الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
الدستــور والحــــريات
بقلم : زهير الجزائري
عرض صفحة الكاتب
العودة الى صفحة المقالات

بجملة قصيرة من ست كلمات حدد دستور العراق الجديد كفالة الدولة لحرية الصحافة. وقد ورد هذا النص في المادة 36:

(تكفل الدولة وبما لايخل النظام العام والآداب:

أولا- حرية التعبير عن الرأي وبكل الوسائل

ثانيا ـ حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر).

إختيار هذه المادة للتعديل في لائحة “عهد العراق” ومعهد الدراسات هام واساسي.

على قصر النص الدستوري واختزاله أمامنا مدخل هام من أجل الصراع. فالحق في حرية التعبير دعامة أساسية للديمقراطية. وفي جو الكبت والحياة السرية،كما علمتنا تجربتنا المريرة, تزدهر انتهاكات حقوق الانسان ويزدهر الفساد والمافيات والجريمة المنظمة. لا يقتصر الأمر على السلطة وحدها إنما سينقل الكبت عدواه الى الأحزاب التي تعارضها حيث روح الشك بالآخر ستقتل امكانيات الجدل والتطوير وتقوي المركزية المشددة والسرية المطلقة. مقابل ذلك تساعد الحرية على التحقيق في الانتهاكات وكتابة التقارير عنها وإخضاع المؤسسات للمساءلة من قبل الجمهور. وتوفر حرية الصحافة للجمهور واحدة من أفضل الوسائل لإكتشاف الرأي وتشكيله والتعرف على افكار الزعماء السياسيين , كما تعطي للسياسيين الفرصة لمعرفة آراء الناس والتعليق عليها ’ لذا تمكن كل فرد من المشاركة في النقاش السياسي الحر الذ ي هو جوهر وديناميكية المجتمع الديمقراطي.

أمامنا نص دستوري هو، على قصره، مهم كبداية. ولكن على أهمية النص في تعريف المواطن بحقه سنجد أن الدستور يشكل تراجعا في هذا المجال وبالتحديد بحذف الفقرة التي تضمنتها المادة 11من قانون إدارة الدولة الانتقالي التي تربط كفالة هذه الحقوق بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وتنص المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 10-12-1948:

على أن: لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت، دون تقيد بالحدود الجغرافية.

وتم تطويرالإعلان بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي أقرته الجمعية العامة في 16-1-1966 ليدخل حيز التنفيذ في 1976:

1ـ لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة

2ـ لكل إنسان حق التعبير ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والافكار وتلقيها ونقلها الى آخرين دونما اعتبار للحدود سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو بقالب فني أو بأية وسيلة أخرى.لم تكن هذه الحرية مطلقة فقد أخضعت لقيود:

1ـ تحظر بالقانون أية دعاية للحرب

2ـ تحظر بالقانون أية دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف.

ووراء هذه الحرية ومحدداتها إرث عالمي ومحلي تاريخي. فقد ولدت الحرية والرقابة مثل توأمين متعارضين. الشروط التقليدية (:على أن لا تخل بـ : الأمن الوطني، التقاليد والآداب العامة، السمعة الشخصية...) وردت في معظم الدساتير.

وقد كان هذا التعارض بين الحرية وشروطها موضوع صراع بين السطة والمواطن وساحة الصراع الأساسية هي الصحافة باعتبارها أداة رقابة المواطن على السلطة.

لم تتخل السلطة عن شروطها ولم تتخل الصحافة عن حقها في التعبير وحاولت إرغام السلطة على تحديد الممنوع بقانون وتقديم تبرير واضح لهذا الممنوع، وبذلك ألقت المسؤولية على المانع قبل الممنوع بحيث تكون الحرية هي القاعدة. وقد وضع الدستور العراقي المحددات (بما لايخل...) قبل الحريات. ولكن لدينا المادة 44 التي تسند حق التعبير على حساب الممنوعات إذ نصت على أن (لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور وتحديدها إلا بقانون أو بناء عليه على أن لا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية).

