الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الدستور التونسي: مشروع إنقاذ وطني

توجه قوى المعارضة السياسية في تونس انتقادات واسعة للرئيس قيس سعيّد لناحية طرحه للاستفتاء العام مشروع دستور جديد لعام 2022 بسبب ما يدّعى بالتحول من نظام برلماني أسس له دستور عام 2014 إلى نظام رئاسي يخص فيه «الرئيس»، بصلاحيات واسعة. وترى هذه القوى أنّ الدستور الجديد يؤسس لعودة الاستبداد والدكتاتورية إلى تونس.

تقف مع هذه القوى بالدعم والتعزيز الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية وصندوق النقد الدولي الذي يصعّب أمر منح القروض لتونس حتى تقبل بشروط من شأنها أنْ تجعل الوضع الاقتصادي أكثر تعقيداً. يذكر أنّ الأوضاع المعيشية في تونس تفاقمت بسبب الفساد والتجاذبات الحادة بين كتل نيابية متضادة كانت تعمل في مجلس نواب الشعب التونسي مما ساهم بركود اقتصادي حاد زاده شدة انتشار وباء كورونا وما رافقه من إجراءات ترتب عليها وقف الكثير من النشاطات الأمر الذي أثر في قطاعات متنوعة يقف في مقدمتها قطاع السياحة الذي يعتبر أحد مصادر الدخل الرئيسية للبلاد. بيد إنّ هذه المواقف والانتقادات قد تبددها قراءة حيادية ومباشرة للدستور الجديد الذي تمّ تمريره بأغلبية مؤيدة قبل أيام.

بقلمه، كتب الرئيس قيس سعيّد حامل شهادة الدكتوراه في القانون الدستوري والفقيه ورئيس الجمعية التونسية للقانون الدستوري للفترة من 1995 – 2019، مسودة دستور 2022. نشرت مسودة الدستور المقترح بأمر من رئيس الجمهورية في الجريدة الرسمية، الرائد الرسمي للجمهورية التونسية لاطلاع المواطنين عليه بتاريخ 30 حزيران الماضي وحدد فيه يوم 25 من تموز التالي للاستفتاء عليه. وجاء نشر مسودة الدستور الجديد بموجب الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المؤرخ 22 أيلول عام 2021 المتعلق بتدابير استثنائية. صمم الدستور الجديد ليحل محل دستور 2014 الذي كان قد صدر بعد ثلاث سنوات من سقوط نظام زين العابدين بن علي، وبلغ عدد فصوله أو المواد الدستورية فيه (142) مادة. دخل الدستور الجديد حيز التنفيذ ابتداءً من تاريخ الإعلان النهائي عن نتيجة الاستفتاء من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس.

