الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الإسلام دين أم دين ودولة

كثيرا ما يطرح السؤال ما إذا كان الإسلام ليس إلا دينا، ولا علاقة بالدولة والسياسة، أم هو دين ودولة.

في البداية لا بد من تثبيت حقيقة، وهو إن الإسلام، سواء كان وحيا إلهيا، أو اجتهادا محمديا، هو بالأصل دين واحد، لكننا في واقعنا الراهن، بل عبر التاريخ منذ رحيل النبي عن أمته حتى يومنا هذا، هو ليس إسلاما واحدا، بل يمكننا أن نتكلم عن عدد غير قليل من (الإسلامات). وبالتالي لا بد لنا من التمييز بين طرفي ثلاث ثنائيات؛ التمييز بين الإسلام والمسلمين، بين إسلام وإسلام، وأخيرا التمييز بين مسلمين ومسلمين.

هناك من يستشهد على عدم دعوة الإسلام إلى إقامة دولة إسلامية، هو عدم وجود أي ذكر لوجوب قيام هذه الدولة، فلو كان هذا واجبا فمن غير المعقول أن يغفل القرآن ذكر ذلك ولو بنص قصير واحد. وهؤلاء يغفلون عن إن مصطلح (الدولة) بالمعنى الذي نستعمله اليوم، لم يكن معروفا أصلا في ذلك الوقت، لا قبل ولا بعد الإسلام. وهكذا العديد من المصطلحات التي نستخدمها اليوم، لم يكن لها وجود، بالمعنى المعاصر، ومنها مصطلح (الشعب)، (الحكومة)، (الحرية)، (الانتخاب)، (الوطن)، (المواطن) وغيرها. لكن القرآن مليء بالنصوص التي لا يمكن أن يفهم منها إلا الحكم والدولة، وهذا ما سأمر على بعضه وباختصار. لكن قبل أن تناول النصوص القرآنية ذات العلاقة، وردا على من يقول بعدم ورود أي أمر في القرآن إلى النبي بوجوب إقامة دولة إسلامية، لنتأمل في دور النبي محمد في المدينة. فهو كان النبي والرسول، وبالتالي هو رئيس السلطة الدينية، باصطفاء وتنصيب من الله حسب عقيدة المسلمين. وكان أيضا كان الذي يقود الحروب، أو يرسل من يشاء إليها، وبالتالي فهو بمثابة القائد العام للقوات المسلحة. ثم القوانين الملزمة في المدينة ثم في عموم الجزيرة، بعدما خضعت لسلطة الإسلام، لم تكن إلا الشريعة الإسلامية، أي ما يوجبه القرآن والسنة، مما يعني أن النبي كان كذلك رئيس السلطة التشريعية. وإن أمر النبي محمد كان نافذا وواجب الطاعة في كل شؤون المسلمين العامة، بل حتى في شؤونهم الشخصية، مما يعني أنه كان فيما يتعلق بالشؤون العامة بمثابة رئيس السلطة التنفيذية، بل وفيما يتعلق بالأمور الشخصية بمثابة ولي أمر كل مسلم ومسلمة وهذا ما أكدته الآية "ما كانَ لِمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسولُهُ أَمرًا أَن تَكونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أِمرِهِم". وفي حال حصول أي اختلاف بين المسلمين، كان يجب التقاضي إلى الرسول، وهذا يعني أنه كان أيضا رئيس السلطة القضائية، فهو إذن رئيس كل مؤسسات الدولة، ولو إن العرب لم يعرفوا (الدولة) لا قبل الإسلام ولا بعد الإسلام، وهذا بسبب افتقادهم للبعد الحضاري الذي كان سائدا في وادي الرافدين والشام ووادي النيل وبلاد فارس. ثم آية "وَمَن لَّم يَحكُم بِما أَنزَلَ اللهُ فَأُولـاـئِكَ هُمُ الكافِرونَ"، التي اتخذها الإسلاميون ذريعة لنظرية الدولة الإسلامية، لا تبتعد أبدا عن هذا المعنى، وإن كان فعل (يَحكُم) هنا يعني القضاء، وليس الحكومة، لكن القضاء هو واحد من أهم مؤسسات الدولة، ثم الواجب على القضاء أن يحكم وفق ما فرضته عليه السلطة التشريعية (الكتاب والسنة)، وهو ملزم أمام السلطة التنفيذية (النبي أو الخليفة).

