الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
(نحن) و (هُمْ): المعادلة العراقية المؤبّدة

العراق الحديث صناعة بريطانية. ليس هذا عيباً أو منقصة. كلّ الدول هي صناعة حديثة نشأت مع انبثاق مفهوم الأمة - الدولة Nation – State في القرن التاسع عشر. نشأ العراق الحديث (وأقصد هنا العراق ككينونة سياسية وليس العراق الرافديني المتداول في المخيال الشعبي)

كواحد من مخرجات إتفاقية سايكس بيكو التي رسمت الخريطة الجيوسياسية الشرق أوسطية. يمكنُ أن نتحدّث كثيراً عن سياسات تآمرية أرادت الشر بنا؛ لكنّ واقع الحال ينبئ بأنّ الارادة السياسية التي تدعمها دولة راسخة الاركان يمكنُ أن تحقق إنجازات ملموسة على الارض. ثمة دولٌ قريبة من الجغرافية العراقية حقّقت خطوات مشهودة في تعزيز قدرات تمكين الدولة أكبر بكثير ممّا حصل في العراق. ظلّت الدولة العراقية غير ذات معالم واضحة؛ أو لنقل بشكل أكثر دقّة: ظلّت الدولة العراقية طفلاً صغيراً منقاداً إلى السياسات الحكومية، وهنا نشأت لدينا معضلة بنيوية خطيرة تكمنُ في أنّ المواطن العراقي لم يصدّق يوماً بأن أدوات الدولة المستقرّة من دستور وقضاء مستقل وفصل حقيقي للسلطات يمكنُ أن يكون ضمانة حقيقية له في عيش حياة متطلعة إلى المستقبل ومنفتحة على كلّ أشكال الارتقاء في نظم الحكم وتبدّل أحوال السياسات العالمية على كلّ الأصعدة وبخاصة في جانبي الاقتصاد والثقافة. كان هذا التشوّه في شكل " الدولة " العراقية هو السمة السائدة في حقب ماقبل 2003؛ أما ماحصل بعد ذلك فهو غياب كامل للدولة العراقية الخديجة وضياع كلّ مناقبها " المفترضة " وافتراسها من قبل غول يلعب خارج نطاق الدولة والحكومة. نشأ لدينا بعد عام التغيير العراقي 2003 " لوياثان " عراقي متغوّل مدعوم بقدرات جبارة من مال وسلاح يستطيع بهما منافسة قدرات الدولة التي يفترضُ فيها، وبموجب المفاهيم القارّة للدولة الحديثة، أن لايعلو على قدراتها شيء. الدولة هي السقف الأعلى للقدرات المالية والعنفية. الدولة الحقيقية، وليست الدولة الافتراضية أو الاسمية Nominal State كما في الحالة العراقية، هي الوحيدة التي تحتكر الحق الحصري لاستخدام العنف. دخل العراق بعد عام 2003، وبكيفية تدريجية ممنهجة، نطاق "اللادولة" التي إنفلتت معاييرها بشأن الاستخدام الفوضوي للعنف واستباحة المال العام. صار العراقيون يعيشون يومياً منظومة "اللادولة " التي تتبدّى مظاهرها في كلّ النطاقات المؤثرة على معيشهم اليومي.

لو سُئلتُ ماهي الخطيئة الكبرى – بين الخطايا الكثيرة – التي إرتكبها نظام اللادولة في عراق مابعد 2003 فسأجيب من غير تردّد: قتل الحلم العراقي.

كان العراقيون قبل 2003 مسكونين بأخدوعة أنّ زوال " فلان " من مشهد الحكم العراقي كفيلٌ بتحقيق الفردوس العراقي المدعوم بأموال الريع النفطي في نموذج يحاكي نموذج البلدان الخليجية. كان العراقيون يتطلعون لنموذج المواطن الذي تمتلئ معدته بشتى صنوف الطعام والمشروبات المستوردة مثلما تشمّ في طرقاته وأزقته رائحة النفط. بعد عشرين سنة من تغيير 2003 إنكشف للعراقيين خواء هذا الحلم الذي كان يمكن أن يصبح حقيقة لو قيّض للعراق قيادات مخلصة تحتكم إلى شيء من ضمير ونزاهة ورؤية مستقبلية. عرف العراقيون بعد مخاضات مؤلمة أنّ المعضلة العراقية ذات طبيعة بنيوية أكبر من " فلان ". الريع النفطي يمثلُ رافعة تنموية رائعة لو أستُخدِم بعيداً عن صناعة الولاءات وملء جيوب بعض السياسيين والمتنفذين في السياسة العراقية. لاأحلام عراقية بعد 2003!! صار المواطن العراقي يعرف أنّ خلاصه منوطٌ بيديه وأفعاله. لكن هنا يجب أن نتساءل: هل صار العراقي يتصرف بهدْي معرفته؟ أقول: كلا. صارت كثرةٌ من العراقيين تستطيب التخادم الطفيلي مع مداخيل الريع النفطي عبر سلسلة وسطاء أوليغارشيين ضعاف أو سمان.

