الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
معرض الفنان التشكيلي العراقي فيصل لعيبي في ميم گاليري في دبي
الإثنين 16-02-2015
 
مرتف: د. علاء فائق

تم أفتتاح و بنجاح كبير معرض الفنان التشكيلي العراقي فيصل لعيبي في ميم گاليري في دبي في الثامن و العشرين من كانون الثاني من هذا العام الى الأوائل من أذار في ٢٠١٥.

المفاجأة الكبرى هي أنه تمت طلبات شراء جميع لوحات المعرض قبيل أفتتاح المعرض المسمى "أوجاع و مسرات Agony and Recreation ".

ولقد تم شراء جميع اللوحات من خلال دليل المعرض الذي نشرته أدارة ميم گاليري ووزعته على زبائنها. قامت إدارة ميم گاليري بأختيار مقدمة الدليل من ما نشرته الكاتبة و الأديبة العراقية مي مظفر عن معرض الفنان لعيبي بعمان في گاليري الأورفلي في عام ٢٠١٥.  مقدمة مي مظفر تبين رحلة فيصل لعيبي كفنان تشكيلي عراقي ملتزم و مراحل تكوين لغته الفنيّة و شخصيته المتميزة من خلال رحلة غربته و الغمور في أعماق جذوره الثقافية، و خصائصه الفنية المميزة بهويتها العراقية من خلال بحثه عن ذاته من خلال  تشكيلاته و شخوصه التي يطرحها في غربته الطويلة.

و هذا نص المقدمة من دليل المعرض:

فيصل لعيبي

البحث عن الذات

" هناك في عراقنا المترسب في خفايا النفس ولا  وعيها، علاقات لم نعثر عليها هنا في أوربا."

فيصل لعيبي

يهاجر العراقي فيحمل معه الوطن. يمارس حياته أينما حل به المسار في العالم، يتكيّف، أو يحاول، مع طبيعة المدن التي يقيم فيها، فينشطر إلى اثنين: مقيم ومتغرب. قد ينفتح بكل شغف على ما تقدمه له الحياة الجديدة من تجارب، لكنه لا يتنازل بيسر عما جبل عليه، فيحاول أن يوجد قدر الإمكان أجواء عراقية داخل مسكنه، وتأبى ذاكرته إلا الانشغال بمشاهد المدينة التي فارقها اضطرارا والأهل والصحاب.

الفنان فيصل لعيبي صاحي، مثل كثير من المبدعين العراقيين، يرينا أن أربعين عاما من الغربة لم تزده إلا تمسكا بالذات مهما شابها من تداخل، وبالأصول التي تأبى إلا أن تتميز.

غادر العراق في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وعاش مغتربا يتنقل بين المدن الأوربية والعربية، حاملا العراق بين أضلاعه وفي دهاليز فكره، يستمد من فيضها مشاهد لوحاته التي شاهدها جمهور عمّان في معرضه الشخصي الذي أقامه على قاعة الأورفلي- 2009، بعنوان " كلاسيك عراقي".

لا يزال فيصل لعيبـي إذا، بعد كل هذه الحقب من العيش بعيدا عن أرضه وأهله، متنقلا بين المدن المختلفة، يبحث عن ذاته. فعن أي ذات يبحث؟ أسئلة الوجود هذه ربما لا يضطر إليها إلا الشخص القلق الذي يشعر بشيء من عدم التوافق بينه وبين المكان الذي يقيم فيه.

لقد أعادني المعرض إلى المرة الأولى التي شاهدت فيها أعمال الفنان فيصل لعيبـي. كان ذلك في المعرض الأول لجماعة " الأكاديميين" في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث، بغداد 1971 . كان المعرض قد فاجأ الجمهور بتقديم أعمال منفذة بأساليب أكاديمية مخالفة لما كنا قد اعتدنا مشاهدته على مدى السنوات الأخيرة من تجارب فنية مفرطة في حداثتها ومغامراتها التجريبية خارج حدود اللوحة الأكاديمية وقوالبها، أعمال تتجاوز تكويناتها منطق المشاهد المرئية وتستنفر الخيال إلى أبعد تخومه.

