الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
التسامح مهمة عالميَّة.. في عصر العولمة

ربَّما لم تكن الحاجة ماسة وضروريَّة للتسامح الدِّيني، مثلما هي الآن في عصر العولمة، والذي يعني تقارب الشُّعوب واختلاطهم، مِن أقصى الشَّمال إلى أقصى الجنوب، عبر الاقتصاد والاجتماع، وتطور أدوات التَّواصل الاجتماعي إلى ما يعبر عنه بـ "لمح البصر"، مِن أقصى الأرض إلى أقصاها.

يضع هذا التقارب الإنسان مع أخيه الإنسان وجهاً لوجه، على اختلاف الأديان والعقائد، ناهيك عن التَّطرّف الذي يحاول مواجهة هذه الظَّاهرة بالانعزال العقائدي، بذريعة الدِّفاع عن الذات، أو الهويَّة الدينية، بكراهيَّة وإقصاء أكثر. فالتَّسامح لم يُعد مهمة وطنية أو مهمة دولة وشعب، إنما مهمة العالم كافة، بمعنى أن يحصل التَّعاون والأخذ بالتَّجارب في هذا الشأن، فلكلِّ دولة وشعب تجربتُه، وبما تقرّه ديانته وتقاليده، وهنا تأتي مهمة الدَّولة، فمِن المعلوم أن مقالة "النَّاس على دين ملوكهم" (ابن الطَّقطقي (ت708هـ)، الفخري في الآداب السُّلطانيَّة)، أو حسب ابن خلدون (ت808هـ): "النَّاس على دين الملك"، صحيحةٌ، فتوجه الدَّولة في التعليم والثَّقافة والمعارف بشكل عام، يضع شعبها أمام مسؤوليَّة تكريس التَّسامح، واشتراكه في هذه المهمة.

إسلاميَّاً، وردت الآية واضحة: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس: 99). كذلك وردت آيات واضحات تؤكد حرية الضَّمير، وما يخص الاعتقاد الدِّيني، وهو جوهر التَّسامح واستقلال الضَّمير: "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (الحج: 17). وتتكرر الآية في سورتي (البقرة: 62)، و(المائدة: 69).

كانت ساحات العواصم الأوروبية الكبرى أمكنة للرّعب الدِّيني، بينما تحظى اليوم بالحريات الدِّينية الواسعة، والتَّسامح الدِّيني منقطع النَّظير، ليس بمعنى عفو القوي عن الضَّعيف، إنما بمعناه الأعمق: التَّعايش المريح على أساس المواطنة ودولة القانون، أي تعايش لا فقط تساكن، ولم يتم ذلك إلا بعد إلغاء فكرة وممارسة الانتماء الدِّيني معياراً للمواطن الصَّالح، بل قضية شخصية، لا عقوبة على الالتزام بها أو عدم الالتزام، لأن الأمر مرجعه لله.

إن مقولة "حرية الضَّمير"، تحتاج إلى وطن يتحمل الجميع، على مختلف أديانهم ومذاهبهم، وهو ما أكدت عليه الآيات المذكورات. إن نجاح أوروبا في تحقيق التَّسامح دَعمه النَّص الدِّيني، مثلما هو متوافر لدينا، مِن آيات وأحاديث ووصايا، ولا يؤخذ علم "النَّاسخ والمنسوخ" بنظر الاعتبار، لكونه جاء لإلغاء أو حذف عشرات النُّصوص التي لا تسمح بالعنف الدِّيني وتوصي بالتَّعايش والتَّسامح، ومِن بداية القرن العشرين ظهرت محاولات لنبذ الدِّكتاتورية الدِّينية، على أنها أفظع مِن الدّكتاتورية السِّياسية، بل إحداهما تدعم الأخرى.