حصل الدستور الجديد على نسبة تأييد بلغت 95‌% من مجموع المصوتين ممن قاربت نسبتهم 28‌% من العدد الكلي للمواطنين التونسيين المؤهلين للمشاركة في التصويت. جاء ذلك على لسان فاروق بوعسكر رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. أجري الاستفتاء على الدستور الجديد بحضور (5800) مراقب دولي. وكان الرئيس سعيّد تولى رئاسة البلاد منذ تشرين الأول عام 2019. أعلن الرئيس سعيّد فيما بعد في 25 تموز 2020 قيامه بأعمال السلطتين التنفيذية والتشريعية بعد إقالة رئيس الحكومة وتعليق أعمال مجلس نواب الشعب الذي رأسه آنذاك السيد راشد الغنوشي، رئيس حزب حركة النهضة. حصل ذلك قبل أنْ يحل الرئيس مجلسي النواب والقضاء ويدعو إلى إجراء انتخابات مبكرة في 17 كانون الأول القادم من العام الجاري. وكلف الرئيس السيدة نجلاء بودن رمضان بتشكيل حكومة جديدة. حدثت كل هذه التطورات بسبب شيوع الفساد المالي والاقتصادي وتفاقم الفقر والبطالة في تونس. قابل ذلك أداء برلماني رتيب جعل منه ساحة للمناكفات والخصومات البينية وشهدت قاعة البرلمان تجاوز الأعضاء على بعضهم البعض، بدنياً ولفظياً. من جانب آخر، توضح بنية المعارضة السياسية في تونس عدم قدرتها على التجمع وتحقيق مستوى من الإجماع لتمرير القوانين والمساعدة على تنفيذ البرنامج الحكومي. ظهر هذا الحال جلياً حتى في مواجهة الرئيس سعيّد ومشروع الدستور الجديد الذي قدمه للاستفتاء العام متهمين إياه بالاستبداد والدكتاتورية. تكونت المعارضة التونسية من ثلاث جماعات رئيسية متضادة في توجهاتها ومنهجياتها: جبهة الخلاص الوطني التي تضم حزب حركة النهضة المحافظ المنشغل بالمحافظة على دستور 2014. يليه الحزب الدستوري الحر الذي يتبع الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وحزب العمال ذي التوجهات اليسارية الراديكالية. أما الرئيس فليس لديه حزب بعينه وإنما جماعات شعبية من الأنصار ومن أبرزها حزب الشعب الذي يدعم سياساته. وكما يعبر السيد بدر الدين القمودي القيادي في حزب الشعب فإنّ الرئيس يستمد شعبيته من المواطنين التونسيين المتذمرين من الأداء السياسي في السنوات العشرة الماضية منذ اسقاط نظام بن علي عام 2010. ويضيف إنّ البطالة والفقر والمديونية المفرطة والسياسات الفاشلة والفساد المستشري في تونس خلال تلك الفترة كان سبباً في صعود نجم الرئيس. على الرغم من الانتقادات الحادة التي تلقاها الرئيس من مختلف قوى المعارضة وبخاصة ما يتعلق منها بالتحول إلى نظام رئاسي – برلماني، يعبر أنصاره عن دعمهم له بالقول: إنّ تجمع السلطات بيد «رجل نظيف» خير من تقاسمها «بين فاسدين». يذكر إنّ الرئيس سعيّد أعقب اجراءاته التنفيذية بأخرى طالت (57) قاضياً من أصل (3000) قاضي تمت إقالتهم لاتهامهم بشبهات فساد وتقاعسهم عن مسؤولياتهم لمحاسبة الفاسدين وتواطئهم معهم أو في الأقل غض النظر عن تجاوزاتهم. لم يكتف الرئيس بإقالة هؤلاء القضاة وانما أمر بنشر أسمائهم في الجريدة الرسمية ضمن الحملة التي أطلق عليها «تطهير القضاء». لم تمض هذه الاجراءات دون انتقادات وتظاهرات وصفتها بأنّها تهدف إلى القضاء على استقلالية القضاء.

فقرات دستورية

يستهل الدستور التونسي الجديد بعبارة «نحن الشعب التونسي صاحب السيادة»، الذي حقق بداية 17 كانون الأول من عام 2010 تغييراً تاريخياً مهماً تحت شعار: الشعب يريد». يؤكد الدستور الجديد في المحور التمهيدي الأول على أنْ لا سلم أهلي بلا عدل أو كرامة أو حرية. يلاحظ اهتمامه بالجوانب الاجتماعية حيث يؤكد على إنّ تونس دولة قانون وأنّها لكي تكون كذلك فإنّ عليها السعي لتحقيق «مجتمع القانون». ما لم يكن المجتمع متحصناً بالقواعد القانونية، يساهم في اشاعتها وتطبيقها ورصد المتجاوزين عليها، لن يكون ممكناً تحقيق دولة القانون. يؤكد الدستور على الجانب الاجتماعي لإنجاح النظام الديموقراطي. فلا ديموقراطية سياسية بلا «ديموقراطية اجتماعية»، ترافقها ديموقراطية اقتصادية. وبذلك يمكن للمواطن أنْ يمارس حقه في الاختيار ويسائل من يختاره عن أدائه. يؤكد الدستور انتماء تونس إلى الأمة العربية ويعتبره جزء من أفريقيا ويأخذ من الإسلام الجوانب الإنسانية فيه، وأنّ تونس جزء من بلاد المغرب العربي على وجه الخصوص. كما يؤكد على الرغبة في نظام «يفصل بين الوظائف التشريعية والتنفيذية والقضائية ويعمل على إقامة توازن حقيقي بينها».

