الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
السجال العقائدى فى «الاختيار» 1-2

السجال العقائدى فى «الاختيار» (1)

بمناسبة الحوار الدائر الآن فى مسلسل «الاختيار» حول عقيدة الجهاد وأحكامه وتطبيقه والشهادة وفضلها وكل ما دار من سجال بين الطرفين، أؤكد ما قلته مراراً والله على ما أقول شهيد، أن الحوار مع هؤلاء الإسلامويين، المقاتلين منهم والواقفين فى سوق الانتظار أو مدرجات المشجعين والمؤيدين على كل المستويات العلمية والاجتماعية والمادية، حوار بلا شاطئ أو مرسى، ضائع ومتخاذل ومنهزم، ولو راجعت مشايخهم جميعاً، الأموات منهم والأحياء، كباراً وصغاراً فى الغرف المغلقة، لاتفقوا على قتل المرتد وتارك الصلاة والزكاة وجهاد الكافرين ما استطاع المسلم القادر إلى ذلك سبيلاً، وهم متفقون جميعاً على مراحل الجهاد الأربع، الأولى: مرحلة الكف والإعراض والصفح والموادعة، والثانية: مرحلة الإذن بالقتال دون فرض حين قويت الشوكة، والثالثة: مرحلة الإذن بالقتال لمن قاتلهم واعتدى عليهم، والرابعة (نحن بصددها) قتال المشركين كافة «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد....». وهذه الآية هى آية السيف، والتى نسخت «ألغت» آيات الموادعة والمصالحة والعفو والصفح، والتى تُلزم المسلم بابتداء الكفار بالقتال ولو لم يبدأوه بقتال، وهو جهاد الطلب، ولو أنكرت طائفة من المسلمين جهاد الطلب هذا واستقر أمرها على ذلك لصارت «طائفة ممتنعة» عن شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة ويجب قتالها كالخوارج، (ونحن هنا فى هذا الحكم). النصوص والأحكام واضحة حول عقيدة الجهاد لا خلاف عليها، والأحاديث والتأصيل الشرعى لما قام به الصحابة أمر قد تمكَّن منهم لا محالة، ولو دار الجدال على هذا الخط مع هذه الجماعات ما حادوا عنه قيد أنملة، بل النجاح العظيم لهذا الحوار على هذا النحو يصب فى مصلحتهم، ومال من سمع هذا الحوار من البسطاء والفقراء والجهلاء لهم ميلاً قليلاً، أما المرضى الذين يجدون فى العنف والبأس والقسوة نصيراً وعلاجاً، وصدورهم ظمأى للإثخان والفتك، فهؤلاء يميلون ميلاً شديداً، ولو كانت تربيتهم سوية وصالحة لما ذهبوا وما مالوا ناحية العنف، وهذا يدفعنا لمعرفة المعين والمصدر الرئيسى للفريقين، فقراء يحتاجون الرعاية والعمل، ومرضى يحتاجون للدواء والعلاج.

فلا مجال لخطاب العقل مع هؤلاء، أو فتح قنوات تستدر عطفهم، أو تُلين ضمائرهم، أو تُرقق قلوبهم، فقلوبهم غلف وموصدة ومصفحة، وعقيدتهم راسخة ثابتة عن علم الجهاد من شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان دون رخاوة، وعنصر الرخاوة أحد أسباب الفشل لأى عمل جهادى، ويستشهدون بنجاح الخلافة العباسية وفشل الآخرين بسبب القسوة والشدة والترويع والتخويف، ومنها نبش قبور الأمويين وصلب جثث خلفائهم، وكذلك الغلظة التى صاحبت الغزوات فى تاريخ الأوائل، وما صنعوه فى الناس على يد قادة الجيوش «فالعرب كانوا محاربين ويعرفون طبيعة الحروب، وهكذا فهم الصحابة أمر الشدة، وهم خير من فهم السنن بعد الأنبياء، حتى إن الصدّيق وعلى بن أبى طالب رضى الله عنهما مارسا التحريق بالنار على الرغم مما فيه من كراهة لمعرفتهم بأثر الشدة المغلظة عند الحاجة (كتاب إدارة التوحش منهج كل الجهاديين)، وفيما قالوه: «وسواء استعملنا الشدة أو اللين فلن يرحمنا أعداؤنا إذا تمكنوا منا».