التجربة الأوروبية

كانت لفظة "التَّسامح" (Tolerance) متداولة في القرن السَّادس عشر الميلادي، بسبب السَّعي مِن أجلها والحاجة لتأكيدها، وقد حافظت "على معنى القبول والتَّحمل السَّلبي، الذي يطلُّ مِن مؤلفات كبار الأدباء، وكان فعل التَّسامح متداولاً منذ زمن طويل دون مصدره في معرض الحديث عن الحرية الدِّينية، حتى ظهرت رسالتا جون لوك (ت 1704م) "التَّسامح"، ورسالة فولتير (1778م) "التَّسامح"، فأصبحتا مادة ثقافية ومعرفيَّة لتكريس فكرة التَّسامح، وما ظهرت هاتان الرِّسالتان، إلا بعد تجربة مِن التشدد والعنف، بسببٍ ديني.

مِن المعلوم أن السَّعي إلى تحقيق "التَّسامح" احتاج إلى "إصلاح" ديني وعصر نهضة، في مختلف المجالات، فلولا وجود الأخير ما بُحث في شأن الأول، ويرى المؤلف: أن أكثر الثَّوريين على الكنيسة، في القرن السَّادس عشر، لم يظهروا بالمظهر الثَّوري للإطاحة بالماضي برمّته. لذا أخذ التحديث في ذلك العصر أشكالاً متنوعة، ومنها الارتداد إلى التقاليد الموغلة بالقِدم. حتى بدت حركة النَّهضة إحياءً لفنون العصور القديمة، وكأن الإصلاح الدِّيني راضٍ بالعودة إلى معتقدات الكنيسة الأولى، وممارستها لدعم الإصلاح بها "ولسوف يحذو الحذو عينه أنصار التَّسامح وخصومه على السَّواء، باتباعهم طريقة اللاهوتيين المدرسيين (السّكولاتيين) التي تقضي بالاستناد إلى المرجعيات وهي: الكتاب المقدس بعهدَيه القديم والجديد، وآباء الكنيسة، وبنسبة أدنى، لاهوتيو العصر الوسيط" (لوكلير، تاريخ التَّسامح في عصر الإصلاح).

لا ريب، في أن سعينا كباحثين عن التَّسامح والتَّعايش الدِّيني والمذهبي؛ ومواجهين للإسلام السِّياسي بالشَّرق الأوسط على وجه الخصوص؛ نجد أنفسنا نسير بالمسار الأوروبي نفسه، مِن حيث المضمون، مع اختلاف المعاناة، ففي أكثر المؤلفات الفكرية والأدبية والدِّينية، التي نحاول تكريس التَّسامح عبرها، نجد أنفسنا قد استغرقنا في الماضي وفي الدِّين نفسه، متخذين مِن النصوص الدينية وتراث علماء الدِّين المنفتحين، على قدر تقاليد عصورهم، أسانيد فيما نريد طرحه مِن ثقافة، وأظن أن السَّبب يتعلق بمقابلة ما يطرحه المتشددون، فهم يؤثرون على أغلبية النَّاس، وخصوصاً البسطاء، بالتراث الدِّيني والتَّقاليد القديمة، مِن خلال النُّصوص الدِّينية أو الأدبية والأخلاقية. لعلَّ أهم وثيقة، قبل أن تسود المسيحيَّة بأوروبا، وقبل أن تُتخذ ديانةً رسميَّة للدولة الرومانيَّة والبيزنطينيَّة، عقدها الملكان الروماني ليقينوس والبيزنطي قسطنطين، وكان على الدِّيانة الوثنيَّة، مع أن الأخير اقترب مِن المسيحية ولم يعلنها بعد كديانة رسميَّة لإمبراطوريَّته، فوقعا بينهما ما عُرف بمرسوم ميلانو (313م)، بعد أن صار الكف عن إيذاء الأديان المخالفة ضرورة لشعوب الممالك آنذاك، بعد اضطهاد وتعسف ضدها، ولأهميته - كوثيقة تاريخية تجد حيويتها في عصرنا الحاضر - ننقله نصاً بما تُرجم عن اليونانية، ومن بعده نأتي بصحيفة يثرب، التي صدرت العام 622 ميلادية، فالأُولى صدرت من الغرب غير المسلم، وقبل الإسلام بنحو ثلاثة قرون، والأخيرة صدرت من المشرق في العام الأول للهجرة.