ولكن الخطر يكمن في العبارة حمالة الأوجه (الآداب العامة). من يحدد الآداب العامة وماهي الآداب العامة في مجتمع متعدد الأديان والقوميات والقوى، والأخطر من ذلك كونه متعدد المليشيات؟ وللرقابة كما نعرف ألف وجه. رقابة الدولة ورقابة المؤسسات الدينية ورقابة المجتمع.. كل هذه الرقابات ستكون سلسلة من الحتميات في داخل الصحفي وتزيد مخاوفه من الرقابات غير المنظورة في مجتمع لم تتوضح بعد قواه الحقيقية ولم تتوضح بعد القوى الظاهرة عن المستترة ولا الحدود بين المصالح المعلنة والخفية في أحزاب نشأت وتكونت في مخابئ العمل السري , وزاد من تعقيد الصورة المؤثرات الإقليمية والدولية على هذه القوى. لذلك تبقى مصادر الخوف خفية اي متناسلة.

إرث الحرية

ومقابل تعدد أوجه الرقابة فإن لحرية التعبير جانبين متلازمين هما:

ـ حرية استقاء المعلومات والآراء والحصول عليها

- وحرية تداولها بمختلف الوسائل وابرزها وأكثرها شيوعا الاعلام بأشكالة المكتوبة والمسموعة والمرئية.

ومن المعروف إن االمعلومات ليست مجرد سلعة ذهنية، إنما هي قوة، قابلة لأن تتحول الى أفعال وعادات ومثل حالما يتم تداولها. وما من جهة تملك قوة المعلومات وتتخلى عنها طواعية للآخرين. ولذلك كان الحصول على المعلومات موضوع صراع بين الدولة والمواطنين.

ولدينا في الصراع من أجل حرية التعبير أمثلة نيرة. فاذا عدنا الى الكلاسيكيات الادبية امامنا معلم كبير هو أبو عثمان الجاحظ الذي عمل المستحيل خلال القرن التاسع للميلاد لكي يبقي صوته مستقلا عن الدولة حتى وهو يكتب عنها ولها. لقد نقل لنا بصور جلية الجوانب الخلافية داخل البلاط العباسي وعكس التوترات الطائفية التي نشهد اليوم مثيلا لها في مجتمعنا الحاضر، كما نقل لنا بؤس القاع الاجتماعي بما فيه من بخلاء وبرصان وعميان وجوار وقيان.

وكانت حرية التعبير بالنسبة لاوائل الصحفيين في العشرينات مطلبا جديا يوازي الاستقلال الوطني ويتداخل معه في الصراع مع سلطة الاحتلال، فقد كان ضيق حرية التعبير ومنع اصدار اية صحف غير الصحف الحكومية سببا من اسباب سخط المثقفين الذين تفتحوا على الثورة الدستورية وتوسموا نوعا من الانفراج في ظل الاحتلال الانكليزى.

وفي مقابل فضاء الحرية شهد العراق تاريخا مريرا من الكبت الذي يقوم على اعتبار الصحافة صوت الدولة. فقد كانت ساعة الصفر في كل الانقلابات العسكرية هي الاستيلاء على جهازين: جهاز القمع الممثل بالجيش والاجهزة الامنية وجهازالاعلام الممثل بالاذاعة والتلفزيون.

مهمة الجهاز الاول السيطرة على الدولة بواسطة القوات العسكرية، ومهمة الجهاز الثاني اعطاء المشروعية للانقلابيين امام الناس.

ومثل كل الانقلابات السابقة بدأ البعث عند وصوله الثاني للسلطة في 17تموز 1968 بالهيمنة على أجهزة الاعلام. كنت أعمل في الصحافة المكتوبة حين وصلنا الشاعر شاذل طاقة في صباح الانقلاب الأول واملى علينا مانشيت الصفحة الأولى (ثورة بيضاء). وفي اليوم الثاني ظهرت كل الصحف العراقية وهي تحمل هذا المانشيت الموحد برهانا على وحدة الصوت الموجه.