وأول محاور الحوار الركيك الضعيف أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، ونؤكد أن الإسلام انتشر بالسيف لا خلاف، وإياك أن تغالط هذه الحقيقة وإلا سقط الحوار فى مستنقع المزايدة والمحاباة والمناقصة والتكلف، ولو قال بعضهم إن الإسلام انتشر بالدعوة كخطوة أولى ومن أبى جاهدوه بالسيف، لأن السيف منفذ للمصلحة، وإلزام الناس بأداء حق الله فى العبادة بالقوة، هى مراوغة مرفوضة، وتضليل مهين وظالم للدعوة ذاتها، الأمر واحد فى الحالتين، والحقيقة أن الإسلام انتشر بالسيف، وكانت الهجرة إلى المدينة بداية تحويل الخلاف بين المسلمين وقريش من خلاف عقائدى إلى خلاف سياسى يحسمه السيف والقتال، وكان الوسيلة الوحيدة لإنهاء النزاع بين الأطراف، هل كان ضرورة؟ ربما. ولم يكن الأمر مطلوباً ولم يكن منهجاً مقبولاً للدعوة بعد وفاة صاحب الوحى والدعوة، إلا أن حروب مانعى الزكاة (وأطلقوا عليها خطأ حروب الردة) قد خلقت جيوشاً جرارة بالآلاف، ومقاتلين ومحاربين أقوياء أشداء، أدمنوا القتال، ولم يكن مقبولاً عودتهم للمدينة بعد أن ذاقوا حلاوة الغنائم والسبايا والسطو ونعمة الحصول على ثروات الغير وغنائمه دون عمل اللهم قتله وغزوه، وأتصور أن حكمة أولى الأمر قد فرزت الأمر جيداً وحوّلتهم إلى ميادين القتال بديلاً عن العودة إلى المدينة، هروباً من عبء لا فكاك منه، وقلاقل قادمة لا محالة، وقد حاولوا تأصيل هذا الغزو تأصيلاً شرعياً، تحت مسمى فتح إسلامى أو جهاد لنشر الإسلام، إلا أنه كان غزواً واحتلالاً وسلباً بغير حق، عقيدة الجهاد سارت مسار البداوة، وخالفت المسار الإلهى للدعوة يقيناً وأكيداً، هؤلاء قد قالوا بالحرف الواحد: «العلم الذى لا يصل إلى التصديق الجازم ولا يطابق الواقع لا يسمى عقيدة».. الأسبوع المقبل.

«الاختيار»: ابن تيمية ليس الأول وليس الآخر (2)

وصلنا فى المقال السابق إلى أن الحوار العقائدى فى مسلسل «الاختيار» بين الأطراف منقوص إذا كان على أرضية دينية، مستقيم وصادق إذا كان على أرضية وطنية، وإذا مالت الحجة عندهم، فليس الميل على ثقة أو صواب، بل لم يكن مكتوباً بمهارة، وليست عقيدة الجيوش حماية الأديان وأركانها، بل عقيدتها حماية الأوطان وحدودها، فلما خرج بدا وكأنه نزاع بين دينين، أحدهما على الحق والآخر على الباطل، فإذا علمت أنه دين واحد، موزع بين جند الله وجند الشيطان، وإرهابيين وطواغيت، وخوارج ومؤيدين، يصبح العيش بين الفريقين مستحيلاً، ويصبح فض الاشتباك بين «خصوصية السبب» و«عمومية اللفظ»، الحل السحرى يوماً ما، مرفوضاً منهم استكباراً وعناداً، ومردوداً منا عقلاً وموضوعاً، ويكون الحل العصرى والمقبول هو إبعاد الدين عن السياسة والحكم كلياً، فسلمت الأمة وسلمت الأديان أيضاً، وليس هذا الاستحواذ إلا حفاظاً على مكاسبهم وغنائمهم، وليس نصرة لدين الله منذ الأيام الأولى، وما كان الواحد منهم يشب من فقره وعوزه إلا بالترويج لهذه العقائد، وظل على طرقات المقابر يتلقف رغيفاً من هنا وتمرة من هناك، وما كانوا فى هذا العز، يسكنون القصور ويركبون السيارات الفارهة، والطائرات والشركات الخاصة، ويموت الشباب فى ميادين القتال والجهاد، وأولادهم ينعمون فى بلاد الغرب الكافر بنعيمه وعلمه وترفه، ولو راجعنا ما تركه الصحابة الأوائل من أطنان الذهب والضياع والقصور والسبايا لأدركنا أن الهدف واحد، يطوفون حوله منذ قرون.

