الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الدولة الفاشلة صناعة مشتركة

كثيراً ما تنتهي الى أسماعنا عبارات تستنكر ما آل اليه العراق كمسرح للصراعات بين المحاور، بيد أن الكثير من تلك التصريحات تخفي بشكل مراوغ انحيازها الى محور ضد آخر. فللمحور الامريكي مثلما للمحور الايراني ولائيون ولكل منهما قواعد شعبيه تنمو بتأثير حملة تضليل غير مسبوقة من قبل الاعلام الميليشياوي من جانب، والاعلام المتشدق بالوطنية الكاذبة في الجانب المقابل، ومن يتمسك بالخطاب الوطني الحقيقي الرافض للأحتلالين معاً يتعرض لسهام المهاترات من الولائيين على الضفتين.

بينما يجري التضليل و التجهيل لجمهور واسع من قبل الاعلام الطائفي، يجري أيضاً ترويج دعوات تضليليه من قبل عدد غير قليل من الاعلاميين والمثقفين وطواقمهم في السوشيال ميديا لدعم الاحتلال الامريكي بحجة أولوية (تحرير) العراق من الاحتلال الايراني، وحين تسأل كيف يمكن أن يستبدل شعب إحتلالاً باحتلال آخر، فلا حجة لهم سوى خرافة توافق المصالح المشتركة، متجاهلين أن العراق المفتت لم يعد يملك للأسف أوراقاً للمناورة مع الولايات المتحدة ليتبادل معها ما يزعمونه من مصالح مشتركة، بينما استحوذت إيران على كافة الأوراق الرابحة لوضع العراق وشعبه على طاولة المقايضة مع اميركا، و قد فعلت ذلك  قبل وبعد وطيلة احتلال العراق بشكل معلن أو خفي.

قد تغري الدعوات المضللة للاستعانة بالاحتلال الامريكي فئة واسعة، لأن الأوهام التي رافقت مشروع الاحتلال ببناء عراق مزدهر ديمقراطي مازالت تشكل غمامة على أعين الكثيرين، حتى بعد الفشل الذريع للمشروع التوأم في افغانستان والهزيمة المخزية للاحتلال، مما يستدعي إنعاش الذاكرة والعودة الى الوراء للنظر في مرحلة تأسيس الفوضى والخراب في مشروع التخريب الأمريكي-الإيراني.

وصف عضو مجلس الشيوخ الامريكي الراحل جون مكين العراق عام2002 قائلًا: "العراق جرّة عسل، ما إنْ يُرفع عنها الغطاء، حتى يجتمع عليها الذباب من كل صوب" ولا سبيل ان نعرف فيما اذا كان قد توصل الى ذلك بحكم معرفته بما سيدبّر للعراق أو من باب التنبؤ.

لقد كسرت الجرّة عام2003 وسال الشهد كما توقّع، و توافد الذباب من كل بقاع العالم، أجهزة ورجال مخابرات و ارهابيون، سوق منفلته وحدود مفتوحة جغرافياً واقتصادياً لشركات جاهزة للصفقات المشبوهة، مرتزقة حرب و إعلاميون باعة، أحزاب طائفية ومليشيات مهيأة لتقاسم السلطة وفق شرعة محاصصة (مشرعنة دستورياً)، إنها فوضى عسكرية ،سياسية ،تجارية و اعلامية غير مسبوقة.

لم يكن من الصعوبة آنذاك إقناع وطمأنة الشعب العراقي الذي كان يحيا مهرجان فرح، وهو مفعم بالأمل بعد الخلاص من أشرس طاغية في المنطقة، يرنو الى مستقبل مشرق، وقد تبرعت لطمأنتنا غونداليزا رايس التي وعدت الشعب العراقي بأن تلك الفوضى سيعقبها بناء الديمقراطية والعيش الرغيد بتصريحها الشهير:

" إن الوضع الحالي ليس مستقراً، وإن الفوضى التي تفرضها عملية التحول الديمقراطي هي نوع من الفوضى الخلاقة، التي تنتج في النهاية نظاماً أفضل، مبادئه الاساسية الحرية وحقوق الانسان والديمقراطية "!!

مرّت سنوات ولم تنتج الفوضى سوى فوضى أكبر، ومع ذلك فان فئة واسعة من المثقفين والاعلاميين وحتى هذه اللحظة، مازال يجادل بحماس عن صدق النوايا الأمريكية وفرصة بناء الديمقراطية التي (انزلقت من بين أصابعنا)، والمفارقة ان غونداليزا رايس نفسها قد تنكرت لوعدها ونفت أي نيّة لبناء الديمقراطية في مشروعي الحرب على العراق وافغانستان، فحين سئلت ماذا حدث للديمقراطية، لم ينتبها الحرج واجابت دون تلكؤ وبوضوح:

" لم يكن هدفنا بناء الديمقراطية في العراق وافغانستان، بل لتعزيز أمننا القومي فحسب" (نيوزويك 12 أيار 2017).

