الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
تلمذة أبدية

تأسُرُني أسئلة النهايات القصوى. لاعجب في هذا. شعار الالعاب الاولمبية: أسرع، أعلى، أبعد، وهو أبعدُ مايكون إحتكاراً إستئثارياً خالصاً لألعاب رياضية. المسيرة التطورية البشرية في جوهرها محاولة لكسر الحدود الطبيعية والذهنية وتجاوزها، وهذا التجاوز هو ماصنع الفوارق النوعية في رحلة البشر.

أتاحت لنا القارة الغوغلية أن نسأل مانشاء من أسئلة النهايات القصوى بدل أن نتعب ونستنزف طاقة ووقتاً وجهداً في البحث والاستقصاء. يجول ببالي كلّ بضعة أيام سؤال من هذه الاسئلة، وفي العادة يكون الجواب الغوغلي بداية لرحلة شروع مقترنة بالاثارة والبهجة.

السؤال الذي طاف بذهني قبل بضعة أيام هو: من الشخص الذي حقّق أعلى رقم في عدد الشهادات الاكاديمية المعتمدة التي حصل عليها من جامعات ذات شهرة ورصانة؟ أمدّني خزّان غوغل المعلوماتي بالجواب. إنّه الامريكي بنجامين برادلي بولغر Benjamin Bradley Bolger، المولود عام 1975 في ولاية ميشيغان الامريكية. يوصف بولغر بالتلميذ الابدي Perpetual Student. حياته تلمذة ودراسة ممتدّة؛ فمنذ عام 1992 لايكاد ينتهي من دراسة حتى يشرع في أخرى من دون فرصة للتوقف. حصل بولغر على شهادتي بكالوريوس: واحدة في الفنون والاخرى في علم الاجتماع، ثم إنطلق كالصاروخ في تشكيلة واسعة من الدراسات العليا (الماجستير). هاكم بعضاً من الموضوعات التي حصل فيها شهادات ماجستير: علم الاجتماع، علم الاجتماع والسياسة، التربية، سياسات التربية، تطوير الملكيات العقارية، التصميم والتخطيط الحضري، دراسات التنمية، الفنون الحرّة، التعايش والصراع، الانسانيات، الكتابة الابداعية، كتابة السيناريو. لم ينسَ بولغر الدكتوراه من حساباته؛ فحصل على إثنتين: واحدة في التصميم المعماري، والاخرى في التخطيط الحضري. هنا تجيء الاشارة إلى موضوعتين أساسيتين: هذه الشهادات هي لغاية آذار (مارس) 2022!! بولغر منخرط الآن في دراسات جديدة. كما أنّ هذه الشهادات تحصّل عليها من جامعات مرموقة منها: هارفرد، كولومبيا، كامبردج، برينستون، ميشيغان،،، إلخ. عمل بولغر أيضاً على دراسة بعض المقررات الدراسية للحصول على شهادة دكتوراه القانون JD في جامعة ييل لكنه لم يكملها، كما عمل للحصول على ماجستير في التعليم العالي من جامعة بوستن لكنه لم يتمّها أيضاً.

عانى بولغر منذ طفولته الاولى من حُبسة في النطق أرغمت والدته على تعليمه في المنزل (مايسمّى Home-schooled)، وهذا النمط من التعليم هو مافجّر ينابيع الشغف والتطلّع إلى المعرفة. فلسفة بولغر هي أن تحصل على أفضل ماتتيحه لك حياتك بجهد ومثابرة. عكف بولغر على تعليم طفليه في المنزل متبعاً ذات الخطوات التي إتبعتها والدته.

لاينفكّ العم غوغل يطاردنا بصندوق عجائبه. إكتشفتُ بعد تدقيق أنّ بولغر ليس صاحب الرقم القياسي في عدد شهاداته. الاوّل هو الامريكي مايكل نيكولسن Michael Nicholson المولود عام 1941. حاز نيكولسن 30 شهادة أولية وعليا من جامعات أمريكية مرموقة أيضاً. أظنني قرأتُ قبل سنوات أنّ هندياً له إسمُ أب براساد Prasad حصل على مايقارب السبعين شهادة!!

لستُ في معرض تعداد شهادات في سوق أكاديمية مفتوحة للمتبارين. أسوق هذه المعلومات لجماعة (البكالوريا) بخاصة ممّن يرون أنّ أرواحهم معلّقة بأنشوطة حبل هذا الامتحان. بعضهم حصل على درجات تفوق المائة. رأيتُ بعض هؤلاء على التلفاز. حقّه الطبيعي أن يفرح؛ لكن من غير تصوّر موهوم بأنه إمتلك الارض ومن عليها. في المقابل ترى آخرين لم يحوزوا معدّلاً يؤهلهم لدخول كلية الطب فانهاروا وكأنّ الارض ضُرِبت بصاعقة نووية.

سيكون أمراً طبيعياً لو تساءلنا: لماذا يسعى أمثال بولغر ونيكولسن وراء شهادات عديدة في موضوعات متعدّدة؟ ماذا يريدون؟ هل يريدون التكسّب منها؟ شهادة واحدة تكفي؛ بل أنّ حاصل الدكتوراه قد لايجد فرصة عمل. هذا طبيعي في سوق رأسمالية محكومة بصرامة آليات العرض والطلب. لاقانون يلزم الحكومة الامريكية (والحكومات الغربية) بتعيين أصحاب الشهادات العليا. مثل هذه القوانين لاتوجد في البلدان المتطورة. أنت من تنتزع فرصتك بجهودك وقدراتك، وليست الشهادة سوى وسيلة واحدة بين وسائل مساعدة لإعلان قدراتك لاأكثر.

السبب كما أرى – ببساطة – يكمنُ في إضفاء معنى وغاية على الحياة. المعنى قرين الغاية. عندما نجد غاية لحياتنا فهذا يعني بالضرورة إضفاء معنى عليها. لامعنى مجرّداً عن الغاية، والغاية ليست شكلاً واحداً. كلٌّ منّا له غاية مميزة في حياته، وعندما يعمل بشرف وإخلاص لتحقيق غايته فإنّه سيعمل تلقائياً على منحها معنى. عندما يقترن المعنى بالغاية فتلك هي الشفرة للإحساس بالثبات وأنّ العالم مكانٌ جميل يستحقُّ شرف العيش والكفاح.

قد يرى بعضنا أنّ عيش الحياة في سياق تلمذة أبدية هي تجربة غير مجزية ولامجدية. هم يحسبون الامر من بوّابة العوائد. يتساءلون: لِمَ تتعبُ ولاتتمتع بثمار تعبك؟ الثمار يحسبونها دنانير معدودة. هذه المقاربة مردودة لسببين:

الاول: يكمن في أنّ خبرتنا البشرية الممتدة علّمتنا أنّ سعادتنا في أي عمل ستكون منقوصة لو إستوفينا أجر العمل مكافأة فورية.

الثاني: كسر السياقات السائدة (شريطة أن لايؤذي هذا الكسر آخرين أو يسيء إليهم مادياً أو من الجوانب الاعتبارية). لذّة كسر السياقات التقليدية لايدركها سوى من جرّبها وذاق عسلها الحلو.

كثيرون منّا يعيشون حياتهم وكأنهم صناديق موصدة، وقلّة قليلة منّا تعيشُ مثل محيطات شاسعة وسماوات مفتوحة.

لاشيء يمنعنا من مغادرة صناديقنا المقفلة والخوض في المياه العميقة أو التحليق في السماوات البعيدة.

الامر رهن إرادتنا وشغفنا.

  كتب بتأريخ :  الأحد 27-08-2023     عدد القراء :  1452       عدد التعليقات : 0