وكنت أود تأجيل الحديث عن ابن تيمية، إلا أن أمره قد أزف، وهو ليس بشيخ الإسلام ما زعموا، هو شيخ كأى الشيوخ، قارئ واسع الاطلاع، حنبلى المذهب، لم يتعلم على يد شيخ من الشيوخ، حاد الطباع والمزاج، وقد كان عازفاً عن الزواج، فتحامل وقسا وأهان واحتقر المرأة ما وسعه حنقه وغيظه، وكأن عصره عصر الغزو التتارى، والانحطاط الفكرى، فكان متطرفاً فى فتاواه، عنيفاً فى أحكامه عليهم وعلى المسلمين ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ومنها فتوى «ماردين»، وإن أصاب الرجل مرة فقد أخطأ المئات، ولما كان فى مصر 1305 ميلادية، لم يكن له عمود فى الأزهر، فلم يرتق إلى هذا المنصب، وهو أمر الرفعة للمشايخ ذوى المكانة والعلم، وحبس ابن تيمية عن أفكاره سبع مرات: خمس بالقاهرة والإسكندرية ومرتان فى سجن القلعة فى دمشق، ومات فى الأخيرة هناك بعد عامين من الحبس عن كتابه «لا يشد الرحال إلى مسجد النبى»، واتهمه ابن حجر الهيثمى الشافعى بأنه مبتدع وضال، مع فساد أحواله وكذب أقواله، والحافظ بن حجر العسقلانى رأيه من رأى الهيثمى، ومحمد بن العلاء البخارى «صرح بتبديعه وتكفيره» حتى مفتى الديار المصرية محمد نجيب المطيعى، مواليد 1915، وصف عقائده بالكساد وأقواله بالفساد، واتهم ابن تيمية فى تاريخه «بالزندقة تارة وأخرى بالهرطقة والكفر» وربما «والله أعلم» كان رأى هؤلاء خاصاً بفكر ابن تيمية عن عقيدة «التجسيم»، وليس عن تكفيره وقتله المسلمين «عمال على بطال»، ولم نسمع أو نقرأ عن أحد عارضه فى هذا، بل كثيرٌ من مشايخنا المعاصرين حكموا بأحكامه فى قتل المرتد وتارك الصلاة والزكاة وما زالت تدرس فى جامعاتنا ومعاهدنا، سواء تحت اسمه أو اسم غيره، حتى فتواه التى تبيح للغوغاء إقامة الحد وتفتح لهم أبواب البلطجة وافقوه عليها «فإذا امتنع ولى الأمر عن تنفيذ الحدود، وجب على نفر من المسلمين إقامة هذه الحدود» وهى الفتوى التى أخذ بها محمد الغزالى فى قتل الشهيد فرج فودة، «يا شيخ رمضان هل يؤخذ منه ويرد إليه؟، وهل فتاواه لعصره فقط لم تؤرق مضاجعنا اليوم؟، فلماذا تأخذون بها فى قتل المرتد وتارك الصلاة، وحق النفر العادى إقامة الحدود خارجاً على سلطة الحاكم؟» إلا أن ابن تيمية لم يكن مصدر الإرهاب الوحيد فى تاريخنا الدموى، هو جزء منه، إلا أن استدعاءه من رحم الماضى كان بجوار استدعاءات كثيرة له ولغيره، ولو راجعنا كتب الدواعش، لكان لهم فى كل الخلفاء والأمراء والحكام والمشايخ نصيب وعبرة، وفى مقتل كعب بن الأشرف وعصماء بنت مروان وأم قرفة السند فى قتل الخصوم والمعارضين، وكذلك التحريق الذى تم فى عهد أبوبكر وخالد وإثخان بنى العباس وغلظتهم وقسوتهم النصير والمعين.

الجدال ليس بين عقيدتين، وليس بين شيخين، وليس بين دولتين، الجدال يقتضى أن يكون بين دولة وخارجين عليها، بين قانون ومتمردين عليه، بين دولة مدنية وجماعة تجرها إلى قبيلة وطائفة عنصرية، بين وطن ومارقين عليه، بين مواطنين متساوين فى الحقوق والواجبات وعشيرة ترى علو وسمو دم منتسبيها وحقهم فى سلب حقوق مخالفيهم فى الدين والمذهب، بين قانون واحد ملزم للجميع وحاشية تميز نفسها بشريعة خاصة، تستأثر بالحق، ولا يقتل أحدهم بقتل غيره من الملل، ولا يشهد عليه أحدهم، بين دولة يتمتع أفرادها بحرية العبادة والعقيدة وأخرى لا ترى هذا حقاً لأصحاب الأديان الأخرى، بل يكرهون على تركه، بين دولة الكل فيها سواء لا فرق بين المرأة والرجل لعصابة تراها أكثر أهل النار، وأكثرهم إخباراً بالفواحش، هذا هو الجدال والنقاش، علم وجهل، حضارة وتخلف، نظام وعشوائية، إنسانية وغابة، وليس فوق هذا الجدال جدال، محسوم أمره حتى لو كان بيننا مئات من ابن تيمية أو سيد قطب، وقُضى الأمر الذى فيه تستفتيان.

"الوطن" القاهرية

adelnoman52@yahoo.com

  كتب بتأريخ :  الجمعة 29-05-2020     عدد القراء :  1950       عدد التعليقات : 0