مرسوم ميلانو

"لما كُنا نحن الموقَّريْن، قسطنطين وأنا ليقينيوس، قد اجتمعنا في ميلانو لمعالجة القضايا المتعلقة بمصلحة الإمبراطورية وأمنها، فقد رأينا أن ليس بين الموضوعات، التي تُشغلنا، ما هو أجدى لشعبنا مِن أن نعمد، أولاً، إلى تنظيم طريقة تكريم الآلهة. لذا اتفقنا على إعطاء المسيحيين حُرية ممارسة الدِّيانة التي يفضلون، أسوة بالآخرين، كيما تتعطف علينا الآلهة المتربعة في علياء سمائها، وتؤيدنا نحن وجميع الخاضعين لسُّلطاننا. لقد رأينا مِن الحِكمة والصَّلاح ألا نرفض لأي مواطن، مسيحياً كان أو متعبداً لآلهة أخرى، حقَّ ممارسة الدِّيانة التي تُناسبه على أفضل وجه؛ حتى إذا انصرفنا كُلنا إلى تكريم الإله الأعظم بملء حريتنا، رجونا أن نحلم برضاه وفضله المعهودَين. لذا وجدنا مِن المناسب أن نُعلم سيادتكم (الرِّسالة وُجِّهت إلى إمارات الدولتين) بحذفنا القيود المتضمنة في القرار السَّابق بشأن المسيحيين (القرار 312)، والسَّماح لهم بممارسة دياناتهم ابتداء مِن هذه اللحظة، مِن دون التَّسبب لهم بإزعاج. لقد أصررنا على إعلامكم بالأمر، على أوضح وجه، لكي تكونوا على بيِّنة مِن أننا نترك للمسيحيين الحرية التَّامة والمطلقة في ممارسة شعائرهم الدِّينية، ولما كنا قد منحنا هذا الحق للمسيحيين فليس ليفوت سيادتكم، بالطَّبع، أن ما يحق لهؤلاء يحقُّ للآخرين أيضاً، ومتى منحنا رعايانا كافة كامل الحرية في عبادة الإله الذي اختاروه، ولم نضنّ على أيِّ مِن الآلهة بالإجلال المتوجب لها، حققنا إنجازاً يليق بعصرنا، ويتلاءم مع حالة الهدوء والاستقرار التي تنعم بها الإمبراطورية" (لوكلير، تاريخ التَّسامح في عصر الإصلاح).

أصبح قسطنطين مسيحياً وأمضى معه ليقينيوس، الذي ظل على وثنيته، قرار الحرية الدِّينية، وكان الأخير يُعد مِن الأوساط المثقفة في الوثنية، وكأن هناك (حسب لوكلير) اتجاهاً نحو الاعتراف برأس آلهة متعددة، على أن للمسيحية إلهاً ولليهودية إلهاً، ومثل ذلك يكون للوثنية، بمعنى "ارتباط العلة بالمعلول". كان المدافعون عن المسيحية يفترضون ضمناً تسليم قرائهم أو أتباعهم، بوجود إله مشترك بينهم وبين الوثنيين "تلقائياً في الابتهال إليه".

يصعب إنجاح ثقافة التَّسامح بدولة دون أخرى، ونقصد النَّجاح الأكبر والدائم الذي يسود المجتمع والعلاقات بين الأديان، فالعالم صار مشتبكاً في ظل العولمة، عبر الاتصال السَّريع، والذي عبرنا عنه بـ "لمح البصر"، والتداخل الاقتصادي والاجتماعي. لذا تصبح المهمة مشتركة، على المستوى الثَّقافي والسِّياسي، وهنا يأتي دور رجال الدِّين، من مختلف الأديان، وعبر تأثيرهم الرُّوحي في المجتمع.

