الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
التكنية وعموم المخاطبة عندنا وثقافة الحداثة ٤/٥

٧ - فلان/ فلانة: عادة يخاطب الصغار عندنا بأسمائهم المجردة، وليس بكناهم أو ألقابهم، وهذا هو الأمر الطبيعي، ولكن الغريب يستثنى من ذلك الأطفال المنحدرون من نسل الرسول عن طريق علي وفاطمة، فهم ينادون منذ الصغر بـ(سيد) و(علوية). والذين يخاطبون أيضا بأسمائهم المجردة هم الأشخاص عديمي الجاه الاجتماعي. تفترض أن تكون هذه هي المخاطبة بين الأصدقاء، ولكننا أصبحنا نتحرج من مخاطبة أقرب الأصدقاء بـ(فلان/ فلانة)، إلا في حالات نادرة، من قبل من تجاوزوا هذه الأعراف.

٨ - أبو فلان/ أم فلان: وهذا بالذات هو موضوعنا، موضوع التكني والتكنية. كما ذكرت، لم يقتصر هذا العرف على العرب، بل انتقل إلى متديني وبالذات سلفيي الشعوب المسلمة غير العربية، ولدى العرب لم يقتصر ذلك على المتدينين، بل انتقل إلى غيرهم، بل شمل حتى أتباع الديانات الأخرى من مسيحيين وغيرهم. والتكني حتى مع عدم وجود الولد أصبح سنة دينية في وسط المتدينين، لاسيما الإسلاميين، بل انتشر في أوساط الحركات السياسية العلمانية، كحركة التحرير الفلسطينة، وسائر حركات التحرير، والشيوعيون والقوميين وغيرهم.

قبل أن أواصل تناول المخاطبة بالكنى، أحب أن أسرد مثلا من مجتمع غربي، هو المجتمع الذي عشت أكثر عمري فيه، أي الألماني. ففي ألمانيا كمثال، في حالة مخاطبة الاحترام للكبير الغريب، يخاطب الشخص بـ Herr (هَـِر) [الحركة على الهاء هي ما بين الفتحة والكسرة، لذا وضعت كلا الحركتين] مقترنا بلقب المخاطب، أي (السيد)، أو Frau (فْراو)، أي (السيدة)، مقترنا بلقب المخاطبة، واللذين يقابلهما بالإنگليزية (Mister) مِستَر، و(Missis) مِسِز، مقترنا باللقب، مثال في حالتي (السيد الشكرجي). بينما تكون المخاطبة بين أفراد الأسرة، وبين الأصدقاء، وللصغار بالاسم الأول وليس باللقب، بدون إضافة (سيد) أو (سيدة)، في حالتي (ضياء) مجردا. بينما في أمريكا نجد استخدام الاسم الأول أكثر شيوعا من ألمانيا. أما إذا خوطب شخص بلغة الاحترام بدون ذكر اسمه أو لقبه، فهنا تكون المخاطبة في ألمانيا (mein Herr) بمعنى سيدي، و(Meine Dame) بمعنى سيدتي، وفي بريطانيا (Sir) و(Madam).

نرجع إلى التكنية بـ(أبو/ أم فلان/ فلانة). إذا ما تجاوزنا الأوساط المتدينة والمحافظة، وتناولنا الوسط المنفتح أو المثقف أو العلماني، نجد إن هناك ثلاثة مستويات من أعلى درجات الخطاب الرسمي، إلى أشد درجات (الميانة) أي الصداقة الخالية من التكلف والرسميات.

١ - أستاذ فلان/ ست فلانة: هذا هو الخطاب السائد مع من لا تكون لنا علاقة مرفوعة فيها الحواجز الرسمية. وبينت تحفظي على التمييز بين الرجل والمرأة، فواضح إن درجة الاحترام أعلى بكثير في مفردة (أستاذ) مما هو الحال مع (ست). والتحفظ الآخر، إن الأستاذية أصبحت مبتذلة، فأنت تخاطب من يستحق نعته بأستاذ ومن لا يستحقها. بينما لو كنا نستخدم السيد بشكل متساو، كما في الغرب مثلا، فينادى صاحب أعلى منصب في الدولة كما المواطن العادي، غنيا أو فقيرا، نائبا أو عاملا، الكل ينادون بالسيد والسيدة عملا بمبدأ المساواة، هذا أي مبدأ المساواة الذي شمل المساواة بين المرأة المتزوجة وغير المتزوجة، فكلتاهما تخطبان بالسيدة، وألغي خطاب الآنسة رسميا بقانون، ثم اندثر ونسي اجتماعيا.

التكنية وعموم المخاطبة عندنا وثقافة الحداثة ٥/٥

٢ - أبو فلان/ فلانة/ أم فلان/ فلانة: هذا هو المستوى الأوسط، أي الذي يتوسط الخطاب الرسمي (أستاذ) وخطاب الصداقة (فلان). لكنه هو الشائع عندنا حتى بين أوثق الأصدقاء صداقة فيما بين بعضهم البعض. وكم حاولت أن أقنع أصدقائي أن نتعود على مخاطبة بعضنا البعض بأسمائنا، لكن معظمهم، أي ٩٠% منهم لا يستطيعون تجاوز الحدود الرسمية، ليخاطبوني بـ(ضياء)، ولأنهم يعرفون عدم ارتياحي لمخاطبتي بالكنية (أبو آمنة)، فيضطرون إلى إضافة (أستاذ) إلى اسمي، فيخاطبونني بـ(أستاذ ضياء)، مما يضطرني إلى مخاطبتهم بالمثل. صحيح إن (أبو آمنة) هو الأقل تكلفا والأكثر حميمية من (أستاذ ضياء)، لكن لماذا هذا التكلف بالأستذة؟ أحد الأصدقاء كتب لي يسألني عن رأيي في أن أسمى (أبو النور)، فاعتذرت، لأن الكنية تذكرني بإسلاميين كانوا يتكنون بهذه الكنية. فكتبت له، إن كان لا بد من تكنية، فلتكن (أبو نسماء)، أو (أبو تنزيه). لكن لماذا لا تكون (ضياء) مجردة، وهكذا محمد، عامر، غالب، كاظم، علي، ناجح، ناصر، وفاء، مها، كفاح، شذى، وإلى غير ذلك؟ القليلون من الأصدقاء اقتنعوا وأصبحنا نتخاطب بأسمائنا الأولى مجردة من أي إضافة.

٣ - فلان/ فلانة: شخصيا لا أرى أجمل من أن يخاطب الإنسان باسمه المعبر عنه بـ(الاسم الأول). نعم أتمنى أن يكون هناك خطابان، الخطاب الرسمي، أو خطاب الاحترام بقرن الاسم بكلمة (سيد) أو سيدة)، وبين الأصدقاء وداخل الأسرة وللصغار فلان أو فلانة. وتلغى كل العناوين الأخرى (شيخ، حاج، حاجة، علوية، دكتور/ة، أستاذ/ة، ست، أبو فلان/ـة، أم فلان/ـة).

وأحيانا، وهذا ربما ما لوحظ عليّ أتجنب استخدام (أستاذ) في المخاطبة، قد يعتبرها البعض قلة احترام، لكني لكوني لا أستطيع مجانبة الصدق لا أستطيع المخاطبة بـ(أستاذ) لمن لا أرى استحقاقه لها مجاملة، بالرغم من أني أوده وأحترمه، وإذا استخدمتها فقط مع الذين أعتقد أنهم يستحقونها، سيكون هذا تمييزا مني بين الأصدقاء، أو الزملاء، أو المعارف، والتمييز غير مقبول عندي وهو خلاف العدل.

وهناك سبب آخر يجعلني لا أحب مخاطبتي بـ(أبو آمنة) الذي لازمني منذ ١٩٨١، ذلك لأنه مقترن ببداية نشاطنا الإسلامي في ألمانيا، ولعدم حبي لتلك الحقبة من عمري التي امتدت - ويا للأسف والخسارة ويا لهدر العمر - لربع قرن، والثاني إني اخترت هذه الكنية آنذاك تيمنا بـ(آمنة الصدر) شقيقة (محمد باقر الصدر) المعروفة بـ(بنت الهدى)، التي أصرت على مرافقة شقيقها في الاعتقال الأخير له، فعذبهما صدام ثم أعدمهما بعد التعذيب الوحشي، ولأن كلا من محمد باقر الصدر وآمنة الصدر غديا رمزين للإسلام السياسي، رغم تضامننا معهما كضحيتين من ضحايا نظام صدام، واحترامنا لشجاعتيهما وتضحيتيهما بحياتيهما، وإن كان ذلك في سبيل قضية لم أعد أؤمن بها، كما نتضامن مع ضحايا الديكتاتورية من شيوعيين وكرد ورجال دين ومشاركين في انتفاضة ١٩٩١.

