الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
سُعار اليمين المتطرف يجتاح أوربا / ج 2

أحداث أوكرانيا(2014) وإنتعاش اليمين المتطرف

   خلال الحرب العالمية الثانية، حينما كان الاتحاد السوفييتي متحالفا مع دول العالم الحر، كما كانت تسمى آنذاك، في محاربة تحالف النازيين الالمان مع فاشيي كل من أيطاليا واليابان، برزت في أوكرانيا حركة قومية عنصرية يقودها شخص يدعى " ستيفن بانديرا "، تحالفت هذه الحرجة مع النازيين الالمان وأتُهمت بالقيام بأعمال عدائية ضد جيوش الحلفاء... في أحداث عام 2014 وفي مؤتمر لحركة الاحتجاجات المعروفة بإسم (يورو ميدان) عقد في داخل قاعة الاعمدة المركزية في مجلس مدينة " كييف " رفعت لوحات تؤشر هوية الحركة حيث وضعت لافته ضخمة في صدر القاعة تحمل شعار الصليب الابيض الذي يرمز الى القوة البيضاء في إشارة الى قوة الجنس البشري صاحب البشرة البيضاء( بالمناسبة الصليب الابيض هنا ليس هو نفسه الموجود في علم سويسرا بل أخر له نهايات متفرعة)، وفي مقابل هذه اللافتة وضعت صورة لزعيم القوميين الاوكران النازيين خلال الحرب العالمية الثانية المدعو "ستيفن بانديرا" ، وكل ذاك كان دلالة على هوية وتوجه المنتفضين الذين أسقطوا الرئيس " يانكوفيتش" المنتخب حديثا آنذاك .. والحقيقة إن حركة ال" يورو ميدان" لم تكن وحدها في الساحة فقد لاقت دعما غير متناهي من لدن قوى اليمين الاوربي عامة والمتطرف بشكل خاص عن طريق مدها بالمعونات المالية الضخمة إضافة الى إمدادات بشرية كبيرة ساهمت في زيادة زخم الاحتجاجات في " كييف". وكأن اليمين المتطرف قد إعتبر إحتجاجات أوكرانيا هي معركته الكبرى والاهم في بداية العقد الواحد والعشرين، لذاك شمَّر عن كل مكامن قوته للمساعدة في إنجاح تلك الاحتجاجات حيث قامت اجهزته الاعلامية الضخمة بتغطية كبيرة مع بروبغاندا مدروسة بشكل دقيق لتسهيل قبول العالم لنظام النازيين الجدد في أوكرانيا. وكنتيجة مباشرة لهذا النجاح إنتعش اليمين المتطرف في أوربا بشكل كبير بعيد تلك الاحداث وصار حضوره الرسمي والشعبي مؤثرا جدا في الحياة السياسية لبلدان أوربا عموما. ففي مثالي السويد وفرنسا حصرا لم يكن الحزب العنصري في السويد يستطيع الوصول الى البرلمان قبل إنعقاد مؤتمر (أنفر) في بلجيكا عام 2008، لكنه لاقى دعما كبيرا من قبل نظيراته أحزاب اليمين الاوربي فتمكن عام 2010 من إيصال (19) نائبا الى البرلمان ومن ثم بعيد أحداث أوكرانيا عام 2014 وصل منه (49) نائبا للبرلمان حتى جاء عام 2018 ليصل منه (61) نائبا في البرلمان ليصبح ثالث أكبر حزب في البرلمان.

   أما في فرنسا فقد كانت المرة الاولى التي تصل فيها "مارين لوبان" الى المرحلة الثانية للانتخابات الرئاسية هي في عام 2017 أي بعد أحداث أوكرانيا وحصلت على 33% من الاصوات متخلفة وراء " مانويل ماكرون" وهي أعلى نسبة يصلها حزبها الجبهة القومية في تاريخه، فلم يستطع والدها "جان ماري لوبان" مؤسس الحزب من الوصول الى المرحلة الثانية إلا في عام 2002 لكن جاك شيراك منافسه حصل على 82% من الاصوات وفاز بفترة رئاسته الثانية. لتعود "مارين لوبان" في عام 2022 الى الوصول للمرحلة الثانية وتحصل على 42% من أصوات الناخبين مقابل 58% لمنافسها " الرئيس ماكرون"، ورغم عدم وصولها الى سدة الرئاسة إلا إنها إعتبرت ما حصل هو إنتصار لها ولحزبها وهي على حق في ذلك.