بعد 6 أشهر من وصوله للسلطة أصدر البعث قانون المطبوعات الذي ينص على إلغاء كافة إجازات الصحف الدورية والغاء كافة اجازات مراسلي الصحف والمجلات ووكالات الانباء وربط هذه الاجازات بوزارة الثقافة والاعلام

الفورة الإعلامية

بعد سقوط نظام الحزب الواحد والفرد الواحد والصوت الواحد شهد عراق ما بعد صدام حسين انفجارا اعلاميا:

كميا: قفز العدد من خمس صحف يومية ((الثورة ,الجمهورية, العراق, القادسية, بابل)) الى اكثر من 150 صحيفة يومية واسبوعية وشهرية.

توجيهيا:كانت كل الصحف تأخذ توجيهاتها من مركز واحد، هو مكتب الثقافة والاعلام التابع لحزب البعث العربي الاشتراكي.

وبعد ان كانت الصحف تتلقى توجيهاتها من مركز واحد تعددت مراكز التوجيه الى اكثر من 260 حزبا ومنظمة اعتمدت الصحافة وسيلة لتسويق نفسها للجمهور. ولكن هذه القفزة الكمية والحرية النسبية حدثت في غياب بيئة قانونية أو مواثيق شرف، ففي غياب هياكل مستقلة تحمي حرية الصحفي وترسم مسؤولياته. وفي غياب الحدود الواضحة بين الدولة والسلطة سواء في ثقافة الصحفي أوثقافة المسؤولين يتعذر فهم مهمة الصحافة كحارس على المصلحة العامة ومراقب على الاداء الحكومي، ويتعذر تحولها الى ضمانة للافراد في مواجهة سلطة الدولة.

ورغم تأكيدات قانون إدارة الدولة الانتقالي على حرية واستقلالية الصحافة إلا إن التغيرات التي شهدتها الصحافة الممولة من المال العام تعكس استمرارية النظرة التي ترى في الإعلام مرآة للحكومة الراهنة.

وقد كانت الموضوعية الصحفية امام امتحان جدي خلال الحملات الانتخابية حيث تشتد روح المنافسة والاستقطاب. حقا ان الصحافة الجديدة التزمت بالمبادئ العامة التي تتمثل في عدم اثارة الكراهيات العرقية والدينية، لكنها اخفقت في اعطاء المتنافسين حصصاً متكافئة.

وسيتغير اتجاه التغطية، سواء في تغطية المناسبات العامة أو في تغطية النشاطات السياسية بعد وصول حكومة الجعفري. وتعكس التغيرات الدراماتيكية التي شهدتها جريدة (الصباح) استمرارية المزاج الانقلابي الذي حكم الصحافة تبعا للتغيرات في ميزان القوى داخل التحالف الحاكم وفي عزلة كلية عن العاملين في هذه الأجهزة. وينبغي ان نرى هذا الخلل على الخلفية التاريخية التي كان الصحفي فيها موظفا عند الحكومة وعليه ان ينفذ ارادتها، وكانت الصحافة على الدوام مراة للسلطة الحاكمة.

دستور الأمر الواقع

وفي عودة الى الدستور لم تكن حرية التعبير جديدة على الدساتير العراقية. فالمادة 12 من دستور 1925 والمادة 13 من قانون إدارة الدولة توكدان على كفالة حرية التعبير ومنها في الصحافة. وفي أول عدد من جريدة الوقائع الرسمية التي صدرت بعد الاحتلال (العدد 3977 بتاريخ 17 حزيران 2003 أصدر الحاكم العسكري مدير السلطة الموقتة بول بريمر اللآئحة التنظيمية رقم 1 ووصولا إلى (قانون إدارة الدولة) الذي نص في م 11 على أن الحريات العامة مصانة وللناس الحق بحرية التعبيرعن الرأي وحرية الصحافة كما جاءت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

الدستورالعراقي الجديد كان حصيلة هذا الجو الملتبس الذي حكم العراق منذ سقوط نظام الكبت، الجو الذي تراوح بين الرغبة في الحرية والخوف منها، وهو حصيلة توازن القوى في النخبة الحاكمة، ولكنه قبل كل ذلك يعكس الى حد كبير قصور الإعلاميين والتنظيمات الإعلامية في الضغط من أجل صيغة أكثر وضوحا للحريات الصحفية.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 12-12-2022     عدد القراء :  816       عدد التعليقات : 0