الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
العدد صفر
بقلم : زهير الجزائري
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

العدد خمسة آلاف ، مدهش !

أتذكر القبو ببابه الحديدي الثقيل، اتذكر وجه الكادر الأول في الضوء الابيض الشاحب ونحن نعد للعدد صفر من (المدى). كّنا نكتب كأننا نسبح في ماء الوهم. رئيس التحرير يحثنا بالتلفون وهو يصفّي بقايا منفاه، لأن نستعجل الإصدار في جو من تزاحم أحزاب جديدة وصحف جديدة بلغ عددها ١٦٨ في الأشهر الثلاثة الأولي بعد التغيير.

كنا(سلوى، سهيل وأنا) نتأنى ونجمع المواد على أمل أن تكون المدى مختلفة ومتقدمة.

بعد اجتماعنا الأول في حديقة حوار بدأنا بتهيئة المواد في محل صرافة في (شارع فلسطين) يعود لأحد أقاربي. مكان يشبه النفق طولا ويقارب الفرن حرارة.

في الغرفتين المتداخلتين تشكلت علاقاتنا الأفقية كصحفيين بدون هرمية. نرتدي ملابس عمل بدون بدلات رسمية، ونعمل معاً في نفس الغرفة، بدون جدران عازلة وفواصل تراتبية، نتبادل افكارنا واقتراحاتنا بجمل قصيرة، كاقتراحات تخلو من الأوامر.

لم تعوزنا المواضيع أبدًا، فقد انفتحت باتجاهاتها الثلاثة:

- ماض لم يمض

- حاضر مربك

- ومستقبل مجهول -

****

البلد الذي خنق على مدى ٣٥ عاما، انفجر حكايات ومواضيع. أسرار الدولة البوليسية بامتياز، بما في ذلك الحفلات العائلية وحفلات التعذيب، صارت تباع في بسطات الشوارع على شكل أقراص مدمجة ووثائق مبعثرة في الشوارع.…الشوارع والساحات، وقد غابت السلطة، صارت مسرحا لقصص تشبه الخيال وتفوقه أحيانا. مجانين بغداد وجدوا المهنة التي حلموا بها، فقد حلوا محل شرطة المرور كتجسيد رمزي لجنون السلطة بعد انكسار الهرم السابق.

ركّبنا في هذه الفرن أول جهاز تبريد(سبلت)، ومع الهواء المنعش صرنا أكثر انفصالاً عن جحيم الشارع وأكثر تأن في إصدار العدد الأول. خلال هذا المكوث الطويل يتدفق كتاب وصحفيون شباب يعرّفنا سهيل عليهم سيشكلون كادر التحرير القادم.

في هذا المكان البارد واجهنا مشكلة ساخنة، وهي التنافر بين الصحفيين الذين خدموا النظام السابق، بالرغبة أو القسر، وبين صحفيين تواروا عن حرفتهم

حتى لا يتورطوا في وليمة السم. الدكتورة سلوى زكو انقطعت عن الكتابة لأكثر من عقدين وعادت إليها مع شعور بالحرج فسرّتني بصوت مخنوق”أنا خائفة يا زهير ، خائفة من أنني لن استطيع الكتابة بعد هذا الانقطاع الطويل”. سهيل نادر أخفى الكاتب طوال العهد السابق وراء المحرر المتواري في الخلف. ذات يوم دخل علىي كاتب شيوعي سابق، أعدم صدام شقيقه. جرّني للممر الضيق وقال لي “هذه جريدتنا وسنخرجهم،يقصد البعثيين، بالتواثي»!

في النهاية قررنا أن نتبنى نصيحة سهيل بأن هؤلاء ضحايا أيضا ، ضحايا ظرف لم تكن لهم فيه خيارات.

كلما اقتربنا من المواعد الثالث الذي حددناه لرئيس التحرير صرنا أقرب للتفاهم حول سياسة الجريدة: يسارية دون أن تتعمد، ولكن متفتحة على جدل بحواف ناعمة. مع العملية السياسية ونقدها من داخلها. ثقافية بمقدار ما هي سياسية. وهنا أريد أن أصحح معلومة وردت في كتاب صديقي سهيل سامي نادر(سوء حظ)، ذكر فيه “ في الاجتماعات الأولى قبل صدور جريدة المدى طرح أحد الزملاء الذين كانوا في الخارج اقتراحًا بدا لي غريبًا وإن فهمته تدشينًا لصحافة جديدة: لا افتتاحيات سياسية! تضمن هذا الاقتراح رغبة في الامتناع عن أي ثرثرة سياسية غبية من تلك التي كانت سائدة، وهدفًا في تأسيس صحافة حرةُ تدار باحتراف ولا تحتاج لواجهة سياسية معبر عنها في افتتاحيات تنزلق بسهولة إلى أدب الشعارات الأيديولوجية. هذا ما خمنته من وراء ذلك الاقتراح مع وجود تطلع ليبرالي بإدارة النشر في قضايا الفكر والرأي:بدا لي هذا الاقتراح آنذاك، مع احترامي لتطلعاته، جزءًا من مجموعة إعلامية إقتحامية جديدة من الآراء التي كنت متأكدًا من أن الحالة العراقية الشديدة التعقيد ستبددها».

