الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
أحمد الصافي النجفي في ذكراه الثامنة والثلاثين:شاعر الفقر والمنفي ونبوءاته العراقية
السبت 22-08-2015
 
المدى

في أواخر شهر حزيران الماضي مرت بصمت ثمانية وثلاثون سنة على وفاة الشاعر الكبير المغترب أحمد الصافي النجفي (1897- 1977)، فلم يحتفل – حسب علمي – بذكراه أحد، كما هو الحال مع غيره من أعلام العراق من جيله، وهو أمر يؤسف له، لكن الصافي قد تعود على هذا الموقف السلبي من المؤسسات الثقافية في حياته، فلا عجب أن يطاله بعد مماته..ولأن الصافي كان يبادلهم الموقف نفسه، فقد كان زاهدا في حضور المهرجانات وحفلات التكريم والظهور الإعلامي وما شابه.وأحمد الصافي النجفي غرس للمدرسة الشعرية العراقية، احتضنته ربوع سوريا ولبنان، فنما وتفتح وأثمر عطاء أدبياً ترك أثره الكبير في دنيا الثقافة العربية. كان شاعراً ينأى عن التقليد، ولذا شق لنفسه طريقاً جديداً وغريباً صدم النقاد ومتذوقي الشعر في بادئ الأمر، خصوصاً في حقبة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، والتي اعتاد الناس فيها على القصائد التي تعنى بالشكل المبهر، والقوافي الرنانة، والديباجة العباسية والأندلسية التي كانت شائعة في مدرسة النجف في العراق حيث نشأ الصافي، أو في بلاد الشام التي كانت السيادة فيها لمدرسة أحمد شوقي وأمثاله من جيل الرواد.

لكن الكثير من الشعراء والنقاد ومتذوقي الشعر بوجه عام، سرعان ما أدركوا المزايا الفنية والجمالية في شعر الصافي، فضلاً عن المرامي الفلسفية والوجودية العميقة التي ينطوي عليها، وتعاملوا معها بشكل إيجابي، فلمع نجم الشاعر، وذاع صيته في العراق والعالم العربي.

تعرفت عليه في دمشق اواخر الستينيات، ومقره شبه الدائم هو مقهى (الهافانا) شتاءً، ومقهى (الكمال) صيفاً..والمقهى يكاد يكون بيته الحقيقي، ففيه يستقبل ضيوفه، ويتناول طعامه، ويقرأ الصحف، ويكتب الشعر، بل ويأخذ اغفاءة في الظهيرة، حينما تخلو المقهى من الزبائن، ويبقى حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم يأوي الى غرفته الكائنة في احد المساجد بسوق الخياطين المتفرع من سوق الحميدية في دمشق القديمة، وهي غرفة أثرية باردة وصفها مرة فأجاد الوصف، واغرب فيه، قائلا:

أصارع البرد في سراجٍ

يكاد من ضعفه يموتُ

في غرفةٍ ملؤها ثقوبٌ

او شئت قل ملؤها بيوتُ

يسكن فيها بلا كراءٍ

فأرٌ وبقٌ وعنكبــوتُ!!

هذي نداماي في الدياجي

عاد بها شملي الشتيتُ

***

كان صالون الصافي مدرسة ادبية وفكرية مفتوحة رفدتني بمعارف جديدة، لأن رواده كانوا من مختلف الأقطار والاختصاصات والديانات والمذاهب والأيديولوجيات، ففيهم السوري واللبناني والمصري والفلسطيني والاردني والعراقي والسعودي والمغربي، ومن العرب في المهاجر الاوروبية والأمريكية، فضلاً عن البلدان الإسلامية الشرقية كإيران التي عاش فيها الصافي ردحاً من الزمن وأتقن لغتها فساعده ذلك على ترجمتة الشهيرة لرباعيات الخيام منذ ما يقرب من تسعين عاما، والتي اعتبرها كبار شعراء الفرس أمثال الشاعر الكبير محمد تقي بهار ملك الشعراء، بأنها أدق ترجمة عربية للرباعيات. وكل واحد من هؤلاء يمتلك ثقافة خاصة مشربة بالبيئة الجغرافية والاجتماعية التي عاش فيها. فتكونت لدي منذ ذلك الحين فكرة اعمق عن فلسفة التعددية، وأن ما كنا نراه في مجتمعاتنا هو مظهر واحد من لوحات ثقافية كثيرة، لها أسسها وأدلتها ومنطقها الخاص، كما هو الحال بالنسبة لنا.وعلى الرغم من أن الأستاذ الصافي -رحمه الله- كان شاعرا، ويفترض أن يسود الخطاب الأدبي في مجلسه، فإن موضوعين آخرين كانا مثار بحث منه أو من جلسائه وهما: الفلسفة والسياسة، فكثير من دارسي شعره يرون أن الصافي له فلسفة خاصة في شعره، لم يقصدها قصداً، لكنها تأتي عفواً في أكثر الاحيان!..أما الشأن السياسي فقد كان الصافي به مغرماً ومتابعاً، ولكنه كان حذرا جداً حينما يتناول قضاياه اليومية المباشرة، بسبب تجاربه المريرة التي أدت به الى السجن والهرب من حكم الاعدام. فقد حدثني عن مشاركته في التحضير لثورة العشرين جنباً الى جنب مع أخيه الأكبر السيد محمد رضا الصافي أحد قادة الثورة، والاجتماعات التي كانت تتم في بيتهم في النجف لهذا الغرض، ثم قامت الثورة وحررت أجزاء كبيرة من العراق من الاحتلال الانجليزي، كما كبدت جيش الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، لكنها توقفت بعد ستة اشهر بسبب نقص الذخيرة والتفوق العسكري للمحتل واسباب اخرى لا مجال للتفصيل فيها الآن. وحينما دخلت القوات البريطانية ثانية لمدينة النجف اعتقلت أخاه، ونقلته الى سجن الحلة مع عدد من رموز الثورة وقادتها، اما شاعرنا فقد استطاع الخروج من النجف والوصول الى ايران.وتشاء الأقدار ان تكون للصافي تجربة مريرة أخرى ولكن في لبنان. فحينما قامت ثورة مايس عام 1941 في العراق بقيادة صلاح الدين الصباغ والتي عرفت بحركة رشيد عالي الكيلاني، قاد الصافي مظاهرة في بيروت لتأييدها، ولما كانت تلك الحركة مدعومة من المحور بقيادة الالمان نزلت القوات البريطانية في لبنان لمواجهة التطورات الخطيرة التي حصلت في العراق، واعتقلت المتعاطفين مع الانقلاب، وكان الصافي منهم، وأودع السجن، لتكون حصيلة تجربته تلك ديوانا شعريا كاملا عنوانه (حصاد السجن)، قدم له الأديب والناقد اللبناني الراحل رئيف خوري، الذي اعتبر هذا الديوان أهم ما كتب في أدب السجون في الشعر العربي.

ومنذ العشرينيات من القرن الماضي أدرك الشاعر اهداف المستعمر التي تتلخص في الهيمنةالعسكرية والسياسية ونهب الثروات وإفقار الشعوب وغياب التنمية، مما يبقي تلك الدول التي حصلت على استقلالها ظاهريا تابعة للدول المستعمِرة فعلياً وواقعياً. وقد كتب الصافي قصيدة بطريقته الساخرة عن أوضاع العراق، وبخاصة في مجال الطاقة والمياه.فنحن دولة نفطية منذ أمد بعيد لكن العراق في الماضي والحاضر، وبعد أكثر من ثمانين عاما مازال يعاني من انقطاع الكهرباء وشح المياه وسوء الإدارة والطغيان وغيرها من الأمراض المهلكة التي عطلت هذا البلد وأسلمته الى المجهول، وجعلت من صار دولة بالامس يتطاول عليه، ويتدخل في شؤونه ويعيق تقدمه واستقراره. يقول الصافي وكأنه ينطق بلسان الحاضر:

ما للفرات يسيل عذبـــــــــــــــاً ســائغاً

عجبًا وشُرْب بني الفرات أُجاجُ

الفقر أحدق في بنيـــــــــــــــــه وإنما

ماء الفرات العسجد الوّهاجُ

جاءته حوت البحر ظامئـــــــــة له

أو ما كفاها بحرها العجّاجُ

النفط شبَّ بجوفه نــــــــــــــاراً فهل

يطفي سناها ماؤنا الثَّجَّاجُ

النفط يجري في العراق وما لنا

ليلاً سوى ضوء النجوم سراجُ!

قـــــد أثقلوه من القيود بمرهفٍ

وأحاط فيه من العداة سياجُ

زعموه مختاراً وقد وضعتْ لــــه

تحت الصوارم والقنا أوداجُ

أيكون ذا رشدٍ بعقد عهودهـــــم

وبغير ذاك لقيّمٍ يحتاجُ

أسروا العراق فكم فدينا آنفـــــاً

عنه فهل لأسيرنا إفراج؟؟

إن الأدلـــــة ليس تــــــــقـــــــــــرن طامعاً

حتى يقرّن بالدليل هياج

أضحى عراقي للمطامع كعبـــــــــــــــــــــةً

فيها لمختلف الورى حُجّاج

حتى النعاج طمعنَ في استعماره

ما حال من يطمعنَ فيه نعاج!

داء المطامع إن تأصَّلَ لم يفد فيه

سوى قطع الوريد علاج

طعنوا فؤادك في الصميم ولم تهج

فبأي شيءٍ يا هزبر تُهاج

ما صفَّقتْ أمواج نهرك عن هَنا

هزءًا عليك تصفق الأمواج

لا يعرفونك إنْ حقولك أجدبتْ

بل يعرفونك إذ يحين خراج

سوق السيـــــــاسة كم تروج وهل ترى

فيه لسوق التضحيات رواج

لا يستقرّ على السياسة مبـــــدأٌ

إن السياسة زئبقٌ رجراج

لا تحسب (الحَجّاج) مات ولم يعد

فلكل عصر عندنا (حَجاجُ)!

لقد زهد شاعرنا بالمناصب، وكان بامكانه الحصول عليها كما حصل عليها اقرانه او من هم دونهم، ورضي من دنياه بالشعر وبغرفة في مسجد للاوقاف في دمشق القديمة، مع الفقراء والمعدمين الذين لا سكن ولا اهل لهم. ولكي تكتمل فصول تراجيديا هذا الشاعر، تحاصره نيران الحرب اللبنانية وهو في بيروت حيث كان يقطن في الخط الفاصل بين ما كان يسمى بيروت الشرقية والغربية، وهو خط تصب فيه النيران كالحمم، ويبقى اياما لا يستطيع الخروج، ونفد كل ما عنده من طعام او شراب، فخرج ابن الثمانين يطلب خبزا يسد به رمقه من محل قريب منه، فتصيده قناص مأجور منعدم الضمير واطلق عليه رصاصات طرحته ارضا، وبالصدفة مرت سيارة اسعاف نقلته الى المستشفى وظنهم انه قد فارق الحياة، لكنه كان حيا، فرجع الى العراق بعد غيبة ما يقرب من نصف قرن، وقد كف بصره، فقال بيته الشهير الذي يختزل الكثير من المعاني والمفارقات:

يا عودة للدار ما اقساها.....اسمع بغداد ولا اراها!!

ولم يطل به المقام بعد رجوعه العراق سوى عشرة اشهر، وتوفي في 26/6/1977

رحمك الله يا استاذنا الكبير.. يا من فتحت لنا ابوابا بل كنوزاً من المعرفة الادبية والفنية والفكرية قل ان نجد لها نظيرا عند غيرك.

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
تعزية من الاتحاد الديمقراطي العراقي
رصد طائرات استمطار.. هل تسبب تلقيح السحب بفيضانات الإمارات؟
الأمم المتحدة: 19 ألف طفل يتيم بغزة بعد مقتل 6 آلاف أم
واشنطن وبغداد.. مواصلة البحث بشأن إنهاء مهمة قوات التحالف
على الرغم من الدعوات الدولية إلى ضبط النفس، إسرائيل تواصل التهديد وإيران تحذّر
السوداني يلتقي بايدن في البيت الأبيض
تقرير أميركي: 5 صواريخ إيرانية أصابت قاعدة "نيفاتيم" الإسرائيلية
التحالف الدولي أسقط 30 صاروخاً ومسيرة إيرانية في الأجواء العراقية
بعد الهجوم الإيراني.. مساع أميركية لاحتواء الرد الإسرائيلي
بينها عربية.. دول أقرت بالتصدي للهجوم الإيراني ضد "إسرائيل"
معضلة المياه مستمرة والموارد تحضر مذكرة تفاهم مع تركيا لحلها
الحرس الثوري يعلن قصف "اهداف مهمة للجيش الإسرائيلي"
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة