الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
في مدينتي

الشطرة الحبيبة التي تتزاحم فيها بعض اصداء حياة تشير الى ما لها من خصوصية تشكل جزءً من تاريخها ، خاصة الحديث منه ، الذي  يتناغم مع ما اكتسبه اهلنا في الوطن عموماً وما عاشوه من مصاعب جمة واهوال رهيبة صقلت الأنفس وعكست كثيراً من الطبع البشري الذي يمتاز به عن مخلوقات الكون عامة .

في شطرتي ، كما في مناطق اخرى من وطننا الحبيب ، ولكن بخصوصيتها السومرية ، تجلت ملامح الثقافة الرائدة العاشقة لكل ما هو معرفي يعيد صقل التاريخ بتلك الحروف السومرية التي غيرت وجه العالم .فكانت مجالس الشعر ومطارحات الشعراء ، وكانت محافل وحوارات المنشغلين بالبحث عن الكلمة المناسبة في مكانها المناسب في لقاءات  اصبحت امسيات دواوينها العائلية وحفلات مدارسها رافداً للباحثين عن الهيام في اجواء جمال النص الأدبي  والقصيدة الشعرية بما تتضمنه من الفصيح وغير الفصيح .

في  شطرتي ، تجلى الفن الراكض وراء ما تجود به افكار الأدباء والشعراء على ابهى صوره في الغناء الذي بلور طوراً غنائياً ريفياً خاصاً دونته " براءة الإختراع " تحت اسم الطور الشطراوي بكل ما يحمله من خصوصية لاله ...لاله ، وكل ما تغنت به حناجر مطربي الريف الكبار الذين تجاوزوا حدود مدينتهم ليغزوا قلوب وافئدة اهلهم في البيت العراقي العامر . لم يشكل الغناء وحده جانباً مضيئاً في حياة اهل الشطرة . لقد ابى اهل مدينتي إلا ان يرافقه  نصفه الثاني من الفن الموسيقي ايضاً برواد عزف اوائل ساهموا في خلق الذوق الذي ظل يبحث عن اشباع رغباته المرهفة حتى في اعتى ظروف القهر والحرمان . ولم يقتصر الفن الشطري على الغناء والموسيقى في هذه البقعة الخليطة من الريف والمدينة  ، إذ غالباً ما رفع مثقفو الشطرة ، خاصة على جدران مدارسها ، لافتة : اعطني مسرحاً اعطيك شعباً ، بعثوا به الحياة عبر مسرحيات تقام على مسارح بعض مدارسها ، او حتى في بعض بيوت شبابها المولع بالتمثيل .

شطرتي انفتحت على العالم ، بالرغم من انتماءاتها القروية ، على العالم الفني الآخر عبر السينما التي شكلت احدى محطات خمسينات القرن الماضي ، في الوقت الذي كانت دور السينما فيه مقتصرة على المدن الكبرى من وطننا .

في شطرتي آمن الشباب بمقولة : العقل السليم في الجسم السليم ، فكانت الرياضة بمختلف صنوفها التي افرزت نخبة رياضية شكلت فعلاً جزءً من منتخب اللواء ، المحافظة الآن ، او منتخب المنطقة الجنوبية باسرها . وبالإضافة الى اصناف الرياضة المختلفة شكلت بعض اصناف الرياضة التقليدية الغير معروفة تماماً في وطننا كالزورخانة مثلاً ظاهرة تخصصت فيها هذه المدينة التي لم تبخل بالتفتيش عن كل ما ينفع الناس لتجعله جزءً من مظاهر الحياة فيها .

في شطرتي ، افرزت الحياة كثيراً من المعطيات التي تشارك فيها هذه المدينة العريقة بتاريخها بعض مدن وطننا ، خاصة فيما يتعلق بطيبة اهلها ونزعة التعاون التي يتحلى بها الكثيرون منهم ، والتداخل الذي انبثق عن اختلاط الريف بالمدينة بكل ما يحمله هذا التداخل من سلب وإيجاب وفي مدينة ، كالشطرة ، المحاطة بالعشائر التي تمتد غالبية جذور سكانها الى هذه القرية او تلك القريبة او البعيدة عن المدينة التي مهدت لهم سبل التعليم ومن ثم العيش فيها .

في شطرتي ، وجدت السياسة مرتعاً خصباً في كثير من زواياها . كثير من شبابها انغمسوا في عنفوان شبابهم بنقاشات تناولت ، وبايحاءات معينة  ، بعض الجوانب المحرَّمة على شباب باعمارهم . إلا ان الصبية الذين بدأوا الحديث عن هموم الوطن ، لم يكّفوا عن هذا الحديث وهم شباباً ، بل واصلوه بشكل ربما شكلت يساريته احدى مكونات الأجواء السياسية في هذه المدينة التي تحولت حتى مواكب عزاءها الحسينية مثلاً الى مظاهرات سياسية ، تعالج قصائدها واهازيجها حدثاً سياسياً معيناً او تعكس حالة اجتماعية طاغية او غير ذلك من متاعب الحياة. وحينما نتكلم عن السياسة في الشطرة ، فنستطيع القول ان هناك ما يميزها عن غيرها. فاغلب رواد السياسة من الشباب الذين يتعرضون للملاحقات والتحقيقات ومن ثم السجون او المنافي ، او حتى القتل في بعض الحالات التي عاشتها المدينة فعلاً مع بعض شبابها ، كانوا يتعرضون لتهمة خاصة تزيد من قساوة التعذيب . لقد كان بعض محققي الأمن  ، خاصة مما كان يسمى بالشعبة الخاصة بالشيوعيين ، يواجهون شباب الشطرة المعتقلين بانهم من اصحاب الشينات الأربعة وليس الثلاثة فقط. فإذا كان كثير من المعتقلين الآخرين يواجَهون بالشينات الثلاثة : شيعي ... شروكي .... شيوعي، فإن معتقل الشطرة يواجه الشين الرابعة : شطري . اما اذا كان سوء حظ الشخص قد جعل اسمه يحتوي على شين ، مثل شمخي او شهاب  وما شابه فيواجه معاملة تليق بشيناته الخمسة .

وما دمنا نخوض في غمار السياسة التي شكلت اجواءها الشطرية مساحات واسعة من النشاطات السرية والعلنية التي لا تخلو من الإنحياز اليساري . وما دمنا بصدد الشينات التي لاحقت حامليها ، نستطيع القول ان شين الشطرة ظل يشكل خاصية قد تكون بعض جوانبها مدعاة للغرابة لمن لم يكتشف كل طرقاتها ويتعرف على كل وساءل اهلها الذين لم تفارقهم الطيبة ولم يبخلوا بالحنان على بعضهم البعض  . وهذه الخاصية التي احدثكم عنها الآن ما هي إلا واقعة جرت مؤخراً على محور الشين الرابع ، نكاد ان نقول عنها : سالفة وشهودها بيها ، واليكم هذه السالفة:

في مدينتي انسان نبيل له اهتمامات اجتماعية يفخر بها كل من رافق او ساهم او اطلع على هذه الإهتمامات التي شكلت مساعدات الفقراء والعوائل المحتاجة اكثر جوانبها. ولأن هذا الشخص ، حامل الشينات الأربعة فتح داره لكل من يحتاج الى المساعدة ، ولعلاقتي الشخصية به وتواصلي معه ، اخبرني قبل بضعة ايام بما يلي وقال :

جاءني شخص الى الدار واعطاني مبلغ خمسين الف دينار . ولما سألته عن مصدر ذلك قال لي : هذا هو الخُمس الذي وجب علي لهذه السنة واريدك ان توزعه على الفقراء لأنني اعلم انك اشرف من الذين يتصرفون باموال الخُمس لغير الغرض المفروض .

اليست هذه حالة تختص بها مدينة الشطرة التي يستلم فيها شيوعي الخُمس الديني الذي من المفروض ان يتدبره رجل الدين ؟ والخمس لمن يجهله هو ما جاء به النص القرآني  في الآية 41 من سورة الأنفال:

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِالله وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَالله عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

فهو يشكل العطاء المادي او النقدي للفائض من ممتلكات المسلم الملتزم بالتعاليم الدينية ومنها الخمس ، ولم يعد معتمداً على الغنيمة كالسابق ، بل تحول الى الملكية الخاصة المادية او النقدية . ولم يذكر المفسرون غير صلاحية رجال الدين في تولي هذا الأمر . إلا ان الشطرة خالفت هذه القاعدة واستلم الخمس فيها شيوعي ليوزعه على اليتامى والمساكين وابن السبيل ، بالنظر لما معروف عن الشيوعيين ، وهذا واحد من امثلتهم العديدة ، في المساهمات الإنسانية ونكران الذات في سبيل وطنهم واهلهم .

طوبى لمن يحمل راية الإنسان هو الوسيلة والغاية .

صادق اطيمش ( الشطري بفخر)

  كتب بتأريخ :  السبت 04-12-2021     عدد القراء :  1737       عدد التعليقات : 0