يومها وقف جمهور الحاضرين، فنانين ومحبي فن وغيرهم، أمام أعمال ذات أحجام كبيرة بمشاعر متضاربة ومواقف أشد تضاربا. ففي الوقت الذي كانت فيه جموع المشاهدين عامة تتطلع بدهشة وإعجاب وبعيون محبة لصور بارعة في أدائها الفني، وقريبة من أذواقهم وفهمهم  لطبيعة الصورة، فضلا عن تناولها موضوعات ترضي ثقافتهم،  اتخذ الفنانون المحدثون موقفا رافضا بحدة وأسى وهم يرون إرث جواد سليم وشاكر حسن يعود بهم إلى نقطة البداية، خاصة وأن من ترأس الجماعة فنان قدير كان قد شق طريقا واضحا في بحثه الفني في مجال الأسلوب والطرح لحداثة فنية ذات طابع قومي ومحلي. لكن "الأكاديميين" كانوا على وعي بما أقدموا عليه من خطوة وجدوا أنها ضرورية لسد فجوة في تاريخ الحركة التشكيلية في العراق، على وفق ما ورد على لسان كاظم حيدر في البيان الأول (والأخير) للجماعة.

تضمن البيان التأسيسي الذي تصدّر دليل معرض الجماعة، تعريفا لطبيعة هذا التجمع ومسوّغاته: "الأكاديمية شكل يحوي كل الأساليب.. وإناء لكل الفلسفات.. ونحن الآن نحاول أن نجدد هذا المفهوم بطريقة عراقية خاصة نابعة من تراثنا الحضاري والفني الذي يحمل أعلى مراحل الأسلوب الأكاديمي، ومستمدة من تربة هذا الوطن، وبفكر عالمي حديث. فالسومريون والآشوريون والمسلمون هم القدوة الأولى لنا في البناء، وأعمالهم هي التي غيّرت وأثّرت وشذّبت كثيرا من الأفكار والمعتقدات التشكيلية الأوربية، وأدخلت عليها فلسفة جديدة، أضافت حقوق التربة والزمن والفكر إلى حقوق البيئة والإنسان." يُستشف من البيان الذي جاء معارضا ومتقاطعا مع التيارات الحديثة التي غمرت الساحة الفنية العراقية، أن كاظم حيدر اقترح تبني هذا الاتجاه الأكاديمي في الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ليكون موازيا ومكمّلا و" أساسا ودستورا من انطلاقات جديدة مع أننا نفخر ونعتز بالاتجاهات الحديثة التي تسير عليها فئة كبيرة من فنانينا المعاصرين حتى بالشوائب التي تنتشر بين حين وحين. إلا أنني وجدت الاستعداد الكافي والعزم الثابت والمواظبة العنيفة والإخلاص والعمل المستمر عند كل من الفنانين نعمان هادي وصلاح جياد وفيصل لعيبي ووليد شيت - لم يشترك الفنان وليد شيت في معرض الأكاديميين ، بسبب سفره الى خارج العراق - وآخرين لترسيخ هذا الاتجاه الجديد في العراق... لقد حان الوقت لوضع أكاديمية عراقية جديدة بشمولية الفن العالمي."

يعرف المتابع للحركة التشكيلية أن سبعينيات القرن العشرين شهدت نتاج هذه الحركة في العراق التي بدأت وتيرتها تتسارع منذ النصف الثاني من حقبة الستين؛ وهي حقبة تزامنت مع عودة عدد من الفنانين الشباب إلى أرض الوطن حاملين معهم أفكارهم وتجاربهم التي اكتسبوها من دراساتهم الفنية في معاهد العالم شرقها وغربها، فضلا عن التجارب المحدثة الرائدة للبارزين من أساتذة وخريجي معهد وأكاديمية الفنون الجميلة في بغداد. فقد مضت هذه التجارب في خطوات بنّاءة لإيجاد حداثة فنية لها مرجعياتها المحلية والشرقية. فلا عجب أن يثير معرض جماعة "الأكاديميين"، بطبيعة أعماله وموضوعاته وبيانه، جدلا واسعا في الأوساط الفنية آنذاك. فقد هاجمه الفنانون المحدثون لما وجدوا فيه من انحراف عن مسار الحداثة الذي يسعون إلى مواصلة البحث والتجريب فيها، وهو المسار الذي يعد كاظم حيدر رأس رمح فيه.