أصبحت الحاجة ماسة لقيام مراكز الحوار الدِّيني والمذهبي، الذي يرافق الاختلاط بين الشُّعوب، وتأتي مهمة تدريس الأديان المقارنة، في المدارس والجامعات، فليس من المنطق أن تتحدث عن التعايش والتسامح، والتعليم لا يُقدم المعرفة بمَن تريد التعايش والتَّسامح معهم. نخلص بنتيجة، بعد قراءة التَّجربة الأوروبيَّة، في تكريس التَّسامح الدِّيني، أن الدور يقوم به الملك والمثقف، وقد حصل بأوروبا أن المثقف يكشف الأسباب ويرسم الطَّريق، والسلطة تصدر القوانين.

لقد أصبح العالم وشعوبه قرى متجاورة، لا قيود على الاتصال بينها البين، فلا مسافات مانعة، ولا جبال، وبحار حاجزة. هذا ما عبر عنه محمد مهدي الجواهري (ت1997) ببلاغة، وتوقع ذلك العام (1951)، حين قال: "يا مصرُ: لاءَمت البسيطةُ شَملَها/فالكونُ أصغرُ والمسافةُ أقصرُ/ وتلاقتِ الدُّنيا فكاد مُشرِّقٌ/مِن أهلها بمُغرِّبٍ يتعثرُ/ ويكادُ بيتٌ في العِراقِ بجذوةٍ/ مضرومةٍ في "تِيبَتٍ" يتنوَّرُ"(الديوان 4 ص 28). أبعد من هذا بكثير نقرأ لأبي سليمان السِّجستاني (ت 380هـ) في الإشارة إلى العولمة، في تراثنا الإسلاميّ، التي تتحقَّق الآن عبر الأثير، أو الفضاء الافتراضي، بما نصفه بتواصل "لمحة البصر"، عندما قال: "الأمكنة في الفلك أشد تضامناً من الخاتم في إصبعك، وليس لها هناك هذا البعد الذي تجده بالمسافة الأرضية من بلد إلى بلد بفراسخ تقطع، وجبال تُعلى، وبحار تخرق" (التَّوحيدي، الصَّداقة والصَّديق).

تناولت الحلقة الأولى التسامح الدينية من الوجهة الأوروبية القديمة والحديث، تتناول هذه الحلقة وهي الأخيرة التجربة الإسلامية والتي تظهر جلية في صحيفة يثرب في العام الأول من الهجرة، ثم التجربة الأميركية في الاعتراف بالأديان ضمن دستورها، فالتنوع الإنساني مصدر قوة.

صحيفة يثرب

كُتبت صحيفة يثرب، أو كتاب يثرب، كمعاهدة بين فئات مجتمع المدينة (يثرب)، بعد هجرة النَّبي صلى الله عليه وسلم إليها مباشرة، وجاءت لحلِّ ما كان قائماً بين الفئات الاجتماعية والدينية، من نزاعات وحروب، في داخل المدينة، أو ما يتعلق بتلك الكيانات مع خارجها. وتعد مِن اللوائح القانونية الأُولى، ذات الصبغة الدستورية، وهناك مَن اعتبرها أقدم اللوائح، أي كلائحة يتم التعاهد عليها والاتفاق، ولها مرجعية واحدة، تبتُّ في الالتزام بها مِن عدمه، وتنظيم ما يتعلق بشؤون القتال والأسرى، وبالجانب الاقتصادي بما يتعلق بالإنفاق والتكافل الاجتماعي، ورعاية تطبيق القِسط والعدل بين تلك الفئات، وما تقرر فيها مِن التسامح الديني، أي التعايش والتجاور مع الاحتفاظ بالعقيدة الدينية، وحرية ممارسة الطُّقوس، ولم تَستثنِ أي جماعة، بما فيها جماعة المشركين، ولا شيء على الجميع سوى الالتزام ببنود ما جاء في الوثيقة أو المعاهدة، واتُّفق عليه.

هيأت الصحيفة المذكورة المجتمع بالمدينة المنورة، ومنذ مطلع العام الهجري الأول، إلى التضامن والتكافل الاجتماعي، مع الاحتفاظ بالعقائد الدِّينية وخصوصيتها، والاحتفاظ بحرية المقدسات لكلِّ ديانة. صحيح أن المدينة كانت حينها، حسب بنود الوثيقة التي فرزناها إلى ثلاثة وخمسين بنداً اقتبسناها من سيرة ابن هشام، مقتصرةً على المسلمين والمشركين واليهود، بسبب عدم وجود الديانة المسيحية وغيرها فيها وقتذاك، لكن البنود الخاصة بالديانة يمكن القياس عليها، حتى لو تعددت أديان منطقة ما إلى العشرات، فما زال يوجد أساس للاتفاق، فلا يضر كثرة الديانات أو قلّتها. أما عن تأكيد شمول المشركين بيثرب، أو المدينة، فقد جاء في البند التاسع عشر من الوثيقة: "لا يُجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن".

سميت الوثيقة بعدة أسماء، فقد وردت في السيرة النَّبوية لابن إسحق(ت151هـ) وابن هشام (ت 218هـ) بـ"الكتاب" و"الصَّحيفة"، وفي "الأموال" لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) بـ"الكتاب"، ومَن سماها بـ"الموادعة"، و"الوثيقة"، و"الميثاق"، و"المعاهدة"، و"الدستور"، والتسمية الأخيرة جاءت معاصرين ممَّن اعتبر المدينة دولةً إسلامية، وهذه الصَّحيفة دستورها، بل اعتبرت في "مؤتمر دائرة المعارف بحيدر أباد الدكن 1938"، بأنها أقدم دستور مسجل في العالم. جاء ذكر نصها في عشرات المصادر الإسلامية، من كتب السيرة والتاريخ والأموال والحديث النَّبوي، وقد جمع تلك المصادر محمد حميد الله (ت 1981) في كتابه التَّوثيقي: "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النَّبوي والخلافة الراشدة" (ص 57 ما وبعدها)، وعنونها بعبارة: "دستور الدَّولة البلدية بالمدينة".

أما تاريخها؛ فيكاد يكون الإجماع على أنها كُتبت في السنة الأولى للهجرة، مثلما تقدم، حال وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والاستقرار فيها، بعد بيعتي العقبة الأولى والثانية، بين جماعة مِن أهل المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم، على أن يُدافعوا عنه مثل دفاعهم عن أرواحهم وأموالهم، وهما البيعتان اللتان مهدتا إلى الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة.

شملت الصحيفة المسلمين والمؤمنين، حسب مستهلِّها "هذا كتاب مِن محمد (صلى الله عليه وسلم) بين المؤمنين والمسلمين مِن قريش ويثرب..."، ويغلب على الظن أن هناك فارقاً بين التسميتين، حسب الآية الكريمة: "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ" (الحجرات: 14)، أي: أن المؤمن مِن دعَّم إسلامه، آنذاك، بالجهاد وطاعة الله ورسوله، مِن دون تردد.

كذلك تضمن العديد مِن بنودها الديانة اليهودية، وأشارت إليهم بالمساواة مع المؤمنين والمسلمين، وكذلك من غير المؤمنين والمسلمين مِن قريش والذين يُقيمون بالمدينة، قبل الإسلام، فإذا كانت الصحيفة كُتبت في مستهل العام الهجري الأول، فيمكن أن يكون هناك مَن لم يدخل الإسلام بعد، وعلى وجه الخصوص قبل المعركة الأولى مع قريش مِن أهل مكة، وهي معركة بدر التي حدثت في السنة الثالثة مِن الهجرة.

أهم ما أنتجته الوثيقة حينها أنها أشارت إلى مجتمع المدينة كلياً، مِن منطلق العقيدة الدينية، وليس من منطلق القبيلة، هكذا وردت تسميات الجماعات، صحيح أنها ذكرت أسماء القبائل والأُسر كالأوس، وبني الحارث وبني ساعدة وبني النبيت، لكن ذلك جاء للتعريف بالجماعات الدينية، فاليهود لم يكونوا واحداً ولا غيرهم، فمِن الصعب آنذاك تجاوز تلك التسميات الاجتماعية، لذا تم التعامل معهم بديانتهم وبانتماءاتهم القبلية. مع أن بعض الدارسين للوثيقة أشار إلى أنها تعاملت بـ "الأمة الإسلامية فوق القبيلة"، مثلما تقدم، لكن لماذا لا نأخذ ما ورد في مستهل الوثيقة نفسها وندع التفسيرات والتأويلات، فهي قد تعاملت بمصطلح "أُمة الناس"، وبذلك يكون هذا المصطلح فوق القبيلة؟!