يفرد الدستور الفصل الحادي والعشرون للتأكيد على أنْ تقوم الدولة بحماية «حياد المؤسسات التربوية من أي توظيف حزبي»، ليؤسس بذلك لحماية حرمة هذه المؤسسات من تدخلات تعيق تطورها الطبيعي من أجل الصالح العام. ويورد عدداً من الحقوق الأساسية التي يلزم احترامها كالحق في الحياة والتعليم الإلزامي حتى سن السادسة عشرة من العمر والحرية الفردية وحرية الرأي والحق في الإعلام وتمثيل المرأة والحق النقابي والحق في الثقافة وتوفير ظروف العمل والأجر العادل والمحافظة على سلامة المناخ وحق الاضراب باستثناء الجيش وقوى الأمن الداخلي والقضاة. ويؤكد على أنّ العقوبة «شخصية»، أي لا تمتد لتطال أي من أفراد العائلة أو الجماعة. ويقر على نحو خاص مبدأ صيانة الحريات الأكاديمية وحرية البحث العلمي. يحظر الدستور سحب الجنسية التونسية من أي مواطن أو تغريمه أو تسليمه أو منعه من العودة إلى الوطن.

يقر الدستور على أنْ يتولى أعضاء مجلس نواب الشعب إقرار القوانين الأساسية ذات العلاقة بأساليب تطبيق الدستور، الموافقة على المعاهدات، تنظيم العلاقة بين مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، العدالة والقضاء، الاعلام والصحافة، الجيش الوطني، القانون الانتخابي، قوات قوى الأمن الوطني، التمديد للمجلس والتمديد لرئاسة الجمهورية والجنسية، إلخ.

على صعيد الوظيفة التنفيذية يحدد الدستور أنّ الترشح لمنصب رئيس الجمهورية حق لكل تونسي أكمل الأربعين من العمر يوم تقديم الطلب وأنْ يكون «غير حامل لجنسية أخرى، مولود لأب ولأم وجد لأب ولأم تونسيين، وكلهم تونسيون دون انقطاع». يتولى رئيس الجمهورية باقتراح من رئيس الحكومة اسناد الوظائف العليا المدنية والعسكرية. وتعتبر الحكومة مسؤولة عن تصرفها أمام رئيس الجمهورية. فيما يتعلق بالرئيس يعطي الدستور الأولوية له لعرض مشروعات القوانين التي يقترحها. ولكنه يعطي النواب حق تقديم مشروعات القوانين شريطة موافقة عشرة نواب على الأقل. تأكيداً لروحية القانون الحاكمة للدستور يقر أنْ لا يحق لرئيس الجمهورية أنْ يجدد ترشيحه لأكثر من مرة واحدة فقط لا غير. يؤدي الرئيس القسم أمام مجلس نواب الشعب، وإذا تعذر ذلك فيؤديها أمام أعضاء المحكمة الدستورية. ويثبت في الفصل المائة وتسعة أنّه عند خلو منصب رئيس الجمهورية يتولى رئيس المحكمة الدستورية مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة لفترة لا تقل عن (45) يوماً ولا تزيد على (90) يوماً ويؤدي القائم بمهام الرئاسة اليمين أمام مجلس نواب الشعب. يقوم الرئيس بحسب الفصل المائة وواحد بتعيين رئيس الحكومة ويقبل تعيين بقية أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها. وبذلك يقطع الدستور التونسي الجديد الطريق على التدخلات البرلمانية في أعمال السلطة التنفيذية ويعطي الحكومة ميداناً للعمل. يأتي كل هذا لتدعيم المبدأ الذي اعتمده للفصل بين السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية.