في معرض تعليقه على ظهور هذه الجماعة، يرى شاكر حسن آل سعيد أن:" لوضوح الفكر اليساري في مطلع الستينيات كان له أثره في صبغ ثقافة الفنان". ويقول أيضا إنه إلى جانب الجماعات الفنية التي التزم أعضاؤها الأساليب الحديثة للتعبير عن المضمون "كان ثمة تيار آخر لا يكترث كثيرا بالشكل الفني الحديث ولا باستلهام التراث في الفن، ولكنه يكترث بما يستطيع أن يقدمه المضمون من معنى إنساني. بل إن إنسانية المضمون الفني أصبحت عبر هذا التيار مرتبطة بالموضوع الاجتماعي والسياسي، وبالموقف النقدي في آن واحد. ومع أن هذه الرؤية الأخرى ليست غريبة على الفن العراقي الحديث منذ مراحله الأولى في الأربعينيات ثم الخمسينيات، ومع أن تطور للأحداث السياسية بعد نكسة 1967 العسكرية والسياسية في صراع الأمة العربية مع الصهيونية كان قد ساهم في وضوحها، فإن تبلورها تقنيا وتفاعلها مع طبيعة التذوق الفني بالشكل الذي يضمن تجاوب كل الأذواق هو ما تحقق في ظهور الفكر الأكاديمي الذي التزمت به جماعة الأكاديميين. فجماعة الأكاديميين التزمت منذ بيانها الأول والأخير بإمكانية الرسم بشتى الأساليب، وتلك دعوى حية تظل في صلبها تمثل الذروة في الاهتمام بالمضمون دون الشكل." ويفصل آل سعيد وجهة نظره بهذه الجماعة قائلا: "إنهم لم يجدوا في الأسلوب الفني أي مجال للتجربة الإبداعية بل وجدوا فيه الوسيلة الجاهزة لطرح المضمون" .

كما لا يخفي ضياء العزاوي، في معرض حديثه عن كاظم حيدر، أساه وخيبة أمله فيما أقدم عليه هذا الفنان المجدد، فيقول:"كان تأسيسه لجماعة الأكاديميين امتدادا لميوله بين الحين والآخر للرسم الأكاديمي. لكنه كان إنكفاء محزناً لأبحاثه في تجديد اللوحة العراقية. فمشاركته في هذا المعرض (معرض الأكاديميين الأول أيار 1971) بأعمال تعود إلى عشر سنوات خلت عندما كان طالبا في لندن، متجاهلا التميز النوعي لمعرضه "ملحمة الشهيد"، ومساهماته المتفرقة، ومفترضا بأن مشاركته هي من أجل إتاحة المجال لأفراد المجموعة للعرض (بإشارة إلى البيان)، هو في واقع الحال البداية لإهمال منتظم لدوره الفني وطاقته الإبداعية عبر لجوئه إلى أبحاث محافظة ونجاحات ذات تاريخ قصير."

كان فيصل لعيبـي  واحدا من المشاركين في المعرض الأول لجماعة "الأكاديميين"، وله وجماعته رأي آخر، وموقف جدير بالبحث والوقوف عنده في معرض الحديث عن تجربته. يمثل فيصل لعيبي جيلا من الفنانين العراقيين الذين قدّر لهم أن يعيشوا حالة الشتات والهجرة في وقت مبكر. فهو يمثل ما يعرف زمنيا بجيل السبعين، وهو جيل تتلمذ على أيدي كبار أساتذة الفن في العراق، وكان مؤسسا تأسيسا أكاديميا وثقافيا متينا. لكن ظروف العراق الداخلية آنذاك أجبرت عددا منهم على الهجرة لأسباب سياسية في أغلب الأحوال. كان ذلك في منتصف السبعينيات، أي في الوقت الذي كان فيه فيصل وزملائه في بداية مراحلهم الفنية، ولم يكن قد تسنى لهم أن يبلوروا رؤاهم ويقيموا مشاريعهم. تركوا العراق وتوزعوا بين المدن الأوربية، مخلفين فراغا في حلقة التواصل والتراكم الفني بين الأجيال في العراق.

