الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
بلدان الجنوب ومحكمة العدل الدولية

استمعت محكمة العدل الدولية في لاهاي، في 11 كانون الثاني 2024 إلى دعوى قضائية اقامتها جنوب أفريقيا اتهمت فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية. وجاء في الدعوى المقدمة إلى المحكمة في 29 كانون الأول 2023، والمعدة بعناية: إدانة إسرائيل بـ "نية وتنفيذ الإبادة الجماعية" ضد سكان قطاع غزة البالغ عديدهم 2,3 مليون نسمة. لقد حظيت جنوب أفريقيا باهتمام دولي استثنائي بعد قرابة 30 عاما على نهاية نظام الفصل العنصري وإجراء أول انتخابات ديمقراطية في البلاد في نيسان 1994.

وجاءت مجريات جلسات الاستماع لتؤكد صحة، ما توقعه أستاذ القانون الأمريكي البارز فرانسيس بويل، في ان المحكمة ستستمع لجمهورية جنوب أفريقيا، مؤكدا حاجة العالم الى دولة تتمتع بالشجاعة والنزاهة والمبدئية وتكون مستعدة للدفاع عنها.

الدعوة لمفاوضات فورية

بعد مرور خمسة أيام فقط على هجوم حماس في السابع من تشرين الأول 2023، والذي كان مفاجئا لجهاز المخابرات الاسرائيلي ومؤسسة دولة الاحتلال العسكرية، والهجوم الاسرائيلي الفوري ضد قطاع غزة، دعا رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوسا إلى وقف إطلاق النار، والبدء بمفاوضات فورية. وعرض الوساطة في إطار مبادرة دولية: "يمكن لجنوب أفريقيا... أن تساهم بخبراتها الخاصة في حل الصراعات التي تبدو غير قابلة للحل".

إن تحقيق انتقال سلمي من دولة نظام الفصل العنصري إلى دولة ديمقراطية في جنوب افريقيا لم تكن "معجزة"، كما تداولته وسائل الاعلام، ولا يمكن حصره بالدور التاريخي والاستثنائي، الذي لعبه نيلسون مانديلا فقط، بل ان ما تحقق ارتبط بالمخاطر الكبيرة لملايين من سكان البلاد، لو ظل الصراع حبيس قنواته التقليدية، وبعيدا عن ارادة سياسية تضع الانسان في مركز اهتمامها. لقد شارك رئيس جنوب أفريقيا الحالي سيريل رامافوسا في المفاوضات بين حكومة الفصل العنصري، ووفد المؤتمر الوطني الافريقي الذي قاده مانديلا.

ولم يلق عرض الرئيس رامافوسا آذانا صاغية من الطرفين. بالإضافة الى صعوبات دبلوماسية جدية بين اسرائيل وجنوب افريقيا، حيث اصبح منصب سفير جنوب إفريقيا في تل أبيب شاغرًا منذ عام 2018 - وفي 21 تشرين الثاني، صوت برلمان جنوب إفريقيا بالأغلبية على إغلاق السفارة الإسرائيلية في بريتوريا. ولكن الرئيس لم ينفذ طلب البرلمان، ربما ليبقي جسور الحوار مفتوحة، لكنه لم يتمكن من منع إسرائيل من استدعاء سفيرها "للتشاو" بعد قرار البرلمان الجنوب افريقي مباشرة.

شماعة معاداة السامية

ومع ذلك اتخذ الرئيس الخطوة الحاسمة بتقديم لائحة الاتهام ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، بواسطة مجموعة من كبار المحامين. وبعد وقت قصير فقط، أعلنت "رابطة المحامين الديمقراطيين" في جنوب أفريقيا عن دعمها الكامل للدعوى.

ولم يكن مفاجئاً أن تدين حكومة الاحتلال اقتراح جنوب أفريقيا "باشمئزاز" وباعتباره "معادياً للسامية"، فضلاً عن زعم "التدخل في شؤون" لا تعرف جنوب افريقيا شيئاً عنها وليس لديها ما تفعله. ان الاتهام الاسرائيلي الأخير لا اساس له من الصحة، وفق القانون الدولي، لأن "اتفاقية الإبادة الجماعية" التي تبنتها الأمم المتحدة في عام 1948 تنص بوضوح على أن جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة التي وقعت على الاتفاقية ملزمة صراحة بالإبلاغ علناً عن حوادث الإبادة الجماعية المحتملة أو حتى مجرد الإعداد لها. ليتم عرضها امام محكمة العدل الدولية. وقالت وزيرة خارجية جنوب أفريقيا، ناليدي باندور، بحق ان ً: "السؤال هو لماذا التزمت العديد من الدول التي تدين ً أي شكل من أشكال الإبادة الجماعية رسميا، الصمت حتى الآن"، والاكثر اشمئزازا هو موقف العديد من الحكومات العربية التي تزايد يوميا بتبنيها للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

مما لا شك فيه أن حالات الإبادة الجماعية التي حدثت منذ المحرقة النازية كانت أكبر بكثير من الحالات الأربع التي اعترفت بها محكمة العدل الدولية لحد الآن، بما في ذلك الإبادة الجماعية في رواندا في عام 1994، والذي يحتل موقعا متميزا في تاريخ جمهورية جنوب أفريقيا، واخيرا إدانة ميانمار لجرائمها. والإبادة الجماعية ضد مجموعة الروهينجا العرقية، حيث بادرت غامبيا الواقعة في غرب أفريقيا، الى تحريك القضية في عام 2019. وتلقت، كما هو الحال مع جنوب افريقيا اليوم، الكثير من الدعم.

