الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
علمانية انتخابية

عشية كل انتخابات، يستبق كتَبة كثيرون موعدها بشهور، في الحديث عن العلمانية والعلمانيين، فيتوزعون بين قائل إن صدام حسين وهتلر وبوش علمانيون فلا ينبغي إحياء مبدئهم البغيض في بلادنا، وبين قائل إن المبدأ الذي يُدخل الدولة في هيمنة الدين ورجاله وفتاويه باطل واستبدادي وفاشل ويضرب امثلة كثيرة من اوروبا الكنسية الى دويلات الصومال وافغانستان وخلافة داعش وتجارب مجاورة تتخبط في الاستبداد والخرافة والتخلف،

وبين قائل (ثالث) بالدعوة الى "علمانية عراقية" تحقق مصاهرة ومصالحة بين الدين والدولة، وان تجربة ما بعد الاحتلال وسقوط الدكتاتورية هي الوصفة المناسبة لدولة المستقبل في العراق.

ولا ينطوي على مغامرة استباق تشكيل القوائم المتنافسة (الدينية خاصة) التأكيد الجازم انها ستضم مرشحين علمانيين، وربما علمانيين بالعلن، ودينيين بالسر، كما حصل بالنسبة لمرشحين "مستقلين" في انتخابات 2021 سرعان ما تبيّن ان "الاستقلال" من بعض "غواشي العيون" وافرازات الملعب، وسنجد (بالمقابل) قوائم علمانية تتجنب الدعوة الى خيار الفصل بين الدين والدولة، وقوائم اخرى تحرض المواطنين ضد العلمانية وتتهم اصحابها بالتخطيط لهدّ دور العبادة ومزاراتهم.

وشأن أي قاعدة من قواعد بناء الدولة الحديثة (كالديمقراطية والليبرالية واستقلال القضاء والانتخابات) فقد عُرفت العلمانية في المجتمعات الصناعية عندما نأت عن الدولة الدينية التقليدية ووضعت مصدات للطغيان السياسي للكنيسة، وبدت طوال مئات السنين انها ظاهرة اوروبية لا تصلح للتطبيق "النصّي" في المجتمعات الشرقية الاسلامية، بل انها عُرضت (او تُرجمت) مشوهة في الكثير من المطالعات اما في محاولة تعقيدها ورفضها بوصفها "نعرة الحادية وكافرة" او لغرض تبسيطها المفرط باعتبارها اجراءات شكلية تنظيمية بصدد وظائف ادارية محضة للمؤسستين الدينية والسياسية.

غير انه من الخطأ القول بان الدعوة الى (وحتى ممارسة) شكل من العلمانية وحالات الفصل بين الاختصاصات لم تظهر في المجتمعات الاسلامية إلا في مراحل متأخرة، فان بعض معارضي الدولة الاموية، مثلا، عندما بايعوا معاوية خاطبوه بالقول: "نحن للأمة في أمور دينها وأنت للأمة في أمور دنياها" كما ان ثمة الكثير من الحالات كان فيها التشريع يجري مجرى الفصل بين مؤسستي الخلافة والفقه، وهو التعبير عن استحالة اقامة دولة (او حاكمية) دينية آنذاك، فكيف بها في العصر الراهن.

وإذْ فسرت المعاجم المعتمدة العلمانية بأنها: "مفهوم سياسي يقتضي الفصل بين المجتمع الديني والمجتمع السياسي حيث لا تمارس الدولة أية سلطة دينية ولا تمارس دور العبادة أية سلطة سياسية" فان المصلح الكبير محمد عبده شاء ان ينطلق من هذا التعريف الى القول "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين" فيما اعاد سعد زغول توليف الدعوة بمقولته الشهيرة "الدين لله والوطن للجميع" ولا غرابة ان تنطلق الدعوة الى العلمانية في الشرق الاوسط مبكرا في مصر وعلى يد كتابها البارزين مثل فرح أنطون وجورجي زيدان وقاسم أمين وطه حسين وغيرهم، وكان واضحا من خلال ارث هذه الدعوة بان العلمانية هي النظام السياسي المناسب لمجتمع لا يشعر فيه اتباع ديانة بالتمييز او الظلم.. وبهذا المعنى نستطيع ان نرفع المزدوجين عما سمي بالعلمانية العراقية.. ولنا في هذا الخيار خلاص من الدوامة، وفي غيره عاقبة.. وما أدراك ما العاقبة.

استدراك:

"حتى يد القيصر له خمسة أصابع".

مثلٌ روسي

  كتب بتأريخ :  الأربعاء 28-12-2022     عدد القراء :  495       عدد التعليقات : 0