هكذا فجأة، تحولت خمس عشرة عربة من قطار حمولة قديم يستخدم لنقل الاغنام والماشية والاخشاب والحديد، الى قطار موت ورعب، قاده المرحوم عبد عباس المفرجي (اقدم سائق قطار عراقي) من المحطة العالمية في بغداد الى السماوة، في رحلة غرائبية، اختصر زمنها من عشر ساعات الى ستة (قرون) حمر مشحونة بكل اصناف الالام والرعب والضياع،
ومليئة بالمفاجآت والمعجزات الكبار التي حالت دون وقوع ابشع جريمة سياسية واخلاقية في تاريخ العراق الحديث والقديم في آن واحد!!
رحلة (اعتيادية جداً)
قبل (49) عاما، في ساعة متأخرة من ليلة 3 على 4 من تموز عام 1963، استيقظ (عبد عباس المفرجي) على وقع ضربات صاخبة على باب بيته الواقع في حي العباسية – بغداد / كرادة مريم.
فتح الباب على عجل، وقلص عينيه ليتعرف على ضيوفه الطارئين، في تلك الليلة التي سيتذكرها طويلا، حتى بعد موته!
كان قلقا على مصير اخيه (المعتقل) وسط احداث رهيبة عصفت بالعراق في صبيحة ذلك اليوم الذي شهد اندلاع حركة (حسن سريع) في معسكر الرشيد.. وكان كل ما يعرفه، شأنه شأن العراقيين جميعا هو ان انقلابا جديداً قد وقع، وان الموقف ما زال مضببا.. ولكنه فوجئ بمفرزة من حراس المحطة العالمية تبلغه عن رحلة مفاجئة تتطلب حضوره على الفور، لقيادة قطار حمولة، يحمل (مواد حديدية خاصة) الى السماوة.. فرك عينيه كثيرا وهو يتبين البلاغ الطارئئ ويتفحص وجوههم. ورأى ان تلبية نداء الواجب اصوب من نومة قلقة لساعات اعتاد على ضياعها المتكرر.. ولذلك جهز نفسه على الفور، وذهب بمعية المفرزة الى المحطة، ليتسلم تعليمات رحلة (اعتيادية) الى السماوة تستغرق اكثر من عشر ساعات (ستصبح رحلة وحشية اجرامية بعد ساعتين فقط!!).
قلق
في العادة كان عبد عباس المفرجي يذهب، حال وصوله الى المحطة في رحلات كتلك، الى مأوى القاطرات لجلب القطار وحده (بدون عربات)، ويتجه به الى محطة غربي بغداد لغرض ربطه بالعربات التي عادة ما تكون جاثمة هناك، ولكنه لاحظ للمرة الاولى ان العربات كانت منقولة ومربوطة بالقطار، وان ابوابها مضروبة (سير وربد) وعندما تسلم (اللاين كلير) انتبه الى ان حراس القطار لم يزودوا بمفاتيح اقفال العربات، وان المحطة تبدو خالية من العمال المدنيين، كما لاحظ، وهذا ما جعله يعزف عن فرك عينيه المتكرر ويدرك ان المرحلة غرائبية جدا وليست اعتيادية كما جاء في اوراقها، ان الحضور هم من المسؤولين العسكريين وحرسهم، اضافة الى بعض المسؤولين الحزبيين، وعدد من رجال الحرس القومي (اشهر الحضور في تلك الليلة كان عبد السلام عارف وطاهر يحيى ورشيد مصلح التكريتي ومصطفى الفكيكي) حذق سائق القطار ايضا في وجوده الحرس، ولاحظ حركتهم الخجلة وازياءهم المدنية المنتحلة وكأنهم في حفلة تنكرية، بسبب عدم اتقانهم لارتدائها، وادرك بفطرته ان من ارسلهم بهذه الازياء بهدف الى الامعان في التمويه، لكي يظهروا بمظهر عمال وفلاحين من ابناء منطقة الفرات الاوسط، وان مهمتهم الحقيقية هي منع واحباط اية محاولة قد تأتي من الخارج لكسر الاقفال ، طالما ان فتح الابواب من الداخل هو المستحيل بعينه.
فكر عبد عباس المفرجي مرة اخرى بتعليمات الرحلة، واسباب التأكيد على ضرورة السير (ببطء تام) للحفاظ على (المواد الحديدية الخاصة) وثارت شكوكه مرة اخرى حول نوع المواد التي يحملها القطار وسبب تعيينه بالذات لقيادة هذه المرحلة القامضة.. فهو رجل مسالم، ليس سياسيا ولكنه امهر السائقين وخبير بالقطارات ورحلاتها!!.