اذا لم يكن هذا التصريح حاسماً لتبديد اوهام الديمقراطية المزعومة في مشروع الاحتلال، واذا ما تم أيضاً التغاضي عن حقيقة أن تأريخ الولايات المتحدة مثقل بمعاداة الشعوب ودعم الدكتاتوريات و الانظمة العسكرية في الدول النامية، فمن اين لنا ما يكفي من البراءة الساذجة لتصديق أن رسل التحرير والديمقراطية هم أنفسهم أولئك الصقور الذين تتأرجح اجنداتهم من محاباة الفكر الفاشي كمايكل ليدين الى زمرة اليمين الذين تشي سيرهم الذاتية بالعداء والعنصرية تجاه شعوب الدول النامية على وجه الخصوص.

لنبدأ بأحد أكثر عرّابي الفوضى الخلاقة حماسة وهو السياسي والكاتب اليميني المتطرف مايكل ليدين، الذي عمل في مناصب عليا في الامن القومي والخارجية والدفاع في إدارتي ريغان وبوش الاب والابن، وهو معروف بنزعة الاستعلاء القومي ويكن كراهية شديدة واحتقاراً لشعوب الدول النامية، فكان على سبيل المثال يدعو الى تدخلات عسكرية كل10سنوات من قبل الولايات المتحدة، حتى لو تطلب الامر تدمير دولة صغيرة ضعيفة بين فترة وأخرى لإثبات قدرة أمريكا وتصميمها على قيادة العالم. وكتب في ناشيونال ريفيو في آب 2002: " يخشى سكوكروفت من أن يحدث احتلال العراق فوضى وتدميراً لكامل منطقة الشرق الاوسط، أملي أن يحصل ذلك وبسرعة رجاءً، إذا كانت هناك منطقه تستحق التدمير حقاً فهي منطقه الشرق الاوسط٠٠٠٠٠٠"!! وكتب في نفس الصحيفة " التدمير الخلاق هو اسمنا الثاني في الداخل كما في الخارج، فنحن نمزق يومياً الأنماط القديمة في الاعمال والعلوم والآداب والعمارة والسياسة والقانون، وقد كره أعداءنا دائماً هذه الطاقة والتي طالما هدّدت تقاليدهم (مهما كانت) وأشعرتهم بالخجل لعدم قدرتهم على التقدم... علينا تدميرهم!! كي نسير قدماً في مهمتنا التاريخية".

من المهم عرض المزيد من افكار ليدين لدوره الرئيسي في صياغة المشروع الامريكي في العراق، على اعتباره كبير الباحثين في معهد ذا إنتربرايز الذي أنيطت به مهمة صياغة المشروع، ولكونه مستشاراً في ادارة بوش ويشغل مقعداً فيما يسمى مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية. كما أن هناك إجماعاً على انه العراب الحقيقي للحرب ضد العراق رغم ابتعاده عن الاضواء. إن ما ذكرناه سابقا من كتاباته و تصريحاته العدائية إزاء شعوب الدول النامية ليست صادمة بقدر افتتانه بالحركة الفاشية في كتابه  (الحركة الفاشية العالمية)، فقد كتب رسول الديمقراطية هذا : إنه من الخطأ ان نعتقد كما هو شائع بأن الجماهير الغفيرة من الاوروبيين الذين تحمسوا للأفكار الفاشية كان بتأثير التضليل أو كاريزما القائد، بل هم اكتشفوا ما هو حق في الحركة، وقد الهمتهم الافكار الفاشية للإطاحة بالنظام القديم وبناء الجديد و علينا - على حد قوله- ان نميّز بين نظام حكم موسوليني السلطوي وبين الحركة الفاشية على اعتبارها (ثورة) القرن العشرين، وهو ينتقد موسوليني لا لجرائمه بل لأنه - كما يزعم_ توقف في منتصف الطريق و خذل الجماهير التي ارادت أن تكون ثورتها الفاشية عالميه شاملة، وفي عام2002 استنبط من تلك الفكرة دور الولايات المتحدة (التاريخي)  لتقوم بهذه الثورة في العالم بدل ايطاليا وريثة الحضارة الرومانية، فالثورة الفرنسية والروسية قد فشلتا من وجهة نظره، و الثورة الأمريكية هي الوحيدة التي لم تنتج قمعاً وارهابا. (كتب الكثير من الانتقادات لهذا الكتاب إلا أني آثرت ان أحيل القارئ الى موقع المحافظين الأمريكيين على طريقة شهد شاهد من أهلها:

https://www.theamericanconservative.com/articles/flirting-with-fascism/

أما ديك تشيني، رمسفيلد، وبقية الطاقم من صقور اليمين، أصحاب القرار في ادارة بوش، فلم تكن الديمقراطية للدول النامية يوماً ضمن مفردات قاموسهم السياسي، أو ارثهم المثقل بتشكيل فرق الموت ودكتاتوريات الجنرالات العسكرية وخاصة في امريكا اللاتينية، ودورهم خلال تاريخهم السياسي في قمع اي حراك شعبي ضد الدكتاتوريات (الحليفة)، واسقاط اي حكومة شعبية مستقلة لا تمتثل لاشتراطات الولايات المتحدة واستثمارات شركاتها.

الفريق الذي يتدرج من اليمين المتطرف الى الفاشية، والذي كان لسنوات داعماً للطاغية صدام قرّر فجأةً مساعدة الشعب العراقي وإدخاله فردوس الديمقراطية على الطريقة الأمريكية!

تحولت إيران آنذاك من عدو صريح إلى حليف لدود، وأبدت استعدادها للتعاون مع (الشيطان الأكبر) في حربي افغانستان والعراق، إذْ وجدت فرصتها للتخلص من أشد نظامين عداءً لها في بلدين مطلين على حدودها، خاصةً وان معظم حكومات المنطقة تتربص بها، وقد اعترف بذلك نائب الرئيس الايراني الأسبق أبطحي بقوله:

" لولا إيران لما تمكنت اميركا من احتلال افغانستان أو العراق"، وكان ذلك في لحظة انزعاج من تصنيف بلده ضمن محور الشر من قبل بوش.

يتراشق الطرفان إعلامياً وأحياناً عسكرياً بضربات محسوبة بدقة حيث لا تقود للصدام المباشر، شريطة أن تكون على أرض العراق المستباح، ومع ذلك فان التوافق لتقاسم المغانم والنفوذ جارٍ على قدم وساق بشكل خفي ومعلن في بعض الأحيان.

منذ البداية أدركت الولايات المتحدة أن يدها لن تكون مطلقة في العراق، لما تتمتع به إيران من نفوذ لعوامل جغرافية وثقافية ودينية، وما تمتلكه من أحزاب ومليشيات منظمة ومدربة جيداً، وهذا ما جعل الولايات المتحدة تميل الى اشراك الاحزاب الإسلامية الشيعية، واستمالة الشيعة باستثمار مخزون الغضب المتراكم لديهم خلال عقود من القمع والقتل من قبل نظام صدام الدموي، والذي نالوا منه القسط الأكبر. (ربما جال في خاطر الامريكان أن بإمكانهم تقويض تبعية الأحزاب الشيعية لإيران تدريجياً بتمكينهم من دفة القيادة).

لاشكّ أن مغانم مشتركة في شتى الاصعدة بين الولايات المتحدة وإيران في اضعاف العراق وديمومة ارتهانه. وفي السنوات الاولى من الاحتلال تظافرت المليشيات المدربة في ايران مع طغمة (كونتراغيت )المتمرسة في تشكيل فرق الموت و تأجيج الحروب الأهلية في دول أمريكا اللاتينية لصناعة الفوضى و تأجيج الطائفية، فليس مصادفة أن يكون السفير الامريكي الأول للعراق هو نغروبونتي، وأن ينتدب معه جنرالات ما يسمى بالحروب القذرة ( جيمس ستيل، وبترويس وغيرهم )، الحروب التي كان يديرها من هندوراس في بلدان امريكا اللاتينية في فترة الثمانينات، والتي قتل فيها اعداماً أو تحت التعذيب آلاف المدنيين وتم تغييب آلاف آخرين، ثمة  تشابه كبير بما حصل في العراق في السنوات الاولى للاحتلال. وقبل الختام لابد من الأجابة على سؤال يتردد كثيراً: لماذا يلقى اللوم على المشروع الأمريكي وقد ضيعت القوى الحاكمة العراقية بعد 2005 فرصة بناء دولة قانون؟ والجواب أن القوى الحاكمة هي جزء من الصفقة، فهي مرتبطة نفعياً و أيديولوجياً بأحد المحورين، وبالتالي فان استدامة ضعف العراق وارتهانه وتفكك مؤسساته انما هي من اشتراطات استمرار هيمنتهم على ثروات البلاد و تحكمهم برقاب العباد، وإن المناخات التي وفرّتها لهم فترة التأسيس بعد 2003 بما فيها المحاصصة والدستور الملغم وقوانين بريمر النيولبرالية التي فتحت لهم الابواب واسعة للإثراء والفساد عبر ابقاء العراق سوقا استهلاكية لتجارة وكومشنات احزابهم, التي تحولت قياداتها الى طبقة اوليغاركية تكدس الاموال بفعل نفوذها السياسي والذي يتعزز بدوره بفعل تراكم راس المال, كل ذلك  يرعى استدامة نفوذهم، ولا مصلحة لهم في تغيير واقع يعزّز سلطتهم ويتيح لهم تسمين حساباتهم المصرفية.

لايتم خلاص العراق إلا بانتفاضات شعبه بقيادة جبهة عريضة من قوى وطنيه حقّه، في نضال عنيد ضد اي صيغة من صيغ الاحتلال ايرانياً كان أو أمريكيا أو تركياً، نعم سيكون الطريق شاقاً وطويلًا وبطيئاً تعبده التضحيات، إلا أن الشعوب لا تعرف طريقاً غير هذا في مسار تحررها.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 20-08-2021     عدد القراء :  1860       عدد التعليقات : 0