يقول فيصل متحدثا عن بداياته، وعن دوره في جماعة الأكاديميين

"عند وصولنا إلى بغداد، الفنان صلاح جياد والفنان حسن شويل وأنا من البصرة،كنا نمتلك المهارة الأكاديمية التي عرفنا بها ونحن في البصرة، ولم تكن هناك – على الأقل بالنسبة لي –  معرفة معمقة بتجارب الفن الحديث في أوربا، وبسبب ارتباطي بقيم المهارة والصنعة وعملية الخلق الفني، تمسكت بمبدأ الوحدة بين طرفي المعادلة. لقد فوجئنا بالتبسيط والاستسهال الذي كان العديد من أساتذتنا في المعهد والأكاديمية يمارسون فيه تعليم الرسم، وكانت دعواتهم المصرّة على نبذ الرسم الأكاديمي للطلبة، تعكس ضعفهم في هذا الجانب، باستثناء مرسم الفنان الكبير فائق حسن، الذي زرع فينا كيفية فهم الشيء الذي أمامنا وكيفية تحويله إلى عمل فني، مع احترام ماهيته وكينونته، من دون فقدان ذاتيتنا وخبرتنا الخاصة. لهذا كان صراعنا مع بعض الأساتذة ينطلق من هذه النقطة، وهي مسألة حيوية، لأنها تؤكد على ما هو أساسي وملموس. كان الفنانون الكبار، في الماضي، يمنحون الإجازة في المهنة للطالب، بعد تأكدهم من وصوله إلى مستوى المهنة المطلوب، وهي طريقة، أجدها ضرورية حتى هذه اللحظة، للحفاظ على التقاليد الأصلية لكل مهنة، مثل الطب والهندسة والفيزياء وغيرها، وهذا لا ينفي عنها صفة الفن والموهبة والإبداع أبداً.  عكس ما يجري اليوم، حيث يبدأ الطالب من آخر منجزات الفنون الغربية."

يصرّ فيصل لعيبي على ضرورة امتلاك الفنان أصول الحرفة من أجل تحقيق مشاريعه الفنية، إلى الحد الذي يجعله يرى أن الإخلال بالأداء على وفق المقاييس الأكاديمية يكاد يكون "فضيحة".

ثم يتحدث عن كاظم حيدر ودوره في تكوين الجماعة، فيقول في الرسالة نفسها "لم يكن كاظم حيدر يملك مقدرة الحركة الفنية العراقية. من هذه الزاوية أدرك أهمية تأسيس جماعة الأكاديميين، ليس لغرض التعارض مع ما يجري حولنا، بل لزرع مفاهيم قابلة للنمو في تربتها الأصيلة، أي البدء من ملاحظة الواقع، لا كتسجيل فوتوغرافي له، بل لتفسيره فنياً. ولهذا تكلم عن سعة هذا الفهم للعالم المرئي الذي ضم في طياته معظم مدارس الفن في العالم منذ رسوم الكهوف و رأس سرجون الأكدي ورأس نفرتيتي  مروراً بمنحوتات اليونان والرومان وعصر النهضة حتى عصرنا الحالي، الذي لم تختف فيه الأعمال التي جعلت العالم الواقعي والمرئي المنظور مادتها الأساسية."

في أثناء إقامته في باريس على مدى تسع سنوات، تسنى لفيصل لعيبي أن يتعرف إلى الحركات الفنية، ويقف طويلا أمام لوحات أساطينها في اللوفر، بقدر ما تسنى له أن يتواجه عيانا مع فنون وادي الرافدين ويتأملها عن كثب في المتحف نفسه. إلى جانب ذلك وجد أمامه فرصة الاطلاع على أصول مدرسة بغداد في رسوم الواسطي التي زيّنت مقامات الحريري في المكتبة الوطنية في باريس، ودراستها بإمعان، فهي الأعمال التي ألهمت من قبله جواد سليم وجعلته يندفع وراء البحث عن سبل تحقيق شخصية عربية في الفن الحديث. ويؤكد ذلك بقوله: "إنها تراثي! إنني أجمع كل شيء عن طريق السمع والحديث والقراءة. إنني فخور بالانتماء إلى هذه الأرض وهذه التقاليد التي منحتني القوة ."

