هكذا صدر القانون رقم 188 لسنة 1959 ورحبت به الأوساط المتنورة بينما هاجمه آخرون بضراوة لأنه ساوى في الميراث بين الذكر والانثى. وكانت نزيهة الدليمي هي كبش الفداء. وهي تقول إن الذين حاربوها كانوا من «الخصوم السياسيين ومن الرجعيين». الأوائل لأنها شيوعية والتوالي لأنها امرأة. أما الزعيم فقد أخذ منها البلديات وجعلها وزيرة بلا حقيبة حتى خريف 1960.
كان رذاذ الحملة عليها قد بلغ أُسرتها وأصاب والدتها وأُخوتها، فارتأى الحزب أن تغادر العراق، وذهبت بالفعل الى موسكو وظلت هناك لحين قيام انقلاب البعثيين على عبد الكريم قاسم في 1963، فانتقلت الى براغ وساهمت في تشكيل حركة الدفاع عن الشعب العراقي، مع الشاعر الجواهري، والدكتور فيصل السامر، وشاكر خصباك، وأرسلت الحركة برقية الى الرئيس عبد الناصر تطالبه باستخدام نفوذه لوقف ما يجري في العراق من تصفيات، وردّ الرئيس المصري ووعد خيراً. وفي تلك الفترة كتب الجواهري قصيدته الخالدة «يا دجلة الخير». كما دفعت الحركة الرفيق خروتشيف لكي يرسل برقية الى بغداد للتوسط في تخفيف الحكم على ثلاث شيوعيات حكمن بالاعدام، هن سافرة جميل حافظ، وزكية شاكر، وليلى الرومي. وتم إنقاذ حياتهن.
أواسط ستينات القرن الماضي، بعد انقلاب عبد السلام عارف على البعثيين، بدأ الحزب الشيوعي بإعادة كوادره الموجودة خارج العراق، وكان اسم نزيهة في آخر القائمة، فعادت بشكل سرّي في بداية 1968 وفوجئت بعزاء مقام في بيت الأُسرة. لقد توفي أخوها بسكتة قلبية تاركاً ثلاثة أبناء، وكانت قد حضرت عقد قرانه قبل تركها العراق. ورغم أن الحزب كان قد أعاد النشاط لرابطة المرأة العراقية وتمت استعادة كوادرها، لكن انشقاقاً فيه دفعه الى وقف نشاطها تلافياً للمشكلات في صفوفها. بقيت الدليمي في الوطن عشر سنوات. وهي لم تتزوج لأن الجيدين من رفاقها كانوا في السجون، حسب قولها، ولأن النضال التهم أجمل سنوات عمرها. وفي عام 1977 غادرت العراق ولم تعد إليه. وهي قد درست، في منفاها، تاريخ بلدها في مراحله المختلفة، وتاريخ الحركة الوطنية فيه، على أمل أن تؤلف كتاباً يحمل نظرة نقدية لتلك الحركة. كما ظلت تتلقى، في بوتسدام، مطبوعات الحزب الشيوعي، وكانت تقرأ كثيراً وتشاهد التلفزيون وشاركت في ملتقيات قليلة قبل أن تصاب بالعارض الصحي الذي أقعدها. وعلى المنضدة الصغيرة، بجوار سريرها، شاهدت مصحفاً وكتاباً عن حياة لينين. ولما لمحت استغرابي من اجتماعهما قالت «لا تعارض بينهما طالما أن لينين كان يريد خير البشرية». وقالت أيضاً إنها نادمة لأنها لم تمارس الطب بشكل كاف، تلك المهنة التي أحبتها، لكنها أحبت الوطن أكثر منها. «كيف أشتغل في الطب ووطني يخضع للحماية البريطانية؟».
عاشت نزيهة الدليمي 85 عاماً وماتت، والعراق تحت الاحتلال الأميركي، والقوات البريطانية عادت الى البصرة بعد نصف قرن من الجمهورية. ماتت وفي العراق اليوم، من الأجيال الجديدة، من لم يسمع باسم نزيهة الدليمي.