الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
يعقوب يوسف.. رحلَ بنعمة فَقد الذَّاكرة!

كانت حصة يعقوب يوسف عبد الله(1930-2023)، في الشّهور الأولى مِن الحرب العِراقيَّة الإيرانيَّة، أن يتدحرج رأس أخيه على عتبة باب الدَّار، فُصل عن بدنه بشظية صاروخ إيرانيّ، وتهمد عائلة الأخ تحت الأنقاض، وما أن توقفت الحرب، قرر زيارتنا، وبعد أيام مِن الحصول على الموافقة تقرر منع السَّفر، فتمت الزّيارة في نيسان(أبريل) 1990.

لم يتحدث يعقوب، وهو الحزبي القديم، ومِن السّجناء مِن الشَّباب مع يوسف سلمان يوسف(فهد)، لم يتحدث عن غزو الكويت، لكنه بعد أنّ هنأته بالسَّلامة مِن شظايا ذلك الصَّاروخ، ووقف الحرب، قال كلمة شعرتها خرجت مِن لبة روحه: "هو ليش مبطل"؟! عرفته مِن دون أن ينطق باسمه، فالخوف لا يبطله السّفر، ما زالت بعده عودةً.

عاد يعقوب إلى بغداد، ومعه أمّ لؤي ولقاء، بعد قضاء شهرين معنا بصوفيا، وما هي إلا أربعة شهور، ويتحقق ما حدسه، فكانت حرب الكويت. عاش يعقوب في ضنك كبقية العراقيين، خلال الحصار، الذي لم يبق على العراق ولم يذر، فبعدها صارت الهجرة هدفاً بل حياةً، ومع ذلك حاول يعقوب المحافظة على توازنه، مع دخله المحدود، فكان محاسباً، حتّى إحالته على التَّقاعد، وظل يستلم مئتي دولار شهرياً، مع إثبات وجوده على قيد الحياة، وبعد عجزه عن الذّهاب إلى السّفارة العراقيَّة بلندن، لتجديد عقده مع الحياة، توقف راتبه، وانتهت أربعون عاماً مِن الخدمة لأنّه لم يستطع إثبات أنه كان حيَّاً!

ظل يعقوب على تقاليد الأربعينيات الثَّوريَّة، فالمساعدة التي يدفعها له صندوق التّضامن الاجتماعي، والمقتطع مِن معاشات العاملين ببريطانيا، يحسبها أنها مردودات نفطه العراقيّ، الذي استولت عليه بريطانيا، وشارك هو بتحديها في مظاهرات لإسقاط معاهدة "بورتسموث". لم يعلم يعقوب، أو هو لا يريد العِلم، أن الدُّنيا قد تغيرت، والنَفط الذي يتحدث عنه وزعت آباره، واغتنى منه لاجئون كانوا يشاركونه في الضّمان الاجتماعيّ.

فتح لي يعقوب يوسف دفتر ذكرياته البعيدة، ونحن ببغداد، يوم أخذ منفياً إلى منطقتي، ولكن قبل ولادتي، وقد تورطت الحكومة آنذاك بهؤلاء المنفيين وبأهل تلك المناطق، فكانت تحسبُ أنهم سيسأمون مِن مكان لا يُرى فيه غير الماء، ولا يُسرق فيه شيء غير التُراب، لكن ظهر أن هؤلاء المنفيين عاشوا مكرمين معززين، ليس لأن أهل المنطقة ضد الدّولة، ومع الشّيوعيين، فلا علاقة لهم بهذا الادعاء، إنَما يتعاملون مع المنفيين كضيوف وأهل بلاد، وبعد قضاء أكثر مِن عام، ظلت الوشائج مستمرة، بالهدايا التي يحملها أهل المنطقة، ولا تتجاوز الطّيور والأسماك.

تحدر يعقوب يوسف مِن قضاء كويسنج، التّابع لمحافظ السّليمانيّة، قديماً وحديثاً، وحيث يتركز المسيحيون بناحية "أرموطا"، ومن هذا يُجيد يعقوب ما يسميه هو "المسيحيَّة"(السريانيَّة) والكرديّة إلى جانب العربيَّة. تركوا كويسنجق في الأربعينيات، وكان يتحدث عن مساحة أرض مشجرة بالفاكهة وبقية النِعم، رحلوا بعد أن هيمن عليها أحد الأغوات(الإقطاعيين الكورد)، فلم يبق سبب لهم بالحياة هناك، فتجمع أكثر مسيحيي تلك المناطق ببغداد، مع بقاء "عينكاوة" إحدى ضواحي أربيل سابقاً، وفي داخلها اليوم، محافظة على هويتها المسيحية، حتّى صدر قانون يمنع تملك غير المسيحيين بها مِن أراض وعقارات. لقد عادت كردستان تألف مَن شردته الجماعات المسلحة بالقهر الدّينيّ والاجتماعيّ.