كتبت الموضوع عام ٢٠١٦، ولم أنشره حتى الآن، وراجعته وأضفت إليه اليوم في ١٨/٠٦/٢٠٢٠. ولن أنشره على المواقع بل أقتصر على نشره على صفحتي الشخصية (الفيسبوك)، وأعممه على الأصدقاء بالإيميل والواتس-أپ.

إضافات:

كتب لي الصديق ناجح العبيدي الآتي ما رأيت إضافته:

هناك أيضا فرق واضح في تكنية المسؤولين بين الثقافة العربية والأوروپية. في أوروپا يخاطب المسؤولون بالسيد أو السيدة، حتى اللقب العلمي لا يذكر. المستشارة ميركل مثلا دكتورة في الفيزياء ولكن لا يخطر على بال أحد مخاطبتها بالدكتورة ميركل. الكثير من الوزراء ونواب البرلمان وكبار مسؤولي الدولة الألمانية يحملون لقب دكتوراه وأحيانا پروفيسور ولكن لا يذكر أحد اللقب، لأن المنصب أهم من اللقب، بينما يخاطب أساتذة الجامعات والخبراء بلقبهم العلمي. لكن في العراق يحرص المسؤولون على "الدكترة" حتى لو كانت مشبوهة.

في العراق دخل علينا لقب "دولة" بعد ٢٠٠٣ وأصبح لدينا فجأة عدة "دولات" مثل دولة رئيس الوزراء ودولة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس الشعب، على الرغم من أنه لا توجد دولة حقا في العراق، وهي في أحسن الأحوال دولة فاشلة.

أيضا هناك تضخم في الألقاب الدينية مثل آية الله العظمى و"الصغرى" وحجة الإسلام وغيرها.

وأضيف الآتي:

لقب «فخامة» و«دولة» و«معالي» و«سعادة» كانت سائدة في العهد الملكي واستبدلت عند قيام الجمهورية الأولى بـ«سيادة» لكن دون تمييز بين المناصب، ثم استخدمها العراقيون بعد 2003، مقلدين بها اللبنانيين، كما استعاروا عادة أخرى من اللبنانيين بتذكير المنصب إذا كان لامرأة، فنقول «الرئيس» فلانة، «الوزير» فلانة، «المدير» فلانة، «الأمين العام» فلانة، «النائب» فلانة، بدلا من «الرئيسة»، «الوزيرة»، «المديرة»، «الأمينة العامة»، بينما بالألمانية كلغة فيها تذكير وتأنيث، نجد هناك «المستشار» Kanzler کانْتْسْلَر و«المستشارة» Kanzlerin کانْتْسْلَرِن و«الوزير» Minister مِنِسْتَر و«الوزيرة» Ministerin مِنِسْتَرِن و«المدير» Scheff شَـِف و«المديرة» Scheffin شَـِفِن و«النائب» Abgeordneter آبْگِأوْرْدْنَتَر و«النائبة» Abgeordneter آبْگِأوْرْدْنَتَه و«الطبيب» Arzt آرْتْسْت و«الطبيبة» Ärztin أيرْتْسْتِن، وهكذا.

أما ألقاب رجال الدين ودرجاتها، فكما يبدو جاءتنا من إيران، فـ«حجة الإسلام» تقال لرجل الدين العادي وعندما يكون كما يعبر بالمصطلحات الحوزوية من الفضلاء في العلوم الدينية يلقب بـ«حجة الإسلام والمسلمين»، وعندما يبلغ مرتبة الاجتهاد يقال له «آية الله»، وعندما يصبح مرجعا للتقليد يسمى «آية الله العظمى»، وربما لو استمر التصاعد في الألقاب لقيل لصاحب أعلى الدرجات «الله في الأرض»، تمييزا عن ذلك «الله في السماء».

  كتب بتأريخ :  السبت 20-06-2020     عدد القراء :  1956       عدد التعليقات : 0