الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
تقلص العقل الأمريكي

بقلم روجر كوهين

المعلق في جريدة نيويورك تايمس

ترجمة عادل حبه

روجر كوهن

من بين الأوضاع التي لم يتم التحدث بها على هامش المناظرتين الرئاسيتين هي:

موضوع سوريا ، وحقوق الإنسان ، والطائرات بدون طيار ، والديمقراطية ، وعدم المساواة ، والديكتاتورية ، وإسرائيل ، وفلسطين، والشرق الأوسط، والأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، وغوانتنامو، والاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفرنسا، وإيطاليا، وهونج كونج، وإفريقيا (أو أي دولة أفريقية على حدة)، وأمريكا الجنوبية، والإرهاب، زالتعددية، والاستبداد ، والتحالفات.

إن غياب هذه الموضوعات في المناظرتين هو أصدق مقياس لتقلص العقل الأمريكي.

لم يذكر الرئيس ترامب ما يحدث في أفغانستان، حيث فقدت الولايات المتحدة هناك أكثر من 2400 شخص وأنفقت حوالي 2 تريليون دولار على مدى العقدين الماضيين. أما جو بايدن فلقد تطرق إلى أفغانستان مرة واحدة فقط.

إن من سمات الكابوس الذي يخيم على الولايات المتحدة أنه يستهلك كل شيء. وكل ما هو أبعد من ذلك يتلاشى في الظلام. لقد نجح الرئيس ترامب، في بث غير عادي ومستدام بهوسه الذاتي ، في وضع العالم في ظلال عملاق برتقالي.

مناظرة انتخابية تافهة

نعم، كان ترامب أكثر تحضراً في المناظرة الثانية، وبايدن، الذي تقدم في استطلاعات الرأي، لم يلحق الضرر بنسبة المؤيدين له. ومع ذلك، كان كل مشهد المناظرتين يشير إلى ضعف البصيرة وقصر النظر.

دعونا نفترض للحظة أن صعود الصين، وإصرار روسيا فلاديمير بوتين ، وعودة الديكتاتوريات، وهشاشة الديمقراطيات، وتحديات النمو السكاني في إفريقيا، وظهور الوباء في ظل فراغ القيادة العالمية، وتعمق عدم المساواة في المجتمعات الغربية، وشلل فعالية الأمم المتحدة، والانقسام الاجتماعي، وانتشار دولة الرقابة، والأثر المضاعف للكراهية لمنصات التواصل الاجتماعي، .... قد تصبح قضايا محورية في العقد المقبل.

ماذا سمعنا عن هذه المواضيع في المناقشات بين المرشحين لإنتخابات الرئاسة الأمريكية؟ لا شيء في الأساس.

لو تابعنا تعليقات مراسلي القنوات التلفزيونية، لوجدنا أنهم يعلقون على نظرات بايدن على ساعته اليدوية، وأهمية (أو عدم أهمية) تحديقه مباشرة في الكاميرا، وتلويح ترامب قبضته صوب بايدن. ولم أسمع أي رثاء على أمريكا ترامب، في تحولاتها الداخلية الأول لأمريكا، فكل ذلك أصبح قيد النسيان.

أوه ، نعم ، لم يشغل بال كلا المرشحين الوضع في سوريا، حيث يعيش حوالي 80 بالمائة من الناجين من الحرب الأهلية في الفاقة والفقر، سوريا التي خلفت أكثر من 400 ألف قتيل حتى الآن ويعاني 40 بالمائة من الناس من فقدان فرص العمل. أوه، نعم، ولا الوضع في هونغ كونغ وفي بيلاروسيا ، حيث كان المتظاهرون الشجعان يناضلون من أجل الديمقراطية في صراعات كان من شأنها أن تشغل المخيلة الأمريكية ذات يوم. أوه ، نعم ، ولا الشرق الأوسط، حيث تم توزيع الكثير من الخزائن الأمريكية والجهود الدبلوماسية الأمريكية المستمرة في السعي لتحقيق سلام إسرائيلي فلسطيني ، كما خسرت أمريكا أرواح الكثير من أبنائها وأبناء العراق منذ وقت ليس ببعيد في العراق.