لم يقرأ يعقوب، كتب التّراث الإسلاميّ، لكنني سمعتُ منه ما يؤكد تشابك الأزمنة، أو ما يصل بين القرون، عندما تحدث ليّ عن حفظ الثّلوج شتاءً لبيعها صيفاً. يقول: كنا بكويسنجق نجمع الثّلوج الغزيرة ونحفظها تحت الأرض، بعد أن نفرش الحفرة بقش الحنطة، ونغطيها بالقش أيضاً، ثم نهيل عليها التُّراب ونتركها، وعندما يأتي الصّيف يتم بيعها قطعاً قطعاً، وكانت تدر عليهم رزقاً حَسناً.

هكذا، كان يصل الثّلج إلى العراق في زمن الحجاج بن يوسف الثّقفيّ(تـ: 95هـ)، وبهذه الطريقة كانت للثلوج مخازن في الخلافة العباسيّة، ملحفة بتبن الحنطة مثلما يخزنها أهل كويسنجق بعد ألف عام، حتَّى أنّ الوزراء، كانوا يقدمون الثلج هدايا في عزّ الصّيف ببغداد، واستمرت هذه الطريقة، في توفير الثّلج حتَّى شاعت مكائن صناعته، لكنَّ يعقوب يوسف لم ينتبه ويبادر لهذه التّجارة، كي يحول حفرة الثّلج إلى مكانة للثلج. إن هذا التَحول يحتاج إلى عقل تجاريّ وتنمويّ، يدر عليه وعلى البلاد، لكن يعقوب فضل أن يكون عازفاً بآلة بدائية، مع الفرقة التي شكلها حسقيل قوجمان في السّجن آنذاك، فبعد ستين عاماً سألني يعقوب عن حسقيل، قال: سمعتُ أنه بلندن؟ قلتُ: نعم، وأنا على صِلة به. فتم اللقاء بين الاثنين، فتذاكرا فرقة السُّجناء الموسيقيّة، وأدواتها البدائية، وكانت الأغاني ثورية بطبيعة الحال والمرحلة. كان لقاء الصَّدى مِن الماضي البعيد، وبهذه الرّوح خسر يعقوب الدّكان الذي فتحه في أيام الحصار، والرَّاتب لم يعد يكفي، فخلال شهر لم يبق في الدّكان غير دفتر الدُّيون، فأغلقه خاسراً رأس ماله. كان طيباً مسالماً نظيف الطَّوية، إلى حد خسارة حقَّهِ.

غير أنّ هذا المحاسب، المتواضع الوظيفة والراتب، كان يمكن أن يستبدل المال الوافر بالدّكان، ويتضاعف راتبه، لو وافق على صرف صكوك مزورة لصالح المتلاعيبين، ولم يقص علينا قصة ذلك إلا بعد أخبار الفساد المالي، التي أخذ تعصف بالعراق، هذا ما احتفظ به مِن تقاليد حزبيته، ومِن عضوية فرقة السّجناء الموسيقيّة، حتّى ألتقى بحسقيل، بعد عقود طويلة، وكلاهما لاجئ، لم يرثا من بلديهما غير صدى الذَّكريات.

لم يستقر الحال بيعقوب، فلقاء معي منذ (1979) ولؤي اختار مكاناً بعيداً، والغزو على الأبواب، فخرج الأب والأمّ إلى سورية، وتجمع حولهما الأقارب والجوار بمنطقة "دويلعة" أقل شعبيةً مِن مِن الشَّعبيّة، لكنْ لا يمر يومٌ إلا وغادرت أسره إلى منفاها بعيداً، فحملا حقائبهما وعادا إلى بغداد، وما أنّ استقرا حتى نُبش التّاريخ بكل مساوئه ضدهما، فظهرا أنهما نصارى، اختزلت تلك القرون التي عاشها أسلافهم بأرض العراق بحرف "النُّون"، وأنهم جواليّ.

كانت المأساة أكبر مِن جسمه وعقله، فأخذ يوصل حلقات المآسي، مِن الأغا الذي سلب أرضهم، بقوة الأقطاع وجبروته، وشرعيته آنذاك، إلى الجماعات الدِّينيَّة وفظاعاتها، ولشدة القهر، لم يعد يعقوب يتذكر فاصلاً أو هدنة مع القهر في حياته، فلحظة ترح تعصف بسنوات مِن الفرح، ولحظة مرض تقضم عمراً كاملاً مِن الصِحة. لهذا كان فقدان الذّاكرة لديه سعادة، لم يعد يتذكر أرض آبائه بكويسنجق، ولا داره ببغداد، ولا يهتم بورقة شهادة الحياة، التي تطلبها منه السّفارة، رحل وهو يسأل ابنته: أين أمكِ؟! وقد سبقته بالرّحيل قبل عامين. أقول: صحيح أنَّ فقدان الذّاكرة مرض، ومِن أفظع الأمراض وألئمها على المحيطين، لكنّ في حالة يعقوب يوسف، الذي لا هو يدري ولا زوجته تدري، بالفرق بين الهجرة والتَّهجير، أمهاجران أم مهجرين، كانت الذَاكرة عبأً عليه، وفقدها نعمةً.

  كتب بتأريخ :  الأحد 13-08-2023     عدد القراء :  1362       عدد التعليقات : 0