أمريكا والاعتراف الدِّيني

حرص الرَّئيس الأميركي الثَّالث توماس جيفرسون (1801-1809) على اقتناء نسخة مِن القرآن الكريم، لأنه، سياسي طموح ومثقف، يرنو إلى تأسيس دولة مدنية تضم الجميع. لهذا تحرك مبكراً في التَّخفيف مِن الرِّق، ومعالجة قضية الهنود الحُمر، ولأنه كان صاحب اطلاع على ثقافات الشُّعوب، وذا اتصال مع الحكام المسلمين بشمال أفريقيا، طرأ على باله أن المسلمين سيكونون جزءاً مِن تركيبة المجتمع الأميركي، إلى جانب بقية الأديان، فماذا على الدَّولة توفيره، مِن دستور مدني يحفظ حقَّ الجميع، وألا يكون الحُكم دينياً، فيصبح التعامل على أساس العقيدة لا المواطنة.

فعندما يجري الحديث عن أغلبية دينية أو مذهبية، يكرس القانون حرية الأغلبية في فرض مقدساتها وتقاليدها، وهنا لا نقصد فرض العقيدة، إنما الهيمنة على الدَّولة بعذر حقِّها في ممارسة المقدسات في الدَّائرة الرَّسمية والمدرسة والطَّريق، فمناسبتها عطلة للدَّولة، وعيدها عيد الدَّولة، فلا تبقى قيمة للشعور بالمواطنة، ولا معنى لما يُتبنى مِن طريق الدَّيمقراطية في الحُكم، ولو أن الولايات المتحدة، وبقية الدُّول المتقدمة، ذات التَّنوع الدِّيني والمذهبي، كرست دستورها وقوانينها على أساس الدِّين والمذهب، لما وصلت إلى ما هي عليه.

كانت هذه الأفكار حاضرة في ذهن أحد بُناة الولايات المتحدة الأميركية، وكاتب لائحة استقلالها (1776)، هذا ما تحدثت عنه المؤلفة الأميركية دينيس أ. سلبيرج، الأستاذة المشاركة في تاريخ ودراسات الشَّرق الأوسط في جامعة تكساس، في كتابها الثَّري “جيفرسون والقرآن.. الإسلام والآباء المؤسِّسون”، الصَّادر بالإنجليزية عن دار “نوبف” بنيويورك (2013)، ثم أصدرت دار “جداول” نسخته العربية (2015)، تولى ترجمته فؤاد عبد المطلب.

كان اهتمام جيفرسون المبكر بالإسلام والمسلمين دفع البعض إلى اعتباره مسلماً، ويعني هذا الاعتبار في القرن الثَّامن عشر، وفي الوسط الإنجيلي والكاثوليكي، الكثير سلبياً، على شخصية سياسية تطمح لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية. ربَّما لم يتوصل جيفرسون إلى فكرة بناء الدَّولة والأُمة المختلطة، إلا بعد تأثره بالفيلسوف البريطاني جون لوك (ت 1704)، فقد أخذ يقتبس من مؤلفاته فكرة المدنية في الحُكم، خصوصاً رسالته في “التّسامح”. هنا يأتي دور التعاضد بين المثقف والسياسي أو الحاكم الرَّاشد، إن صحت العبارة، وهذه الثنائية ساهمت بنقل أوروبا من الحروب الدِّينية الطويلة، وظروف التعصب الدِّيني والمذهبي القاسية إلى رحاب المدنية في الحُكم وإدارة المجتمع. فترى جيفرسون يقتبس عبارة جون لوك المهمة في طرح التسامح الديني: "يجب عدم استثناء الوثني والمحمدي (المسلم) واليهودي مِن الحقوق المدنية للكومنولث بسبب دينه" (جيفرسون والقرآن).