أما قول المسلمين المدنيين بأن مهمة القرآن كانت مقتصرة على تقديم منظومة قيم أخلاقية، تشتمل على تكاليف وأحكام، تهدف لبناء الإنسان وإسعاده، مثل النبل والفضيلة والعدل والمساواة والشرف والكرامة والإنسانية وقيم أخلاقية رفيعة أخرى متنوعة، ولم يقدم أي منظومة سلطة أو حكم تصلح لأن تكون برنامجا إداريا يخص الاقتصاد أو إنشاء مؤسسات تعنى بإدارة الدولة بشتى القطاعات، كالزراعة والصناعة والصحة والتعليم والاستثمار وغيرها، فهنا إذا أقررنا أن القرآن صحيح قد تناول قيما أخلاقية راقية، لكن الذي يتمعن بدقة في هذه الأخلاقيات القرآنية، يجد أن الالتزام بها واجب حصرا ما بين المسلمين، وهي غير ملزمة أبدا تجاه غير المسلمين. وللاختصار لا يمكن سرد كل الآيات المتعلقة بذلك، وإلا فالبحث سيطول كثيرا، لكن نكتفي بـ "يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا [أي يا أيها المسلمون] لا [تَـ]تَجَسَّسوا، وَلا يَغتَب بَّعضُكُم بَعضًا ..."، وغيرها من آيات الأخلاق، واضح فيها أن المقصود وجوب التزام المسلمين بها تجاه بعضهم البعض. ولذا لم يخطئ الفقهاء عندما قالوا أن الكافر، أي غير المسلم، لا حرمة له فيما يتعلق الأمر بالغيبة والتجسس وسوء الظن، بل ذهبوا إلى عدم وجود حرمة حتى للمسلم الفاسق، أي غير المتدين بمصطلحنا. ثم أي قيم إنسانية هذه التي تمنح الحقوق للرجل وتسلبها من المرأة، ولا يسع هذه المقالة التفصيل فيما فصلته في كتابي "مشكلة الله القرآني مع المرأة". أما عدم تقديم الإسلام حلولا للاقتصاد والصحة والتعليم وغيره، فذها ليس دليلا على عدم اعتماد الإسلام لمفهوم الدولة، بل لأن مجتمع الجزيرة كان مجتمعا بدائيا، لا يعرف شيئا من الاقتصاد وسائر العلوم للميادين التي تكون المجتمعات المتحضرة عادة في حاجة إليها. وبقي مجتمع الجزيرة قبل وبعد الإسلام فاقدا للبعد الحضاري، فحتى الدين الجديد لم يعلمهم كيف يقضون حاجتهم، فكان يخرجون بعيدا عن أنظار الآخرين في خلوة ليقضوا حاجتهم رجالا ونساءً، وهذا ما أكدته الروايات. فاقتصاد (الأمة) المسلمة اقتصر في زمن النبي والخلفاء الراشدين على الغنائم. ومع ذلك مارس النبي ما يمارسه قائد الدولة ورئيس السلطات الثلاث والقائد العسكري، كما تمارسه الدول، ولكن بشكل بدائي، لأن مجتمع الجزيرة كان نسبة إلى بقية الحضارات في المنطقة بدائيا، ولم يعمل الرسول على حضرنته. وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة غاية في الأهمية، وهي إن آيات الأخلاق، لا تقارن أبدا من حيث الكم بآيات القتال وآيات الوعيد بنار جهنم، بشتى ألوان التعذيب، التي لا تخطر على خيال أحد.