في الغربة وجد الفنان فيصل نفسه وجها لوجه أمام تراث عراقي غني ، وفي الغربة أيضا وجد ما دفعه إلى البحث عن الذات، فيقول:

" بعد تنقلاتي في مدن مختلفة، تجذّر عندي الموضوع العراقي، ولماذا لا يكون الموضوع عراقيا، وعراقيا بتصميم مسبق؟  لقد ظهر لي العراق في الغربة في متحف اللوفر وفي شخص الحاكم گوديا ملك لگش الوديع ، كما ظهر الرب لموسى، وقد مدني بالقوة والمنعة وحصّنني من فقدان هويتي في عالم يجري بسرعة فائقة، ويتغير بشكل مفاجئ. لقد كانت لوحات البغدادي التي نفذتها انعكاساً لهذا الانبهار الذي أحسست به وأنا أمام هذا الملك العادل والجميل والفائق الرقة والمهاب معاً."

وهنا يقر فيصل لعيبي بأهمية التجارب التي أقدم عليها من سبقوه من الفنانين العراقيين الذين تنبهوا في وقت مبكر إلى مسألة المرجعية الفنية الغربية بوصفها المرجعية الفنية الوحيدة، فسعوا إلى البحث عن مرجعيات ذات أصول محلية أو شرقية، ويرى أن رواد هذا التوجه بعد جواد سليم، هم شاكر حسن وكاظم حيدر وطارق مظلوم ومحمد غني وإسماعيل فتاح وضياء العزاوي ورافع الناصري.

تتجلى وشائج هذا التأثر وتلك العلاقات ما بين التراث الفني العراقي وأعمال هذا الفنان لدى مشاهدة لوحاته التي تصوّر الشخصيات البغدادية بأسلوب واقعي مضخّم. فبناء أجسام هذه الشخصيات يقوم على اعتماد كتل مدورة متماسكة، توحي بطابعها الذكوري المتسلط. كما أن معالجته الموضوعات الشعبية تكشف عن بعد مسرحي في تصميمها ومضمونها السردي. بعض أعماله المنفذة بالحبر والألوان المائية على الورق، تشي موضوعا وشكلا، بأعمال المنمنمات الإسلامية المتمثلة بمدرسة بغداد للواسطي.

لدى التطلع إلى أعمال فيصل لعيبي المنجزة على امتداد أربع حقب، سواء أكانت تلك المنفّذة داخل العراق أو خارجه، كما تظهر في الكتاب الفني الشامل الذي صدر متزامنا مع معرضه الأخير في عمّان (دار الأديب، عمّان 2009)، أن موقف فيصل لعيبي من تصوير الموضوعات المستوحاة من الواقع المرئي والمشاهد الاجتماعية المتوارثة، نابع عن موقف جمالي فني آثر الفنان أن يتخذه وسيلة للتعبير عن رؤيته بأبعادها الاجتماعية أو العقائدية. فهو لم يتنازل عن قناعاته التي تبلورت في بداية حياته الفنية وتجلّت بمشاركته في جماعة "الأكاديميين". بل إنه على الرغم من وجوده في قلب العالم الغربي ونزعاته الفنية الحداثية

وما بعدها، ظل متمسكا إلى حد كبير بمشروعه التشخيصي العراقي، واستنباط خصوصيته الفنية من خلال هذا المسار. يقول:" .. أنا في النهاية فنان تقليدي لا أزال أمارس الأسلوب القديم في الرسم، مثل القماش والفرش والمواد المختلفة من الحبر والباستيل وأقلام الفحم والرصاص وما إلى ذلك، وكذلك الحال مع النحت أو السيراميك."