اهمية المبادرة

تكتسب مبادرة جنوب أفريقيا اهمية استثنائية، تكمن في تحفيز بلدان الجنوب الضعيفة اقتصاديا الى اكتشاف القانون الدولي لفرض قدر أكبر من العدالة. وعلى عكس إسرائيل، التي استمرت في دعم حكومة الفصل العنصري حتى عام 1986، ولم تنضم إلا في وقت لاحق إلى نداءات المقاطعة الدولية لنظام الفصل العنصري، تلبية لطلب من الولايات المتحدة، فإن طلب جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، يشير بوضوح الى عدم دعمه اي ممارسة تتعارض مع القانون الدولي يصدر عن حماس او اي طرف فلسطيني آخر، على الرغم ان مقارنة موقف التأييد الاسرائيلي لنظام الفصل العنصري، لا تستقيم لتفهم ردود الفعل التي تصدر من اي طرف فلسطيني، جراء حرب الابادة التي يتعرض لها الفلسطينيون منذ اكثر من 75 عاما قاسية

لا ينسى الفلسطينيون والعرب اجمع، زيارة نيلسون مانديلا غزة في عام 1999 وشكره الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على كل الدعم الذي قدمته منظمة التحرير الفلسطينية لنضال حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي كان محظوراً حينها، والذي اصبح حاكما. حدث هذا في لحظة كان معظم الحكومات الغربية لا تزال تعد الرئيس مانديلا إرهابياً.

وفي جنوب أفريقيا اليوم، وعلى الرغم من العديد من المشاكل الداخلية والتي يرتبط بعضها بمخلفات نظام الفصل العنصري، وسياسات الليبرالية الجديدة، ومنظومة الفساد، إلا أن التوتر بين الأديان ضئيل للغاية. كما أن احترام جميع الأديان منصوص عليه صراحة في الدستور.

فصل عنصري اسرائيلي

ترى حكومة جنوب افريقيا والعديد من مواطني البلاد، أوجه التشابه بين نظام الفصل العنصري السابق في البلاد، وتعامل اسرائيل مع الشعب الفلسطيني، كمواطنين من الدرجة الثانية اليوم، ليس في قطاع غزة والضفة الغربية فقط، حيث يسود القانون الجنائي العسكري، بل ايضا في تعاملها مع فلسطيني 1948.

في خطابها الذي القته وزيرة الخارجية في جنوب افريقيا ناليدي باندور في 14 تشرين الأول امام مؤتمر "معضلات إنسانية" للحركات الاجتماعية، الذي عقد اخيرا في جنوب افريقيا، وصفت الوزيرة التشابه بين نظام الفصل العنصري البائد في بلادها، والنظام الاسرائيلي بالقول: " لقد شعرت بالرعب عندما قال أحد قادتنا السابقين، ولا أعرف إذا كان ينبغي لي أن أسميه الرفيق، موسيووا ليكوتا، إن إسرائيل ليست دولة فصل عنصري. حسنًا، يُحرم الفلسطينيون من حرية السفر من وإلى وطنهم. وليس لديهم حرية الحركة. كما لم تكن لدينا حرية الحركة في ظل الفصل العنصري. يستخدم الفلسطينيون مداخل منفصلة عندما يعبرون الحدود، وكان علينا استخدام مداخل منفصلة أثناء الفصل العنصري. لا يتمتع الأطفال الفلسطينيون بحرية الوصول إلى التعليم، ولم يكن الأمر مختلفًا بالنسبة لنا. لذا، لا أعرف ما الذي يتعين على إسرائيل فعله لإقناع موسيوا ليكوتا بالاعتراف بأنها دولة فصل عنصري". واكثر من هذا، اشار احد نواب البرلمان في جنوب افريقيا الى ان الاختلاف بين الفصل العنصري السابق في بلاده، والفصل العنصري الجاري ضد الفلسطينيين، هو ان اسرائيل تمارس الابادة الجماعية للشعب الفلسطيني، في حين ان حكومة الاقلية البيضاء لم تعتمد الابادة الجماعية للأكثرية السوداء، لحاجتها لقوة عملها في استمرار دورة الانتاج.

من جانبها تصف منظمات حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، إسرائيل بأنها "نظام فصل عنصري".

خطورة الدعوة المقدمة الى محكمة العدل الدولي بالنسبة لإسرائيل، لا تكمن في قائمة الجرائم العديدة ضد الإنسانية التي أثبتتها مصادر مستقلة مختلفة، ولكن أيضًا بسبب التحريض الفاشي الصادرة عن كبار المسؤولين والقادة العسكريين واوساط واسعة من سكان اسرائيل. في 12 تشرين الأول 2023، وعلى سبيل المثال لا الحصر،قال الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بشأن عن عدم التمييز بين المسلحين والمدنيين في غزة: "إنها أمة بأكملها هي المسؤولة... سنقاتل حتى نكسر ظهر الجميع".

  كتب بتأريخ :  الخميس 18-01-2024     عدد القراء :  567       عدد التعليقات : 0