الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
التسفُّلُ أيسرُ من الترفّع

لبث كتاب (نظام التفاهة) لمؤلفه الكندي (آلان دونو) ينتظر طويلاً دَوْرَهُ في قائمة قراءاتي، ثمّ حصل وقرأته فوجدته كتاباً رائعاً بأعلى المواصفات التي يرجوها قارئ من كتاب. التوصيف الاكاديمي لمؤلف الكتاب ينبؤنا أنه فيلسوف في النظرية السياسية ويعمل أستاذاً في جامعة كيبيك الكندية؛

لكنّ قراءة دقيقة للكتاب ستجعلنا نقتنع أنّ المؤلف مستكشفٌ دقيق للثقافات (وربما الاصح: الممارسات) السائدة في عصرنا والتي صارت لها الغلبة والسطوة والفعل الاعلى في التأثير وتشكيل السلوكيات الفردية الجمعية. لن يخفى على القارئ ميزة بيّنة إختصّ بها هذا الكتاب وهي أنّ مترجمته الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري أضافت للكتاب قيمة معتبرة عندما قدّمت له - وعلى إمتداد مايقاربُ السبعين صفحة من أصل صفحاته الثلاثمائة والست والستين – مقدمة رائعة مكتوبة بلغة عربية متينة تذكّرُنا ببديع صنائع أوائل التنويريين العرب. لعلّ الخلفية القانونية للمترجمة هي التي أعطتها هذا الزخم المعرفي؛ لكني أوقنُ أنّ الامر أبعدُ من محض معرفة قانونية. إنه الشغف وحبّ المعرفة وامتلاك دافع نبيل لتقصّي التفاصيل الدقيقة في أبعد مظانها.

إستوقفتني عبارة وردت في مقدمة الدكتورة الهاجري تقول فيها (التسفّل أيسر من الترفّع). صعودُ مرتفعٍ ما أشقُّ على النفس من نزوله: أنت في الصعود تختبرُ عنتاً ومشقّة تتطلبان حزماً ومجالدة ومعاندة لقانون الطبيعة الذي يجذبك إلى الاسفل؛ لكنك في الهبوط لاتحتاجُ إلا لأن تطاوع الطبيعة التي ستجرّك جراً نحو الاسفل. هذا في المحاكاة الفيزيائية. أظنُّ أنّ الامر يسري على الحقل الاخلاقي كذلك.

حكى لي صديق بغدادي في ثمانينيات القرن الماضي حكاية عن إبنه، ويروق لي نقلها إليكم لدلالتها في كيفية تشكّل النسق الاخلاقي في حياتنا. قال لي هذا الصديق أنّ إبنه ومنذ بواكير نشأته الاولى لم يكن يرتضي أن يستقل (باص المصلحة) ويفضّلُ العودة للمنزل مشياً على الاقدام لكي لايضطر لدفع سعر البطاقة (برغم ضآلته!!). كان لايطلب لنفسه شيئاً من المال ولم يكن يرتاح لطلب قميص أو سترة أو بنطلون. يقول الصديق أنّ إبنه كان يرى العيب كله في طلب مال من أبيه أو أمه حتى لو كان دراهم معدودات. فضلاً عن هذا لم يكن يرتاح لركوب سيارة المنزل لأنه كان يُعِدُّ هذا الفعل سلوكاً طفيلياً لايليق بإنسان حرّ ذي كرامة!!، وعندما أضطرً لاحقاً لركوب السيارة ألزم نفسه بكفّارة تتمثلُ في القراءة الدقيقة لكيفية عمل محرّك الاحتراق الداخلي. تمثلت قناعته في أنّك عندما تستخدمُ آلة صنعها غيرك بجهده وعبقرية أفكاره ففي الاقلّ عليك أن تعرف شيئاً عن هذه الافكار لاأن تكتفي بالاستمتاع الطفيلي بها.

هل ترون هذا الامر غريباً؟ ربما غرابته تكمن في ندرته واستثنائيته وليس في طبيعته النبيلة. الاغرب هو التالي. يقول الصديق البغدادي أنّ إبنه أضطرّ لركوب باص المصلحة والعودة للبيت في يوم مطير كثر فيه قصف الرعود. عندما عاد للمنزل بدت عليه الهموم الثقيلة، وبعدما سأله أبوه عن السبب وراء ذلك أخبره أنّ التزاحم في الباص منعه من دفع ثمن البطاقة. يقول أبوه أنه برغم أنّ محصلي البطاقات في الباصات كانوا يتغاضون عن إستلام الاجرة من صغار السن لكنه عرف أنّ هذه الحقيقة لن تطفئ هموم إبنه؛ فقال له أنه سيأخذه في اليوم التالي إلى المركز الرئيسي لمنشأة نقل الركاب في باب المعظّم لتسديد ثمن البطاقة، وهذا ماحصل. يعقّب الأب بأنّ المسؤول في المنشأة أكْبَرَ كثيراً فعلة الابن وقال له: إبني، هذه البطاقة (فدوة) لك. أمانتك تكفي؛ لكن الابن لم يقبل إلا أن يدفع ثمن البطاقة (عشرة فلوس!!). أخبرني الاب بأنّ الامر سرّه كثيراً عندما رأى أسارير وجه إبنه تنفرج بعد إنزياح الهم عن قلبه.

