الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
المدى نافذة ضوء في زمن العتمة

في الخامس من آب الجاري تحتفل صحيفة المدى بالذكرى العشرين لصدورها في بغداد. وحقيقة ان الاحتفال بهذه المناسبة يتعدى العاملين بالجريدة والمواظبين على قراءتها ليمتد إلى أوساط اجتماعية واسعة، ترى في الجريدة منبرا مهما وصوتا عاليا للتنوير ومواجهة الخراب وقوى الظلام التي تحاول تأبيد ما هو قائم، وتقمع كل الجهود الساعية لنشر قيم الديمقراطية والتقدم والسلام والثقافة الحرة.

ومن الضروري بهذه المناسبة تناول بعض من عوامل وأسباب نجاح المدى، والتي منها: مثابرة وجرأة القائمين على الجريدة والعاملين فيها، بالإضافة إلى ان المدى جريدة ليست منقطعة الجذور، بل تمثل أحد الامتدادات المهمة لتاريخ وتقاليد الصحافة التقدمية والديمقراطية العراقية، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وإلى يومنا هذا. وإلى جانب ذلك تستند الجريدة إلى التراكم الذي حققته مؤسسة المدى التي انبثقت خارج العراق وتحولت خلال سنوات معدودة إلى واحدة من اهم المؤسسات الثقافية المستقلة في البلاد العربية. وتنهل الجريدة ايضا من معين النشاط الثقافي المتنوع لمؤسستها، والذي يوفر مادة مهمة لصفحاتها الثقافية المتنوعة. وكذلك لامتلاك الجريدة لشبكة من المراسلين داخل العراق وخارجه.

انطلقت جريدة على ايدي نخبة مميزة من الشخصيات اليسارية والديمقراطية العراقية، فإلى جانب رئيس تحرير الجريدة الأستاذ فخري كريم يمكن الإشارة، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أسماء صحفية ورموز ثقافية وابداعية رافقت الجريدة في انطلاقتها الأولى مثل زهير الجزائري، سلوى زكو، الراحل عدنان حسين، وسهيل سامي نادر، وغيرهم الكثيرين.

وحظيت المدى باهتمام مجموعة من الكاتبات والكتاب البارزين على الساحتين السياسية والثقافية، فكان من بين كتاب الجريدة الراحل الدكتور كاظم حبيب والراحل فالح عبد الجبار والشاعر فاضل السلطاني، وزميله الراحل فوزي كريم، والروائية لطيفة الدليمي والمفكر الإسلامي هاني فحص، والباحث رشيد الخيون، وغالب الشابندر وآخرون.

العينة التي اشرت اليها تعكس ميزة أخرى للمدى الجريدة والمؤسسة الثقافية أيضا وأعني بها الانفتاح الحقيقي على التنوع مع الحفاظ على هوية الجريدة ومنهجها، في زمن حاولت فيه القوى المهيمنة فرض الصوت الواحد واللون الواحد، وبهذا ساهمت المدى في كسر الحصار على حرية الراي وعلى التنوع الفكري والثقافي.

وقدمت المدى حزمة من المبادرات على شكل ملاحق ومطبوعات أخرى لاستنهاض الذاكرة العراقية، وتعريف الأجيال الجديدة من الناشطين والمثقفين والمهتمين بالعديد من الشخصيات العراقية التي لعبت دورا رياديا في النشاط السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي في العراق المعاصر. ولقد كان المنهج هنا أيضا واضحا: العودة إلى الينابيع الصافية التي شكلت أساس الهوية الوطنية الديمقراطية العراقية، وتنوع الثقافة العراقية، بعيدا عن التعصب والانغلاق بكل اشكاله طائفيا كان ام قوميا او جهويا، ولعل سلسلة ذاكرة عراقية وفعاليات اصبوحة المدى في شارع المتنبي خير مثال على ذلك. وفي هذا كله كانت المدى موضوعية ومنفتحة ومتنوعة.

وفي بلد محكوم والعنف والاغتيالات والخطف والقمع والجيوش الموازية، كانت المدى جريئة في تناولها لهموم الأكثرية المضطهدة والمغيبة في عراق اليوم. واستطاعت الجريدة ان تكسب ثقة الكثيرين من خلال الدقة في صياغة الخبر، وتسليط الضوء دون وجل وتردد على الملفات الساخنة مثل ملفات الفساد والصفقات المشبوهة، ويمكن هنا الإشارة إلى الجرأة في كشف ملف كابونات النفط والشخصيات المتورطة فيه. وفي دفاعها عن حرية الرأي كانت الجريدة سباقة لاحتضان نشاط العديد من المنظمات والمبادرات التي دافعت عن كل ما هو إيجابي في تاريخ الدولة العراقية على مستوى التشريع. وعندما انبثقت الحركة الاحتجاجية عبر نسخها المتوالية من تظاهرات 25 شباط 2011، مرورا باحتجاجات عام 2015، وصولا إلى انتفاضة نشرين 2019 المجيدة، كانت المدى أحد المنابر الإعلامية الهامة التي رافقت الحراك الاحتجاجي، وفضحت محاولات اختزاله وتشويهه، وعرفت بشهدائه ورموزه.

وغني عن القول ان المدى تمتاز بأعمدتها الصحفية التي شارك ويشارك في كتابتها نخبة من أفضل كتاب العمود في العراق، هذا إلى جانب الترجمات المتنوعة السياسية والثقافية، والأخيرة تهتم بتعريف القارئ في العراق وخارجه بنتاج الثقافة العالمية، التي ظلت لعقود طويلة بعيدة عن متناول العراقيين، ويمكن هنا الإشارة إلى سلسلة التعريف بجائزة ونوبل والحائزين عليها.

وبودي بهذه المناسبة التعبير عن سعادتي للمساهمة المتواضعة في المدى خلال الأشهر الأخيرة. وان أتوجه بالتهنئة لهيئة تحرير الجريدة وجميع العاملين فيها، متمنيا لهم النجاح في جهدهم المقبل وان تظل المدى نافذة للضوء والتنوير، ومنبر للقيم الإنسانية في الحرية والسلام والديمقراطية والتقدم.

  كتب بتأريخ :  الأحد 06-08-2023     عدد القراء :  1146       عدد التعليقات : 0