وحتى أن الإسلام لم يعرف معنى (الوطن)، ولذا ليس من يقتل دفاعاً عن وطنه، يحصل على وسام الشهادة ولقب الشهيد، فالشهيد هو فقط من يقتل في سبيل الله، و(في سبيل الله) لا تعني إلا في سبيل الدين، وليس في سبيل الوطن، وكما أشرت لم يعرف القرآن أصلا مصطلح (الوطن) ولا (البلد)، بل هناك مصطلح (القوم/ جمعها أقوام)، و(الأمة/ جمعها أمم)، و(القرية/ جمعها قرى). ولذا فإن ما تدعيه أحزاب الإسلام السياسي بعدم اعترافها بالوطن، بل حصرا بالأمة، أي (الأمة المسلمة)، هو مطابق لمراد القرآن كليا.

والبعض يستشهد بـ (وثيقة المدينة) على اعتماد محمد لمفهوم المواطنة، والإقرار بالتعددية والتعايش، فهذا كان في البداية، قبل أن تقوى شوكة الإسلام، ولذا نقضها النبي بعد أن أصبح الإسلام قويا. وسبب نقضه لها، حسبما يدعي المسلمون، هو أنه انتهت إلى مسامعه معلومات بتآمر اليهود على الإسلام والمسلمين، فكان هذا مبررا لإبادة بني قريضة، إبادة جماعية لرجالهم، وسبي نسائهم. ثم الإسلام بعد فتح مكة وبسط نفوذه على الجزيرة، كان قد ألغى التعددية الدينية كليا، حيث وجب على جميع سكان الجزيرة أن يدخلوا الإسلام ويشهدوا بالشهادتين، سواء عن قناعة، أو حقنا لدمائهم، مما أدى إلى بروز ظاهرة ما أسماه القرآن بالنفاق والمنافقين.

ويعتبر البعض سن وإقرار النبي لمبدأ البيعة في تولي الحكم، بحيث طبقها على نفسه في المدينة، ليعمل بها بعده الخلفاء الراشدون، وخلفاء بني أمية وبني العباس، مما يعني أنه لم يتول الحكم خليفة نصب بأمر الله، ويستدل هذا البعض على اعتماد الإسلام على يد نبيه لأهم مبدأ من مبادئ الدولة المدنية، وهي أن الشعب هو مصدر السلطات، ولنسلم إنها كانت فعلا بادرة حضارية. لكن هل يعتقد أحد أنه كان هناك من يجرؤ على رفض المبايعة؟ ثم الخلفاء من بعد محمد خاصة في الدولتين الأموية والعباسية، وما تبعهما، بل حتى في ظل الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل، كانوا يمثلون سلطة مستبدة، ولم تكن البيعة إلا شكلية وجبرية. وإلا لماذا قُتِلَ الحسين بسبب رفضه لمبايعة الخليفة الأموي الثاني؟ ومن قبله من لم يبايع الخليفة الأول اعتبر مرتدا عن الإسلام، وحورب وقتل. وعندما أذكر هذه الأمور كحقائق تاريخية، لا يعنيني ما يستند إليه الشيعة إلى أحقية الخلافة لأهل البيت، فلست معنيا بالتشيع ولا بالتسنن.

صحيح هناك ما يدل على جواز اجتهاد القائد السياسي. وهنا يستشهد بحادثة تروى عن محمد مع معاذ بن جبل، عندما بعثه قاضيا إلى اليمن، فقد سأله محمد بماذا يقضي، فقال بكتاب الله، فإن لم يجد، فبسنة رسول الله، فإن لم يجد، فباجتهاده، مما استحسنه النبي. فدعونا نسأل هل يا ترى، لو عاش النبي في زماننا، حيث كل وسائل التواصل، أما كان سيقول له اتصل بي، أو اكتب إلي؟ فمع البعد، ولعدم وجود وسيلة تواصل، لم يكن للنبي حل آخر.

