الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
التصالح بين المرتشى والمخالف والبرىء

ولما كان البناء المخالف قائماً وظاهراً وواقفاً يسد عين الشمس، ولما خرج إلى الدنيا من أبوين شرعيين أو غير، فقد استحق شهادة ميلاد، فما وقف لابساً طاقية الإخفاء، وما قام بين ليلة وضحاها، وما مر من تحت أيديهم وقد غشيتهم الغاشية فجعلتهم لا يبصرون، لكنه يخرق ويحرق العيون، ويراه الصغير قبل الكبير منذ اليوم الأول للحفر ورمى الأساسات، وبارك فيه الناس للمخالف على مخالفته، وساعدوه وعاونوه على اختراق القانون، وجلس من جلس إلى جواره من صغار الحى ومراسيل الكبار، كل هذا تحت عين وبصر المسئولين، وأكلوا وشربوا وارتشوا عشرات المرات. سرقوا؟ نعم سرقوا.. ارتشوا؟ نعم ارتشوا.. أكلوه سحتاً؟. نعم.. أكلوه سحتاً.. وما خرج إلى الوجود إلا من تحت أيديهم؟ نعم وما خرج وما قام إلا بموافقتهم وقراراتهم.

ثم ماذا بعد؟ وبقية الحكاية المعروفة المكررة أن المخالف قد بنى وباع وفلت بسلامة الله وربح ما شاء، والمرتشى سواء كان واحداً أو عشرة من رجالات الحى قد نالوا مآربهم وتضخمت ثرواتهم وفلتوا أيضاً بسلام، إلا صاحبنا المشترى قليل البخت والحظ فقد وقع فى شر أعمال هؤلاء جميعاً، ولولا شر الموظف العام هذا وفساده ما تجرأ المخالف على المخالفة، وما خرج عن النظام أو التنظيم، وما كان هذا البناء المخالف قائماً، وما وقع المشترى فى شر أعمال أحد، فقد منعه القانون والنظام والموظف الملتزم.

وأنا شخصياً أرفع عن المشترى المظلوم هذا أى ذنب أو جريرة، حتى نلزمه بسداد المصالحة، أو حتى المشاركة فيها بحجة أن يد الدولة لا تطول سواه، وهو الوحيد من الأطراف الثلاثة داخل القفص، مقيد الإرادة بلا ماء أو كهرباء أو غاز، ويمكن السيطرة عليه، حتى لو وضعنا فى رقبته السلاسل ورقص رقصة (عجين الفلاحة) وغيره قد فلت وترك العش وطار، وليس هناك سبب واحد لأن يتحمل هذا المشترى خطأ المخطئ أو المرتشى أو الفاسد أو الطماع، تحت دعاوى أن الوحدة المخالفة فى حوزته وهو فى حوزة الدولة وتحت ضغطها وزندها، تضغط عليه فيستجيب، وتزيد فى ضغطها فيستسلم ويرضخ ويستجير، ويدفع مظلوماً مقهوراً، ولا تهتم الدولة بالعدل والحق، المهم أن يدفع من يدفع، ظالماً كان أو مظلوماً، قاهراً كان أو مقهوراً، ويفلت بجريمته من يفلت، طالما وجدت من يدفع.

وليست هيبة الدولة فى تحصيل المخالفة أو إجبار الناس على التصالح بالقوة، فهذا ليس بهيبة أو سلطان بل «لوىّ دراع»، لكن هيبة الدولة فى منع الناس من المخالفة، والخوف من المساءلة والعقاب ومخالفة القانون، فلا يظهر بناء على «وش» الأرض وهو مخالف، ولا يقام بنيان أو منشأة مهما كان نفوذ صاحبها ضد التنظيم أو خارجة عن القانون، ولا يُرفع صرح ما لم يكن قد صدر له شهادة ميلاد موثقة وقانونية، ولا يُنتج منتج صغر أو كبر، دواء أو غذاء أو كساء أو شراب للإنسان أو للحيوان مهما كانت أهميته إلا ومر تحت سلطان الدولة راجعته وأجازته وصرحت به ووافقت عليه وتأكدت من مطابقته للمواصفات وصلاحيته للاستخدام، فإذا وجد وظهر أمام الناس كان صالحاً ومطابقاً وقانونياً وشرعياً، وأعفى الناس من البحث عن جودته وصلاحيته وقانونيته، فهذه ليست مهمة المواطن بل مهمة الدولة، فلا يعقل مثلاً أن يقام البناء ونلزم المشترى بالبحث والتقصى عن متانة البناء أو مراجعة الجهات المعنية للتأكد من سلامة المبنى ومطابقته للمواصفات، وأمانة مركزه القانونى، وسلامة الإجراءات والأوراق والتصاريح، كما لا يعقل أن يشترى المواطن دواء أو غذاء ونلزمه أن يطمئن بنفسه لجودة الإنتاج ومطابقته للشروط والاشتراطات، فإذا قام المواطن بهذا الواجب فما مهمة الدولة؟ وأين المسئولون عن سلامة الناس وأصحاب الضبطية وتنفيذ القانون؟ قبل وليس بعد، هذا هو الفارق بين دولة تمارس حقوقها للحفاظ على المواطن، ودولة تستخف بمهامها وتترك للناس مهمة التأكد من وسلامة المنتج صلاحيته غذاء كان أو كساء أو مسكناً.

مهمة الدولة الحفاظ على سلامة كل كائن أو كيان داخل حدودها، فإذا اشترى المواطن أو باع، كان مطمئناً لسلامة ما اشتراه، وما تعاقد عليه طالما كان قائماً، وهذا ما يجعل الدولة هى المسئولة رقم واحد دون منازع عن كل هذه المخالفات، فلا يصح أن تتقاعس عن أداء مهامها ثم تحاسب الناس على جريرتها وتقصيرها، وتترك المرتشى دون عقاب.

لا بد من محاسبة كل مسئول عن جميع المخالفات التى تمت وتتم فى دائرة عمله سواء كان مقصراً أو مهملاً أو فاسداً، فالمحصلة فى النهاية واحدة، من هنا يبدأ الإصلاح والتقويم، عودوا إلى تعريف الدولة ومهامها ومسئولياتها، وعليها أن تتحمل تقصيرها واختياراتها الفاشلة والفاسدة، وأن تتحمل بمفردها خطأ منتسبيها وإهمالهم وفسادهم، وارفعوا أيديكم عن المظاليم، أو حتى حاسبوهم على قدر ثقتهم فى دولتهم، فليس الهدم وخراب البيوت حلاً للمشكلة، بل زيادة فى الظلم وإهدار للمال الخاص والعام، ولا بد أن نقتنع معاً (ما كان من مخالفات له علاج ودواء، وما سيكون فى المستقبل له البتر والقطع)، هكذا تُدار الأمور.

"الوطن" القاهرية

adelnoman52@yahoo.com

  كتب بتأريخ :  الجمعة 28-08-2020     عدد القراء :  2157       عدد التعليقات : 0