وأعطى الدستور الحق لمجلس نواب الشعب الاعتراض على الحكومة بعد موافقة نصف أعضاء المجلس ونصف أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم. ويقترع على إقالة الحكومة بعد تقديم «لائحة لوم»، يصوت عليها أغلبية الثلثين من أعضاء المجلسين مجتمعين. ويخصص الدستور الفصل الحادي والستين لمجلس نواب الشعب مؤكداً على منع النائب من ممارسة أي نشاط بمقابل أو بدونه. يعقب هذا مباشرة في الفصل الثاني والستين أنّه لا يحق للنائب أنْ يلتحق بكتلة أخرى بعد انسحابه من الكتلة التي كان ينتمي إليها. ينزع الدستور في الفصل السادس والستين «الحصانة البرلمانية بالنسبة إلى جرائم القذف والمثلب وتبادل العنف المرتكبة داخل المجلس، كما لا يتمتع بها (الحصانة) أيضاً في صورة تعطيله للسير العادي لأعمال المجلس». يلزم الدستور اللجان المنبثقة عن المجلس بالعمل حتى خلال عطلة المجلس لإنجاز المهام الموكلة إليها لتقديم مشروعات القوانين اللازمة كما جاء في الفصل الثاني والسبعون.

لم يغفل الدستور مسألة «تنقيح الدستور» باقتراحات تقدم من رئيس الجمهورية وثلث أعضاء مجلس نواب الشعب على أنْ تعرض التنقيحات «وجوباً»، على المحكمة الدستورية للبتّ فيما لا يجوز تنقيحه مما يرتبط بأسس النظام الجمهوري. تتكون المحكمة الدستورية من تسعة أعضاء يعرفون بالنزاهة والكرامة ويعينون فيها حسب الأقدمية في المحاكم التونسية.

يولي الدستور اهتماماً واضحاً بالمرأة وقضاياها المشروعة وفق النظرة «البورقيبية» التحررية. ينص الدستور على ذكر النساء إلى جانب الرجال فلا يكتفى بالقول «المواطنون» بل تذكر معها وأينما ورد ذلك: المواطنات والمواطنون، كما في «أنهن وأنّهم» متساوون في الحقوق والواجبات، أو «هن وهم»، «سواء أمام القانون دون تمييز». ويضيف إلى أنّ الدولة تعمل على ضمان تمثيل المرأة في المجالس المنتخبة أياً كانت. يقر الدستور في الفصل الحادي والخمسون على التزام الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة والعمل على دعمها وتطويرها. وأنّ الدولة تضمن تكافؤ الفرص بين المرأة والرجل في تحمل المسؤوليات في كل المجالات. بل ويؤكد على مفهوم «التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة»، وليس الثلث أو الربع، باعتباره واجباً تتولى الدولة السعي لتحقيقه. ويعالج مسألة العنف بتحميل الدولة مسؤولية اتخاذ التدابير اللازمة للقضاء عليه. يعطي الدستور في الفصل الثامن والخمسون الحق لكل ناخب ولد من أب تونسي أو أم تونسية وبلغ (23) سنة من العمر الحق بالترشح لعضوية مجلس نواب الشعب. وفي موضوع متصل يقر الدستور في الفصل الثاني والخمسون أنْ تحمي الدولة حقوق الطفل وتتكفل بالأطفال المتخلى عنهم أو مجهولي النسب. وكذلك تفعل مع المسنين ممن لا سند لهم والأشخاص ذوي الإعاقة، وتعمل على إدماجهم في المجتمع.  

المدى

  كتب بتأريخ :  الأحد 31-07-2022     عدد القراء :  1236       عدد التعليقات : 0