ويستشهد هؤلاء المسلمون النافون لكون الإسلام دينا ودولة، خاصة الشيعة منهم، بموقف علي عندما رفع الخوارج شعار «الحاكمية لله»، فكان رده علي ذلك: «كلمة حق يراد بها باطل»، فيتخذونه دليلا على أن الحاكمية أمر من أمور الدنيا وهو منوط بالبشر، وباجتهاد الحاكم. فأولا إن عليا أقر أن «الحاكمية لله» تمثل كلمة حق، أي قاعدة شرعية ملزمة صحيحة من حيث المبدأ، لكنه كعارف بالقرآن، بأنه حمّال أوجه، كما عبّر، وعارف بنوايا خصمه في رفع هذا الشعار، علم أنه لو فتح باب الرجوع إلى القرآن، لكانت بداية تحاجج وتحاجج مضاد ليس لها نهاية، لأنه يعلم أن القرآن فيه ما يستطيع كل طرف أن يجد فيه ما يؤوله لصالحه. فقد أقر بأنها من حيث المبدأ هي كلمة حق، لو طبقت من أهل حق، لكن أريد بها باطل، لأن الطرف الآخر كانوا أهل باطل بالنسبة له. ثم إذا جعلنا عصمة علي التي يؤمن بها الشيعة جانبا، يمكن أن نحتمل إن عليا يمكن أن يكون قد خالف هنا باجتهاده القرآن والسنة. فهناك مؤشرات إلى أن عليا بدأ في شيخوخته يكون لنفسه فهمه الخاص للإسلام، وهكذا كل الخلفاء اجتهدوا في مقابل النص القرآني والنبوي.

إذن الكثير مما في القرآن يدل على عدم وجود إسلام غير سياسي، وآخر سياسي، بل إن الإسلام = الإسلام السياسي. نعم في واقع المسلمين، ومن حسن حظنا، ليس الإسلام مساوقا للإسلام السياسي عند كل المسلمين. ولكن لو درسنا الإسلام كإسلام، وليس كفهم وممارسة للمسلمين، فهو دين ودولة، دنيا وآخرة. وما (فريضة) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا دليل على إن من الواجب على المسلمين إقامة المعروف - حسب معايير الكتاب والسنة - بيدهم، أي بما في ذلك بالسلاح، أو إِلَّم يستطيعوا فبلسانهم، أي باستخدام وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وخطب الجمعة والمحاضرات الدينية. ونعلم على سبيل المثال إن من المنكر شرب الخمر، ومن المنكر وجود علاقة بين رجل وامرأة بدون عقد شرعي، ومن المنكر التبرج تبرج الجاهلية الأولى، أي عدم الالتزام بالحجاب، ومن المنكر التقاضي إلى غير ما يحكم به الإسلام، أي إلى القانون الوضعي، ومن المنكر مساواة المرأة بالرجل في الحقوق، ومن المنكر مساواة غير المسلم بالمسلم في الحقوق، ومن المنكر حرية الاعتقاد، بما في ذلك عدم الإيمان بالإسلام أي ما يسمى بالكفر، والإفصاح عن ذلك، حتى لو كانت العقيدة تمثل الإلحاد أو اللاأدرية أو الإيمان اللاديني، أو انتقال المسلم إلى دين آخر، ومن المنكر الفصل بين الدين والسياسة. والنهي عن كل هذه (المنكرات) لن يكون ممكنا إلا بوجود سلطة إسلامية، وبالتالي قوانين إسلامية ودولة إسلامية، إذا أريد لتغيير المنكر أن يكون بأعلى درجاته أي باليد، وإلا فباللسان، أما إنكاره بالقلب، فذلك أضعف الإيمان، ولا يكون مقبولا إلا عند الاضطرار.

لكن بما أن الإسلام متعدد الفهم، وبما أن علينا التمييز بين مسلمين ومسلمين، وبالتالي بين المسلمين والإسلاميين، وإن هناك من يفهم الإسلام مجرد علاقة بين المؤمن به وربه، لاعتقاده أن الإسلام دين الله، ولأن معظم المسلمين لا ينتمون إلى الإسلام السياسي، فنقول كعلمانيين ليبراليين، لا نعادي الدين، رغم موقف اللادينيين منا أمثاللي الناقد للدين، لا بد لنا أن نقر بوجوب احترام الحرية الدينية، ونحترم اعتقاد أتباع كل دين بدينهم، بما فيهم المسلمون، وندعو أن يكون كل من الدين، والدين الآخر، واللادين، شأنا شخصيا لا يقحم في شؤون الدولة والسياسية وشؤون الحياة العامة، التي من طبيعتها لا علاقة لها بالدين.

  كتب بتأريخ :  الجمعة 16-09-2022     عدد القراء :  870       عدد التعليقات : 0