   ولعل الولوج قليلا فيما يرافق تلك الارقام من أحداث تعطي إنطباعا أفضل عن حال اليمين المتطرف والوضع السياسي عموما. ففي عام 2010 حينما وصل (19) نائبا يمثلون الحزب العنصري في السويد الى البرلمان تم طردهم من قبل القس السويدي الذي يفتتح أعمال البرلمان الجديد في أول إجتماع يعقد عادة في أكبر كنائس إستوكهولم، فقد أشار القس الى إن الكنيسة لا يشرفها وجود من يؤمن بتمايز البشر على أساس اللون أو العرق، فما كان من نواب الحزب العنصري إلا أن غادروا الاجتماع فورا والذي إستمرت جلسته بالانعقاد، وأعلنت بعد ذلك جميع الاحزاب السويدية المتمثلة في البرلمان آنذاك عن رفضها التعاون مع الحزب العنصري " ديمقراطيو السويد" ، وبالفعل عاش مندوبو الحزب العنصري منبوذين طيلة الاعوام الاربعة تلك، لكن الحال تبدل بعد عام 2014 لتصبح الاتصالات علنية معهم ومن ثم يصرح رؤوساء أحزاب " المحافظين والليبراليين والديمقراطي المسيحي" عن عدم ممانعتهم التعاون مع حزب " ديمقراطيو السويد" العنصري وهذا ما تم بالفعل خصوصا بعد عام 2018 حيث تمت تحالفات معه على صعيد بعض حكومات المقاطعات وبلديات المدن وصولا الى الاشتراك بمشاريع قوانين تقدم للبرلمان آخرها مشروع قانون الموازنة للخريف المنصرم حيث فاز بالاغلبية وهو من إعداد أحزاب اليمين بالاشتراك مع الحزب العنصري .

   أما في فرنسا فحينما وصل لوبان الاب الى المرحلة الثانية في إنتخابات عام 2002 تصدى له كل المرشحين السابقين وأحزابهم وشكلوا ما عرف وقتها بالجبهة الجمهورية بمقابلة الجبهة القومية، حزب لوبان، ونظموا مظاهرات كبيرة جدا في عموم المدن الفرنسية تدعو لعدم التصويت للمرشح لوبان وأثمرت تلك الفعاليات عن فوز جاك شيراك بـ 82% من الاصوات. لقد كان من زعماء الجبهة الجمهورية ومن المتحمسين لاسقاط لوبان ألاب هو المرشح الاشتراكي الخاسر في الجولة الاولى " جاك ـ لوك ميلافشون" والذي طالب ناخبيه بالتصويت الى شيراك، لكن نفس هذا السياسي الاشتراكي يخسر في الجولة الاولى في عام 2022 وتصل مارين لوبان الى المرحلة الثانية ويبقى صامتا دون أن يوجه ناخبيه بالتصويت لمن وتركهم يقررون ما يشاؤون بأنفسهم لتحصل لوبان على 42% من الاصوات.

   إن الخطورة لا تكمن فقط في زيادة جماهيرية اليمين المتطرف فحسب، بل في تقبل الاحزاب المناهضة لوجوده بالامس، التعاون معه الان وفي مجالات عدة، فبعد أن كان رئيس الحزب العنصري " ديمقراطيو السويد" منبوذا من قبل قادة الاحزاب صار يزور بعض مناطق الناخبين صحبة من كان ينبذه أو يدعو لمقاطعته، وهذا التقارب ولَّد خطورة أكبر وهو تنامي الاتجاهات اليمينية داخل الاحزاب التي كانت تُعد على إنها يسارية أو من اليسار الوسط، فدولتين عرفتا على مدى تاريخيهما بالحياد الايجابي وهما فنلندا والسويد ويقود حكومتيهما الان الحزب الاشتراكي الديمقراطي تهيئان الاجواء للانضمام الى حلف الناتو!! وحزب اليسار السويدي الذي هو وريث الحزب الشيوعي تعرب رئيسته عن أسفها لعدم تصويت بعض نواب حزبها في البرلمان ب "نعم" على مقترح تقديم أسلحة دعما لأوكرانيا وتعد بعدم تكرار ذلك مستقبلا، فالى اي مستوى إنحدر الحزب؟ لكن يبقى هناك بصيص أمل بالصراع الذي يتولد في مثل هذه الحالات داخل الاحزاب نفسها برفض التوجهات اليمينية للقادة وأيضا بمدى تأثير الفعاليات المجتمعية في إعادة التوازن الى المشهد، فمثلا إنبثقت في السويد قبل أيام حركة إجتماعية تدعو البرلمان الى عدم التصويت على دخول الناتو قبل إجراء إستفتاء شعبي بذلك، وأدى ضغط هذه الحركة الى إنحياز حزب اليسار لها بإعلانه ضرورة إجراء الاستفتاء، وهكذا تبدو الامور التي تفرض على الجاليات الاجنبية في أوربا الدخول في معترك الحياة السياسية ليس بخلفياتها العقائدية والعرقية وإنما بحكم إنتمائها الى الاوطان التي فيها يعيشون، فإن تصدر اليمين المتطرف الحكم في أي بلد فإنه سيكون همه الاكبر معاداة اللاجئين بمختلف جذورهم وايضا بحكم تمثيله الطبقي سيحاول الاجهاز أو التقليل من كل المكتسبات التي حصلت عليها شرائح شغيلة اليد والفكر بمختلف العقود المنصرمة.

  كتب بتأريخ :  السبت 30-04-2022     عدد القراء :  2094       عدد التعليقات : 0