إن تقلص العقل الأمريكي ينطوي على نوع من أنواع التنمل (Numbness). وقد أصبح من الصعب التفكير أو الرؤية فيما وراء الضجيج الصادرعن البيت الأبيض. لقد بدأ تعب مصحوب بالسخط. وها هو يذهب مرة أخرى. إن هذا هو صوت الأنين الحزين. فأي نقاش يمكن أن يدور بدون احترام الحقيقة وبدون احترام العلم؟

في النهاية، كانت مناظرتي مرشحي الرئاسة بمثابة لوحة تصور العزلة المتعاظمة للولايات المتحدة عن بقية دول العالم. وأظهر الرجلان البالغان السبعين من العمر تجاهلاً شبه كامل للمُثُل الدارجة "أنا - أريد - المساعدة - في تغيير العالم المثالي  لجيل !!!z. لقد كانت المناظرتين أقرب إلى أهانة وجهها الإثنان للعالم. وكان تبادل الإتهامات، بشكل عام، تافهاً ويمكن التنبؤ بها.

لقد رأيت في المناظرتين انعكاساً لمجتمع أمريكي يكاد يكون فيه النقاش البناء شبه مستحيل. فقد حكم ترامب البلاد من خلال إثارة الفرقة والعنف في المجتمع. ولم يتناول أبداً موضوعات المصالحة أو التواصل. ونتيجة لذلك، تحول الجدل الأمريكي إلى مستوى قبائل متنافسة تصرخ بإزدراء في وجه بعضها البعض. وتنسى هذه القبائل أنه لم يتغير رأي أي شخص من خلال جعله يشعر بالغباء.

ويجدر بنا للحظة فحص بعض الكلمات التي اختفت في سير المناقشات. يجب أن تكون حماية حقوق الإنسان مهمة أمريكية حاسمة على الدوام. فلا تزال الديمقراطية أفضل مدافع عن كرامة الإنسان وحريته. لكننا نرى أن اللامساواة تتعمق في المجتمع، مما يؤدي إلى تدمير النسيج الاجتماعي للمجتمعات، ويضاعف الظلم، وهي كلمة ذكرها بايدن مرة واحدة فقط في المناظرة الأولى. ولا يزال سجن غوانتانامو وصمة عار في ضمير أمريكا. ويتواجد الشبان والشابات في الجيش الأمريكي في أماكن بعيدة عن بلادهم وخطيرة بذريعة محاربة الإرهاب.

وتعد الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية والاتحاد الأوروبي أمثلة على المنظمات متعددة الأطراف التي استهانت بها الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب. إن بريطانيا وفرنسا قوتان نوويتان شريكتان أساسيتان في تحالف (الناتو) الذي جلب السلام والاستقرار إلى أوروبا. وإن أفريقيا، التي تشتهر بأنها موطن البلدان "القذرة" كما وصفها ترامب، هي المكان الذي يستوطن فيه ما يقرب من ثلثي النمو السكاني بين عامي 2020 و 2050 ؛ ومصيرها هو أيضا مؤشر على مصير الإنسانية.

عند الحديث عن المستقبل، فإن أمريكا ، وهي تقترب من الذكرى 250 لتأسيسها، لا تزال دولة فتية. ليس من المجافي للعقل أن نعتقد أن أفضل الأيام في إنتظارها. إنها لا تزال أرض الجهد، والفضاء، والخضاب، والابتكار حيث تتعزز خلالها العوامل التي تعمق الرابطة بين الناس بشكلأكثر مما يفرقهم ، ولكن فقط إذا ما إتسم خطاب وسلوك الرئيس بالتساح فقط بدلاً من خطاب الكراهية.

إن جوهر أمريكا هو الشفافية والإنفتاح. لقد كرس التاريخ والجغرافيا والهجرة والقدر هذه السمات. وبالتالي ، فإن تقلص العقل الأمريكي تحت حكم ترامب يرقى، بالنسبة للأمريكيين، إلى إنكار خطير لذاتهم. وإذا ما طال أمد رئاسة ترامب أربع سنوات أخرى، في ولاية ثانية لترامب، فإنها ستنفي الفكرة الأمريكية، والتي بدونها، على الأقل بالنسبة للمهاجر، ستنمحي صورة الولايات المتحدة عن الإذهان، وتتكشف بكل عيوبها.

في الختام، ربما إن أعظم فائدة للمنظرتين هي أنها أضحت بمثابة تصوير حي على مدى سقوطنا.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 30-10-2020     عدد القراء :  1722       عدد التعليقات : 0