أريد أن أوضح بأن ( أحد الزملاء الذين كانوا في الخارج) هو أنا، زهير الجزائري. ويتذكر الذين حضروا الاجتماع بأنني لم أكن ضد افتتاحيات سياسية بالمطلق. وفي أرشيفي الآن ٣٢ افتتاحية كتبتها في الصفحة الأولى باسمي الشخصي تتراوح بين نقد المالكي، مرورا بالتيار الصدري وانتهاء بمديح حامي الهدف نور صبري. اعتراضي كان على افتتاحيات باسم الجريدة على الطريقة الحزبية القديمة، وكأن الجريدة ناطقة باسم حزب في حين أن كادرها متنوع الاتجاهات. صحيح أن اليسار هو الغالب، لكن منهم بعثيين سابقين، وإسلاميين وليبراليين. وأتذكر أني خضت نفس النقاش مع رئيس التحرير فخري كريم وقلت له بأنك توقع بصفتك (رئيس التحرير) واسمك مثبت في أعلى الصفحة».

كنت اكتب في هذا القبو واتناقش مع زملائي وبين آونة وأخرى أصعد للسطح لكي أسمع بوضوح صوت رئيس التحرير وهو يتحدث عن الأمور المالية والمقر الجديد والتصميم الأساسي وبالتأكيد موعد الصدور. يتردد أحياناً ثم يتذكر فيغير لهجته الى الحوار بدلاً من الأوامر.

قبيل بدء موعد منع التجول أفلت الى الشارع فيصدمني ضوء النهار الساطع ووضوح الأشياء وحركة الناس الغريبة فاشعر بالحيف الشديد لأني قضيت كل هذا الوقت في أوهام الكتابة بعيداً عن الحياة الحقيقية. نسير بسرعة الخطر بسيارة برازيلية بدون تبريد يقودها ابن أخي ياسر لأعيد صلتي ببغداد التي غادرتها منذ خمسة وعشرين عاما، ندور بالسيارة في شارع الرشيد الذي أحفظ من أيام الصعلكة عدد خطواتي فيه، في شارع السعدون حيث المقهى الذي كون مفاهيم شبابي، وفي شارع ابي نواس وقد فقد النهر حميميته وتحولت ضفافه الى مزبلة.اتطلع بشغف واحفر باعصابي لأطابق ذاكرتي مع ما أراه.

كاتب التحقيقات، وهو الأقرب للروائي، يلاحقني بابتكار موضوعات للكتابة. ذات يوم صدمت باراء الشباب الذين ولدوا وكبروا في عهد البعث وصدام في قيادته. جمعت اكثر من عشرين منهم وسالتهم ماذا يمثل صدام لهم وكيف يرون القادة الجدد. نشر التحقيق في العدد الأول أو الثاني من المدى فكان صدمة لنا: كم نحن غرباء عنهم!

أكثر الأخبار وأخطرها تاتيني من وكالة أنباء محلية في شارع من ٢٦ بيتاً، فما أن تخرج أختي ذكرى الى الباب الأمامي لحديقة البيت حتى تعود بحزمة من أخبار (وكالة يكلك، أي يقال لك ) والمصدر مبني للمجهول.انفتحت النوافذ واسترجع الناس أول صفة إنسانية،تبادل الحكايات. من قلقهم ضاع الفاصل بين بين الشائعة والخبر. واحدة من هذه الإشاعات هي وجود مقبرة جماعية في الحديقة العامة المجاورة. الرائحة المتوهمة تقلق نومتي في سطح البيت.

أرجع للقبو في الصباح و وانتظر أن تتعود عيناي على ضوء الوهم ويتعود ذهني على بديهيات الكتابة بعيدا عن الحياة التي تجري خارج هذا الدهليز. يتوالى قدوم المحررين ومع كل واحد منهم حكاية انفجار، أو اشتباك، أو حدث… نسمع الحكاية بصبر نافذ ثم ننكب على تحرير المواد. لم نكن على عجلة ونحن نهيء للأعداد الأولى من الجريدة، فالأخبار اليومية مؤجلة. ما يهمنا الآن هو الثابت بينما تجري العملية السياسية وأخطائها الفادحة بمعزل عنا وستتثبت أقدارها خارجا عنّا.

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 11-08-2021     عدد القراء :  1638       عدد التعليقات : 0