هذه الحكاية أطروحة فلسفية كاملة. هذا الابن مثالٌ حيّ لنمطٍ قليل من البشر لايرتضي بالفعلة الشائنة مهما صغرت لأنه يرى فيها إنتقاصاً لكرامته الشخصية وثلمة في شرف وجوده الانساني. هذا النمط من البشر يصنع نسقه الاخلاقي بجهده الذاتي ويعرفُ أنّ غضّ الطرف عن الموبقات الاخلاقية (غير المرئية) للناس سيترتّبُ عليه ضمير معذبٌ هو أسوأ مايمكن أن يبتلى به هذا الصنف من البشر؛ لذا فهؤلاء ليسوا في حاجة لقانون مكتوب: ضمائرهم هي قانونهم العلوي الحاكم. الأخلاق عند هؤلاء صناعة تُنسَجُ نسجاً صبوراً، وتُستَحصَلُ بمشقة، ولاتُزدَرَدُ إزدراداً كأنها أمثولات تراثية أو فقهية جاهزة.

في القطب المقابل لهؤلاء الطهرانيين يمكث المتسافلون – هؤلاء الذين لاتستطيب لهم الحياة إلا بمقدار مافيها من جرعة حيلة ومراوغة وافتئات على حقوق الآخرين. هؤلاء مجبولون من طينة تجد راحتها في السرقة وتهديم مكامن الجمال السلوكي والرفعة الاخلاقية في الحياة. التسافل عندهم خصيصةُ عيشٍ أدمنوها لأنها قرينة الفعل اللحظي السريع غير المتطلب للجهد والمشقة. إنهم كائنات إعتادت العيش الطفيلي على مخلفات الحياة ولم يعُد بمقدورها تلمّسُ البهجة الكامنة في العمل والانجاز والسلوك المقترن بالمروءة والنزاهة والانضباط الشخصي.

أشكال التسفّل كثيرة، وقد خَبَرْنا كثرة منها في العراق. ثمة قناعة شاعت في أوساط بعينها أباحت لها تبهيت (من البهتان) الخصم ووصمه بما ليس فيه تحقيقاً لمآرب محدّدة هي في جوهرها مناكفات حزبية تكشف عن جوهر الطبيعة الصراعية للحياة السياسية العراقية؛ أما بعد 2003 فقد ضرب التسفّل كلّ مفاصل الدولة والحياة العراقية حتى صرنا نسلم بالأمر على اعتبار الفساد حقيقة معترفاً بها ومقبولة وتقع خارج نطاق المساءلة القانونية المفضية لعقوبة مُغلّظة. الامريكيون ليسوا غشماء عندما فتحوا مغارة (علي بابا) العراقية بكلّ خزائنها المليارية أمام أناس جشعين للمال والسلطة. أظنّ أنّ الامريكيين يضحكون ملء أشداقهم وهم يرون هؤلاء الجشعين يتكالبون على تخريب بلدهم وعبّ جيوبهم بمال مسروق. أوقنُ أنّ الامريكيين يقولون في سرّهم: خرّبوا ماشئتم في بلدكم فهذا الذي نريده، ثمّ عندما تكمل مسيرة التخريب سنأخذ ماسرقتموه بقانون مشرعن. ستكونون حينئذ أنتم اللصوص الذين خرّبوا بلدهم، وسنكون نحن، أو سنبدو في الاقل، من أراد الحفاظ على المال العراقي.

يحزنني كثيراً – مثلما يُحْزِنُ كلّ عراقي حقيقي– أنّ هذا العراق جاهد لتحقيق نقلة حضارية بجهود شاقة خيّرة من أبنائه الحقيقيين، ثمّ عندما حان وقت الانعطافة الكبرى ليتبوّأ بعض إستحقاقه في الخارطة العالمية أدخلته العصبيات السياسية في دهليز مظلم، ثمّ أكمل من جاء بعد 2003 مسيرة الخراب عندما شرعنوا الفساد وجعلوه سلوكاً محمياً بسطوة السلاح والقانون. أضاف حكّامُ مابعد 2003 الخراب المالي والمؤسساتي إلى الخراب الناجم عن المناكفات السياسية والعماء الايديولوجي. إنتقلنا بعد 2003 من شبه الدولة إلى اللادولة.

لكنّ حقيقة راسخة يجب أن لاتغيب عن بالنا: ليس مِنْ متسفّل إلا وسيلقى نهايته الشائنة. مَنْ عاون المتسفلين على تخريب بلدهم هو وحده من يمسك بمفاتيحهم. المتسفّلُ مكروه، ولم نسمع أنّ أناساً مكروهين مكثوا جاثمين على رقاب الناس إلى آجال مؤبدة. لابدّ للتسفّل من نهاية. هذا هو القانون الطبيعي الذي يحكم البلدان والافراد معاً.

  كتب بتأريخ :  الأحد 21-05-2023     عدد القراء :  861       عدد التعليقات : 0