دمروا العقول، وضيقوا الصدور، وأغلقوا القلوب.

ولو أنصف رجال الدين لتنازلوا عن أربعة أخماس ما يملكون وما يهيمنون عليه من أمور الدين، وجلسوا على خمسهم باحترام داخل مساجدهم وأديرتهم، لا يتحدثون إلا فيما يعنيهم من عبادات، كيف نصلى ومتى وكيف نحج ونزكى وكيف نعبد الله فقط، ويتركون أمور الدنيا للمتخصصين من رجال العلم، فى الطب والهندسة والزراعة والصناعة والبحث العلمى وغيره، وهم جميعاً الأولى بالمعرفة والرد على ما يشغل الناس ويحيرهم، ويجيبون للناس عن كل الظواهر، ويجدون العلاج لكل مظاهر الفشل والخسارة والإحباط والأمراض وغيرها بالأسلوب العلمى المنظم والمدروس، والفارق كبير بين حل وحل ودراسة وأخرى، فلو جئناهم بفاشل وخائب وخاسر لردوا أمر فشله وخيبته إلى بُعده عن منهج الله، وتقوى الله، فلو اتقى الله حق تقاته لجعل الله له المخارج والمداخل على طول يديه، ولفتح الله عليه من أسراره وخزائنه ونعمائه ما أغناه عن العالمين، ووقف النجاح والفلاح على بابه صباح مساء، وهو أمر يدعو للتكاسل، ويشد الناس للتقاعد والتهاون، ويدفع الناس للفتور والتواكل، وهو أمر محمود ومطلوب عند خايب الأمل والرجاء، ولو بحثنا فى خيبتنا الثقيلة التى أثقلت ظهورنا، وانحنت لها جباه أولاد الأصول والعز، لوجدنا لهذا التعليل وهذا التبرير وهذا الحل وهذه النجاة نصيباً كبيراً منه، أما ولو عرضنا الأمر على المتخصصين والعلماء لكان الأمر مختلفاً، عن سبب الخسائر والفشل، دراسة الأسباب العملية، ومعطيات وتقارير الأداء، دراسة أوجه الإنفاق والصرف، مراحل الإنتاج، دراسة ميدانية للسوق، دراسة حلول علمية وروشتة نجاح، ومراقبة تنفيذ الخطة، المسافة بينهما واسعة وشاسعة، اتكالية وارتجال يقابلهما اعتماد على الأسباب، عشوائية وفوضى يقابلها نظام وانضباط وترتيب، وليست تجربة شركات توظيف الأموال فى مصر وضياع مليارات المصريين ومدخراتهم إلا صورة واضحة لهذا النموذج الفوضوى العشوائى، والذى باركه وأيده كل رجال الدين فى حينه على أنه الاقتصاد الإسلامى، الذى سينجينا من عذاب الربا، فكان عذاب الربا، إن كان رباً، أهون من النصب والاحتيال، وضياع مدخراتهم وخراب بيوتهم وصحتهم، ولما نقول: لم تعد الأديان قادرة على ملاحقة طموحات الناس وأحلامهم وتطورهم وعلمهم وحضارتهم، فنحن لا نكذب ولا نتجمل، ولا ندين ديناً من الأديان، أو نقلل من قدره ومركزه فى القلوب والصدور، بل نعيده إلى ما كان القصد منه والسبيل، وهو القوة والمنعة والفائدة، إذ كان محدد الهدف والغرض، ولا يمتد إلى شئون ليست له أو فيه، فهو للعبادة والقرب من الله، أما شئون الخلق فهى إلى علوم الله، وللمتخصصين من عباده الذين اصطفى، فما من علم من العلوم إلا وكان لله فيه قدرته ومشيئته، ورضاه وقبوله، وكل لما سخر له، والجميع من الله وإليه، كل فى تخصصه، فلا دخل لرجال الدين فى أمور الدنيا، فهى لمن أعطاهم الله القدرة والعلم والتخصص لإعمار الأرض من مهندسين وأطباء وعلماء.

وأخيراً ليس لهذا الخلاف من نهاية، طالما يتجاوز رجال الدين حدودهم، ويتدخلون فيما لا يعنيهم، ويدسون أنوفهم فيما لا علم لهم به، وقد كان اليوم الذى انتصر فيه النقل على العقل، وساد فكر أبوحامد الغزالى وكتابه إحياء علوم الدين يوماً أسود على غياب الأسباب والقوانين، فتوقفت العقول عن التفكير والفرز من يومها حتى تاريخه، ولو كان الفكر المعتزلى قد نجا من هذه الهزيمة، لساد عقل المسلم، وعظم شأنه، وكان أكثر رحابة ونضجاً، والله المستعان وإليه المشتكى والمصير.

"الوطن" القاهرية

  كتب بتأريخ :  السبت 14-12-2019     عدد القراء :  2001       عدد التعليقات : 0