الكليبتوقراطية Cliptocracy صارت عنواناً تكاد تلمسه أنى ذهبت في دوائر البيروقراطية العراقية حتى ليمكن القولُ أنّ دولة " اللادولة " إنحدرت وتهاوت لتكون دولة كليبتوقراطية يستباح فيها المال العام من غير خوف أو مداراة أو وجل. إنحلّت " اللادولة " لتكون أقرب لنموذج المافيا المسنودة بسلطة الكهنوت والمال، وبدل أن يعمل العراقيون مخلصين لملء الثغرات المعيبة وتحصين الثغور المنكشفة من بقايا دولة ماقبل 2003 صاروا يتغالبون على الفوز بحصة أعظم من وليمة الريع النفطي. يبدو المشهد العراقي وكأنّ الحكومة أو ظلال بقايا" اللادولة " الباهتة تركت البشر ليعيشوا بقدراتهم الذاتية من غير تنظيم مؤسساتي رصين، وكأنّ فتات الريع النفطي الذي توزّعه عليهم كرواتب هو غاية ماتستطيع الدولة فعله في العالم المعاصر. صار العراقي اليوم يتحسّر على الجوانب الايجابية من أنظمة ماقبل 2003 في نطاق السكن والصحة والتعليم والثقافة. صارت الحياة العراقية نهباً لنموذج غاشم من الداروينية الاجتماعية المتغطرسة التي ليس أمام الخاسرين فيها سوى التسليم ومكابدة ظروف القهر التي تفطر القلب وقد تقود المرء إلى الموت الحقيقي وهو يرى ضياع فرص التنمية في عراق باتت فرص التنمية المتاحة له تضيق يوماً بعد يوم في حومة التغيرات الدولية المتسارعة على صعيد التقنيات وبخاصة في موضوع الطاقات المتجددة التي تستحثها المعضلة المناخية.

قد يقبل كثرة من العراقيين مكابدة مشقات العيش لو كانت هذه المشقات إيذاناً بحياة أفضل لأطفالهم، قد يقبلون بتضحيات حتى لو كانت غير ضرورية وممّا يمكن تجاوزها لو توفرَ للحكومة قدرٌ من نزاهة غائبة؛ لكن عندما يتيقنون من أنّ مستقبلاً كالحاً ينتظر أطفالهم فعليهم أن يتفكّروا كثيراً في الامر. عليهم أن يضعوا أيديهم على مكامن الاختلالات البنيوية في محاولتهم صناعة دولة عراقية لم تخدم طموحاتهم المشروعة مثل سائر بني البشر.

القيامة العراقية بعد 2003 لن تتكرّر كل يوم، ومن يتوق للخلاص فليفعّل قدراته الذاتية. الدولة التي تستطيب البقاء كائناً طفيلياً لن تستطيع البقاء لأمد بعيد، وهذا هو حال دولة " اللادولة " في عراق مابعد 2003.

لو شئتُ الامساك بخيط جامع يصف الحالة العراقية لقلتُ أنّ هذا التوصيف يتمثلُ في اللعبة الصفرية Zero – Sum Game التي تسِمُ الحياة العراقية: معادلة ال (نحن) و (هم). (نحن) نكسب و (هم) يخسرون. هذه هي القاعدة الاساسية. من هم هؤلاء ال (نحن) وال (هم)؟ كلّ مايخطر ببالك يصلح: ترسيمات طائفية ومذهبية وعرقية ومناطقية بل وحتى عوائلية!!. نحن كتلٌ بشرية تتغالب فيما بينها، ونكران هذا الحال لن يفيدنا بشيء.

كم حلمنا بعراق غير هذا الذي نراه في يومنا هذا، ويكفينا شرفُ المسعى حتى لو غادرْنا هذه الحياة وفي قلوبنا غصّة عنوانها عراقٌ فشل في أن يكون دولة.

  كتب بتأريخ :  الأحد 13-08-2023     عدد القراء :  1488       عدد التعليقات : 0