موضوعات فيصل لعيبي تشمل بشكل عام  البورتريه ومشاهد المدن العربية، وغير العربية، بأزقتها وحواريها وملامحها المعمارية، إلى جانب ولعه بتصوير الحياة الشعبية البغدادية. جل هذه الأعمال منفذة بالزيت على القماش، إلى جانب كم آخر من أعمال تخطيط على الورق بالقلم أو الحبر أو الفحم، ولديه أيضا تجاربه في النحت. من الملاحظ أن أمزجته في التصوير تتقلب تبعا للموضوع الذي يتصدى له. فهو يصوّر المشاهد الطبيعية والدينية والبورتريهات بأسلوب تعبيري حاد، وقد يميل في بعض الأحيان إلى الإمعان في تحريف الوجه، بل تعذيبه، كما قد نجد لديه بعض الأعمال التجريدية التي توحي بمشاهد من المدن الأثيرة إلى نفسه، في مقدمتها البصرة.

أعماله التصويرية الزيتية، وتخطيطاته على الورق، لا يمكن وصفها بالأعمال الأكاديمية التقليدية. فما تعكسه من تضخيم للشخصيات، وتسطيح في البناء واستخدام ألوان صارخة نقية في معظمها، تشي بمرجعية عراقية تذهب إلى تخوم حضارات العراق المتعاقبة. ولعل ما تميزت به مسيرته الفنية يتجسد، كما أرى، في مشروعه التصويري الذي كرّس له معرضه المقام في عمان 2009. إذ قدّم لوحات ذات مرجعيات محلية وحضارية موروثة، كما تحمل أيضا مؤثرات ثقافته الغربية التي تتلمذ عليها، خاصة في طبيعة بناء مفردات الصورة وتصميمها وتوزيعها على السطح. لقد تفاعلت هذه المؤثرات لتنتج في نهاية الأمر لوحة عراقية بامتياز. ومن يتصفح مسيرته الفنية الموثقة في كتابه الفني الشامل يجد أن جذور هذه الأعمال البغدادية تعود إلى مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، كما أن البعض منها نفّذ في منتصف تسعينيات القرن نفسه، لكن التجربة انقطعت، كما يبدو، لتعود ثانية بزخم أقوى، ومجال أرحب. هكذا أضاف الفنان إلى الحركة الفنية في العراق، من خلال هذه الأعمال، لونا فنيا قائما على أداء متين لواقعية ذات نكهة محلية مميزة؛ واقعية تتجاوز واقعيتها بما توحي به من دلالات، أسوة بالنهج الذي اتبعه أسلافه السومريين في منحوتاتهم الرمزية.

يقدم فيصل لعيبي لوحة لا تخطئها العين، لوحة عراقية تتوافر على عناصر جذّابة تفرض حضورها على المشاهد؛ قد تجعله يكتفي بقراءتها قراءة عابرة، بقدر ما تغريه على التأمل في تفاصيلها وتتبع ما تنطوي عليه من معان ورموز خفية. ولا أدري إن كان بحثه عن الذات قد وجد ضالته في هذه المحطة المهمة من تجربته، وإلى أي مسار ستأخذه مستقبلا ؟

مي مظفر

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
اتفاق بين العراق وتركيا.. تخصيص عادل ومنصف للمياه العابرة للحدود
أردوغان يعلن نقطة تحول في العلاقات مع العراق ومباحثات واتفاقات تخص العماليين والمياه
العراق وتركيا وقطر والإمارات.. توقيع مذكرة تفاهم رباعية للتعاون بـ"طريق التنمية"
زيارته الأولى منذ 13 عاما.. ماذا يحمل إردوغان في جعبته للعراق؟
الفصائل تتمرد على الحكومة وعلى تفاهمات واشنطن: يدانا ليست مكبلة بالأوامر الرسمية !
يوم الأرض العالمي، 22 نيسان 2024
شقيقة الباحثة الإسرائيلية المختطفة بالعراق "تهاجم" السوداني في واشنطن
انتصار نقابي تاريخي لموظفي فولكسفاغن في الولايات المتحدة، ونقطة تحول تزيد من رهانات الانتخابات في ألاباما
تعزية من الاتحاد الديمقراطي العراقي
رصد طائرات استمطار.. هل تسبب تلقيح السحب بفيضانات الإمارات؟
الأمم المتحدة: 19 ألف طفل يتيم بغزة بعد مقتل 6 آلاف أم
واشنطن وبغداد.. مواصلة البحث بشأن إنهاء مهمة قوات التحالف
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة