الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
من أسوان إلـى الأقصر..سحر الماء سحر النوبيين سحر الحجر
بقلم : زهير الجزائري
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

من الطائرة تبدو الخضرة خطا نحيفا على جرفى النيل، والبقية هى الصحراء. صحراء صحراء صحراء ما من علامة على الحياة. صحراء توهمنى بالرتابة. فجأة تظهر كتلة من الجرانيت الأسود مقذوفة من كوكب بعيد انغرست فى الرمال.

عينى وروحى اعتادتا الصحراء فى المدينة التى جئت منها. أمسح الصحراء بعينىّ وأسمع فى الوقت نفسه (أغنية سكّرة يا سكّرة). النوبيون الذين أهدونا هذه الأغنية يطحنون صبرهم بانتظار المستحيل: العودة إلى قراهم. صعد ماء النيل وقد أغلقت السدود طريقه فغمر قراهم وبقوا هائمين فى الصحراء وعلى ضفاف النيل.

ارتبط النوبيون بالنيل. يغطس الوليد الجديد فى الماء حالما يولد ثم تشعل له شمعة وتترك طافية على الماء دليلا على حياة ولدت توا وستمشى مع مجرى النيل.

منهم سائق مركبتنا العجوز الذى يكرر اسمه لنحفظه:

ــ شمندى شمندورى شمندوس.

يقوله بجد من دون أن يلتفت إلينا. لا يلتفت، بيديه المعوقتين يقبض على المقود مثل سرطان البحر. سألته عن اسمه فلم يعرف معناه، لكنه يعرف أن هذا الاسم يعود للعصر الرومانى.

النوبيون مروا باحتلالات عديدة ومديدة. سلالات من الفراعنة ثم جاء الرومان، بعدهم سيطرت المسيحية ثم جاء ما يسميه الدليل (الفتح) الإسلامى، العثمانيون ثم اللورد كتشنر الذى بنى فى النوبة قلعته لمواجهة المتمردين السودانيين.. المحتلون انجذبوا إلى تلال الذهب الممتزج بالرمال والصخور.

ألوان البيوت وأبوابها ونوافذها فى قرية (غرب سهيل) صارخة، وحارة تجذب العيون بقوة الصدمة حتى تألف هذا الجمال الوحشى، والأرض رملية يترك الماشون عليها خطوطا من الزخرفة.

الحياة الأخرى

من شرفة باذخة نطل، وداد وأنا، على النيل. أمامنا على الجرف الآخر جبل (أبو الهوى). رمل محمر تحته قبور ملوك من أزمنة مختلفة، فراعنة رومان مماليك.. بين قبورهم والشرفة التى نطل منها يجرى النيل. فى الفجر الباكر يبدو مثل مرآة تعكس لون الذهب والرمل. اسدلت المراكب أشرعتها ونامت عند سفح جبل الموتى. لا أحد منهم عاد ليخبرنا إن كانت هناك حياة أبدية، وما شكلها إن وجدت. الأبدية شغلت الفراعنة أكثر من حياتهم التى عاشوها. ماتوا وهم سعداء لأنهم ذهبوا للأبدية السعيدة. لم يهملوا حياتهم الحاضرة من أجل عالم لم يروه بعد، فقد وصف لنا أخناتون يوما كاملا بنهاره وليله:

حينما ترسل أشعتك

تصبح الأرض عيدا

يستيقظ الناس

ويهمون لأعمالهم

وتينع الأشجار والنباتات

وترفرف الطيور فوق المستنقعات

وتبسط أجنحتها

تعبدا لك

وتتراقص الغزلان على أقدامها

وتحيا كل المخلوقات

دابة أو محلقة

حين تشرق

ويثب السمك فى النهر

حين تمسه أشعتك وهى تخترق

عمق الماء

وعندما تغيب أشعتك فى الأفق الغربى

تظلم الأرض كالموت

فلا يرى الإنسان جاره

وتخرج الضوارى من عرائنها

لتفترس وتدب الثعابين لتلدغ ويخيم الظلام ويعم الصمت

ويستريح الخالق فى أفقه

القصيدة تلخيص للحياتين، الآنية والأبدية، بيوم واحد النيل هو الفاصل بينهما.

الموت للفراعنة رحيل عبر النهر الذى يرون ضفته الأخرى بالعين المجردة. رحلة سعيدة ستضاعف الآلهة مكرماتها لهم وهم على ظهر المركب. أجمل وأطيب ما أحبوا ستتدفق عليهم كقرابين وستنفض الأشجار ثمارها عليهم وهم ينسابون فوق الماء نحو الحياة الأخرى. أكاد أراهم وأنا أنظر للنوبيين وقد ناموا فى قيعان زوارقهم. يهزهم الماء الراكد عند الجرف ويعيد لهم طفولتهم.

رمسيس الثانى

دوخنى دوى التبريد، ولدغت معدتى رائحة البصل المقلى، مع ذلك أحاول أن أستعيد أسماء الملوك وسلالاتهم. كأننى بتسميتهم أعيد خلقهم. أول من ارتسم أمامى هو (رمسيس الثانى) وهو الملك الأول للسلالة ١٩. واحد من أطول ملوك مصر فى الحكم. كل ما بناه، فى الكرنك أو الأقصر يرتبط به كملك أبدى. وأنا أضع أولى خطواتى نحوه تهت منجذبا إليه. كلما تقدمت خطوة أخرى أشعر أنه يتحدانى بنظرته وحضوره الثابت. أقاومه بفكرتى عن الدكتاتور فيحيلنى إلى التاريخ. معبده فى (أبو سمبل) محفورة فى بطن الجبل كأنه فى رحم أمه. التكرار يسلبنى طاقة المقاومة. يعرف رمسيس ذلك منذ المدخل فيكرر نفسه أربع مرات فى مراحل مختلفة من عمره. وحين أصعد الدرجات وأدخل المعبد سأمر بين صفين من تماثيله. رمسيس، رمسيس، رمسيس رمسيس.. جميل ويعرف أنه جميل، يبتسم بجد وصمت مطبقا على سر أنه سيبقى هكذا إلى الأبد. خطواتى بطّيئة ومرتبكة لأنه يصيح بى من الجانبين: أنا، أنا، أنا..

دكتاتور مثالى أحب نفسه إلى حد العبادة. راحتا يديه اندمجتا مع ذراعى الكرسى: أنا السلطة وما من أحد بعدى! تزوج ٦٨ مرة وأحب النوبة كمخزن للذهب.

أمر بين تماثيله المتقابلة لأفاجأ فى الباحة الداخلية أنه قد تحول فجأة من ملك إلى إله. منه الكلمات فيحولها الناس تحت إمرته إلى أفعال. كل الصفات الصالحة نسبت إليه. الناس مجرد زخارف ناعمة طرزت على ثوبه.

رأيت الظلم حتى اكتفيت. رأيت الأسرى تقطع رءوسهم احتفالا بالنصر. أجساد الضحايا تدفن فى جدران القصور.عدوه احتفل بالنصر فى المعركة نفسها. كلاهما رابح. رأيت الناس فى صفوف راكعة لساعات تبجيلا له. يحمل النوبيون حجارة تحنى ظهورهم حتى الأرض ليبنوا قصوره ومعابده. رأيتهم مجسدين بالحجر، واسم النحات غائب تماما.. هذا هو الظلم مجسدا ومضاعفا ليتحول إلى أهرامات. السلطة تصحب ملوك الفراعنة حتى الموت. حين يموت الملك، يقتل أتباعه من رجال البلاط بدم بارد ليدفنوا معه وتوزع قبورهم حول قبره حسب التدرج الهرمى، بما فى ذلك أقزام التسلية، ليرافقونه فى حياته الأبدية.

عند (معبد فيلة) تتسابق الطبيعة والإنسان فى النحت. الطبيعة أكثر تجريدا ودواما، تترك للريح أن تحتُّ الصخور الرملية على شكل دوائر ومربعات لينة الحواف. صخور الطبيعة تتراكم على بعضها وتترك للزمن أن يشكل هذا التآلف الأبدى. العين تتجول بكل الاتجاهات لتكتشف بين الصخور حكايات غامضة وأشكالا تشبه الحقيقة. وضعت الطبيعة تماثيلها فوق القمم، هى الأعلى، هى التى تزيل ما فعله الإنسان، هى التى تدفن تحت رمالها وتغرق بفيضاناتها، هى التى تهدم بزلازلها..

الإنسان على عكس الطبيعة ينشد الواقع فحاول تجسيد الملوك وقد تحولوا إلى آلهة.

بين الاستماع للدليل والنظر لما حولى تتوزع حواسى وتفلت العين بعيدا عن كلمات الدليل تبحث عما يدهشها. نمشى بين صفوف من الأعمدة.. العمود لا يسند سقفا، إنما ينتهى بتاج، فهو رمز نفسه وتجسيدا لسلطة تحسب قوتها بعدد الأعمدة. أسير بين صفوف الأعمدة وأرى أمامى سيدة إسبانية، لا تنشد قصص التاريخ التى يرويها الدليل السياحى، إنما تجد فى معابد الموتى مسرحا لتجسيد ذاتها وسط التاريخ. تريد أن تتماثل مع ما تراه. تقفز من عمود لآخر فارشة تنورتها الحمراء، فاردة ذراعها اليمنى مثل إيزيس. سيدة أخرى تفارق بعينيها رسوم السقوف والجدران وتنظر تحت حيث تسللت قطة هاربة من حر الصحراء إلى أضرحة الفراعنة. القطط الأفريقية تتميز بنحافة البدن وطول الآذان، شبيهات بجداتهن الفرعونيات.

ابنتى (أوس) أوصتنى وهى تغادر مطار القاهرة عام ٢٠٠٧:

ــ إذا رأيته (أشارت خلسة لصورة الرئيس حسنى مبارك) قل له أن يعتنى بالقطط!

دجن الفراعنة الحيوانات فى وقت مبكر. راع واحد أعزل وعارى الصدر يقود بعصا رفيعة قطيعا من جواميس بقرون مدببة حادة. دجن الخنازير والخيول البرية والطيور الجارحة. ومع ذلك أسّطَرَ الحيوانات وسوّاها رموزا للآلهة: آلهة الموت والحياة، آلهة الحرب، آلهة الماء، الزرع.. لم تتبدل هذه الحيوانات على مر الأزمنة، إنما فقدت عند أحفادهم النوبيين قيمتها الرمزية وصارت أكثر ألفة. ما زالت البقرة فى قرية (تشكو) تقدم الحليب وتجر الناعور، والجدى مكابر كأنه ما زال حارس المعبد، لكنه مربوط إلى جدار الطين بانتظار حزّ السكين. والطيور تدور فوق سماء القرية ثم تنزل لتلتقط الحبات الفالتة من يد الإنسان. الكلب ينبح لينبه أهل البيت بوجود غرباء.

النوبيون

النوبيون أقرب المصريين للفراعنة. الأنف المستدق الطويل، والشفة السفلى المدلاة والعظام البارزة. يشبهون أجدادهم فى الاسترخاء والقبول بالحياة الحالية على قسوتها بانتظار حياة أخرى أكثر وفرة. تتناوب قراهم ومعابد الفراعنة على جرفى النيل. لقد حفظوا التاريخ عن ظهر قلب. قصة داخل قصة فى دوامة القصص. لهم طريقة فى القص. يديرون ظهورهم للنصب الكبير أو للتفاصيل الصغيرة عليه، يلمسونه بطرف العصا دون أن يلتفتوا إليه، على يقين من وجوده. ومع اللمس الرقيق تتدفق القصص فتمزج الواقعة التاريخية مع الأساطير. أساطير الفراعنة هى أساطيرهم أيضا.

لا تبدو الدهشة عليهم أبدا حين يقولون:

ــ تحول الملك إلى جَدّى!

كأن ما تقوله الجدران هو البداهة.

فى الحر الجهنمى يعمل النوبيون وهم شبه نائمين. جالسون دائما وما تحتهم يمشى. سفانون ثابتون فى زوارقهم التى تنساب بهم، أو حوذيون جالسون فى عرباتهم وتجرهم خيولهم التى تكدح. (محمود أبو أحمد) مخدر دائما. كلماته مخدرة وهو يعيدها للسواح الباحثين عن قصص غريبة فى هذا المناخ الأسطورى. قبل أن يدخل حصانه للزريبة جره عنوة لينقلنا إلى الفندق. الحصان غاضب يقذف الزبد مع الهواء ويصهل من غضبه لأن لقمته انقطعت. حين أعطينا محمد أجرته طالبنا بأجرة الحصان.. هو الذى جرّنا برغم جوعه. يطرق بحوافره أسفلت الشارع رافعا رأسه إلى فوق طالبا الرحمة.

الساعة الآن الثانية عشرة والنصف ظهرا. فى هذه الساعة يرتفع منسوب النيل. على امتداد الجرفين يتصارع الماء والشمس كما الحياة والموت. جذوع القصب القريبة من الماء يانعة شديدة الخضرة علامة حياة قريبة من الماء، بينما الأطراف الصاعدة نحو الشمس يابسة كما الموت. الطيور تحلق وتلعب فى الخط البارد فى الظلال القريبة من الماء. وسط صحراء الرمال تبدو (بحيرة ناصر) مثل دعابة فى غير وقتها ومكانها. بقعة ماء أسقطها الإنسان على صفحة الرمال. بين الوهم واليقين. لم لا أسبح وأنا غارق فى عرقى؟ الدليل حذّرنى:

ــ التماسيح!

يخاف النوبيون التماسيح ويحبونها مثل أجدادهم الفراعنة. على أبواب بيوتهم يضعون تماسيح محنطة لطرد الأعداء ومنع حسدهم. التمساح حارس قبور ملوك الفراعنة وحارس النوبيين من الغرباء والمصائب.

وادى الملوك

تيقظنى هزّة الماء الناعمة وأنا نائم فى السفينة. أفتح عينىّ غير مصدق إنى طافٍ على الماء بهذا الرفق العجيب. على عكس القاهرة المزدحمة الضاجّة الغاضبة تسير الحياة فى القرى مع النيل بإيقاع ثابت.. فلاحون منغرسون وسط حقولهم، جواميس تدير النواعير، ونساء يشجرن تنانير الخبز. الريف المصرى الذى أثر فى أعمال الفنانين المحدثين: على كامل الديب، وراغب عياد، وعلى ناجى، يسير بثبات مع عادات الحياة اليومية. يقربنى النيل اليهم فيتجمع أطفالهم على الجرف ليحيونا أو يرموننا بالحجارة.

الباعة يعرفون طرق السواح فيقطعون طريقنا ببضائعهم الفرعونية. استراتيجيتهم فى الإقناع تعتمد على ثلاث ركائز: الصورة، والصوت، والاستمرارية. بهذه الثلاثية يريدون الحصول على موافقة جمالية من المشترى.

يضع البائع صورة البضاعة أمامك، وأنت تمشى، وهو يمشى أمامك معولا على تثبيت الصورة مع سحرها فى مخيلتك. لا يكف عن الشرح ومؤكدا أنها صنع اليد فى القرية، أى أن الآلة لم تدخل وسيطا بين الإنسان ونتاجه.. وهذا يعطى السلعة مزيدا من البراءة والأصالة. خطوة جانبية لأتجنب البائع فيخطوها ليقطع طريقى. الممارسة علمته أن الإلحاح سيثمر فى ترويض عناد الزبون. فجأة تنبهت لسحر البساط الذى يمشى معى: عرس فى قرية.

البساط يجمع الثابت والمتغير فى القرية، الآنى وهو العرس والأبدى وهو السماء والحجر، السماء زرقاء فيروزية لا تكسرها سحابة فى المستطيل الأعلى من البساط. تحته بيوت القرية وجامعها وأبراج الحمام وغابة النخيل. يكسر البناء، وهو مزيج من الطين والحجر، زرقة السماء بألوان حارة تخلق انسجامها من براءة التنافر. الحياة الحركة الصاخبة توزعت فى المستطيل الأسفل حيث تجمع الناس بدون حواجز أو جدران فى ساحة القرية المفتوحة للكل، بعضهم حول الراقصة فى الوسط، وآخرون ساروا صفا واحدا وراء العريسين اللذين غابا داخل هودجين فوق جملين، على الحافة التحتية للبساط أطفال يلوّحون لسفينتنا الطافية فوق النيل. نحن عابرون وهم ثابتون فى قلبي.

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 08-12-2021     عدد القراء :  1185       عدد التعليقات : 0