تقول المؤلفة، في كتابها المذكور، عن نباهة جيفرسون في بناء دولة المواطنة: "لما كان معظم الأميركيين جاهلين، أو مضللين، أو ببساطة خائفين مِن الإسلام، تخيل توماس جيفرسون المسلمين مواطنين مستقبليين لأمته الجديدة، وقد بدأ ارتباطه بالدِّين مع شراء قرآن، قبل إحدى عشرة سنة مِن كتابته لإعلان الاستقلال، ولا يزال قرآن جيفرسون في مكتبة الكونجرس، مشكّلاً رمزاً لعلاقته المعقدة هو وأميركا المبكرة مع الإسلام وأتباعه" (المصدر نفسه).

كان وراء طرح قضية إشراك المسلمين في الأُمَّة الجديدة، لوجود مسلمين آنذاك بين المهاجرين، وإنْ كانوا بأعداد محدودة، ثم طرح المشكلات مع طرابلس الغرب عن حرية التجارة والتعامل مع السُّفن الأميركية المارة في البحر الأبيض المتوسط. كذلك كان الدَّافع هو محاولة تجنب العنف بين المذاهب المسيحية بأوروبا آنذاك، ونقلها إلى التَّجربة الأميركية، فعلى حد قول المؤلفة: "أن يكون المسلمون القضية القياسية لتعيين الحدود النَّظرية لتسامحهم مع جميع المؤمنين".

التَّنوع الإنساني قوة

لا يتحقق التَّسامح، على المستوى العالمي، بل الوطني والإقليمي، بلا قبول للتنوع الإنساني، الديني والمذهبي، وكل ما اختلف فيه البشر، من اللون والعرق، ولا يغدو هذا التنوع سمةً من سمات الدُّول والمجتمعات المختلطة، بلا إدارة مخلصة تتبناه بموجبها الدولة كأحد ثوابتها، ثقافةً وممارسةً.

لأهمية التنوع، وأهمية مقولة «الناس على دين ملوكهم»، مثلما تقدم ذِكر ذلك، يُذكر أن رجال دين اقترحوا على السُّلطان العثماني سليمان القانوني (ت 1566) بفرض الإسلام على إمبراطوريته كافة، فكان جوابه: «كما أن هذا التَّنوع الظاهر في الأعشاب والأزهار لا يُضير في شيء، بل يُجدد النَّظر والشم على نحو رائع، كذلك تنوع الديانات في إمبراطوريتي لا يُشكِّل عبئاً عليَّ، بل عوناً لي(...) شرطَ أن يعيش رعاياي بسلام ويطيعون أوامري، فالأفضل لي أن أدعهم يعيشون على طريقتهم، ويتَّبعون الديانة التي يريدون (...) بدلاً من أن أثير الفتن، وأرى دولتي مُقفِرة شأن حديقة اقتلعنا منها جميع الأزهار، ولم نُبقِ فيها إلا على لون واحد». ذكر ذلك رجل القانون الألماني فيليب ميراريوس (ت 1624)، في «تأملات تاريخية» (صدر 1591)، الذي وثق فيه جهود أمراء وملوك قدماء في إدارة التنوع (لوكلير، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح).

إذن، ظل التنوع قائماً بإمبراطوريات إسلامية، فقبل الإسلام، لم تكن المنطقة خالية منه، فلشاعر الحيرة عَدي بن زيد (نحو 587م)، ما يشير إلى الاعتراف بالإله الواحد مع وجود التنوع بعبادته: "سَعى الأعداء لا يألون شرّاً/عليك وربِّ مكةَ والصَّليبِ/أُعالِنُهُم وأبطنُ كلَّ سرٍّ/كما بين اللّحاء إلى العَسيب"ِ(اليسوعي، شعراء النَّصرانية قبل الإسلام)، إشارة إلى الاعتراف المتبادل بين ديانتي مكة والحيرة قبل الإسلام.

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 15-01-2020     عدد القراء :  2229       عدد التعليقات : 0