العراقي المجهول
الاسوأ من كل ذلك ان القطار قطع حتى هذه اللحظة اكثر من (140) كيلومترا (!) وهو يسير ببطء شديد، تنفيذا للتوجيهات القاضية بضرورة الالتزام بسرعة القطار البطيئة جدا.. ولكن القلق الذي انهك عبد عباس لم يستمر طويلا، والقطار الذي تهادى كثيرا ملتزما بالتعليمات سيتحول ان (صاروخ)، اما الشكوك التي احاطت السائق فستصبح كمثل الصاعقة، وتقع على رأسه بعد جملة بدت وكأنها معجزة من السماء!
يقول سائق القطار (اثناء توقفي قبل منتصف الطريق في احدى المحطات صعد شخص مجهول في الثلاثين من عمره وقال لي: (خالي، تعرف ان حمولتك ليست حديدا، بل بشر، هم من افضل ابناء شعبنا)!!؟؟
ارتعد (المفرجي) منذهلا من هول الصدمة، ومن حقيقة لا يمكن تصديقها.. فكيف يمكن لأي انسان ان يتحمل حرارة شمس تموز التي تصل الى اكثر من (50) درجة مئوي وهي في الظل، والى اضعافها في داخل عربات حديدية محكمة الاغلاق وغير مبطنة، ومعرضة لاشعة الشمس اللاهثة منذ عدة ساعات متواصلة!، بل كيف سيكون عليه الحال داخل تلك الافران المستعرة بعد ان يقطع القطار اكثر من (288) كيلومترا حتى وصوله الى السماوة وهو يسير بمثل هذه السرعة البطيئة، التي ستتطلب ساعات اضافية كثيرة على معدل العشر ساعات المقررة لرحلة اعتيادية؟!
لم يصدق عبد عباس هذه الجملة الصاعقة، ولكن المشاهد العديدة، المثيرة للظنون عادت فتلبسته مرة اخرى، بوجوه اكثر وضوحا مما كانت عليه ولكن اكثر حيرة ايضا!، ما دعاه الى تبليغ مساعدة (الفايرمان) بالذهاب فورا الى العربات ومحاولة التأكد من صحة ادعاء ذلك (العراقي المجهول) لماذا يبقى مجهولا حتى هذه اللحظة؟!
وبعد لحظات بعمر الاعوام، عاد (الفايرمان) مصعوفا وهو يصرخ باعلى صوته (حجي، طلع الحجي صدك)، اي ان المعلومة كانت صحيحة تماما!!
ركاب قطار الموت
ما لم يكن يعرفه السائق انه في حوالي الساعة العاشرة من نهار الثالث من تموز، اي بعد ساعتين تقريبا على تغير الموقف لصالح السلطة، انعقد بمقر وزارة الدفاع، في ظل اجواء مشحونة بروح الانتقام، اجتماع خاص لما يسمى بـ (المجلس الوطني لقيادة الثورة) لدراسة احداث (حركة الرشيد العسكرية) واتخاذ القرارات اللازمة بشأنها، وكان عبد السلام عارف اول المتحدثين بضرورة الانتقام العشوائي، يقف وراءه كل من احمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وعبد الغني الراوي وعدد من العسكريين الاخرين.
وفي الاجتماع الثاني الذي عقد مقر وزارة الدفاع ايضا، كان الاقتراح الاول هو اعدام جميع الضباط والمدنيين المعتقلين في السجن العسكري رقم واحد، ويقدر عددهم باكثر من الف معتقل!
وفي ساعة متأخرة من تلك الليلة اتفق الجميع على تشكيل (محكمة عسكرية) لمحاكمة المشاريكن والمتهمين بحركة حسن سريع العسكرية، والغاء فكرة الاعدام العشوائي وتقليصها الى مجزرة دموية (محددة) تشمل اعدام عدد من الضباط والمدنيين من السجن رقم واحد.. ولكن العدد تصاعد فيما بعد ووصل الى (520) معتقلا بعد ان شمل معتقلين من ذوي التعليم العالي يمثلون كل خريطة المجتمع العراقي القومية والدينية والسياسية، ثم انتقاؤهم من قبل المجلس نفسه، وشكلوا ما عرف بـ (ركاب قطار الموت) حين تقرر اعدامهم خارج بغداد، بعد نقلهم الى سجن (انقرة السلمان) قرب الحدود العراقية السعودية.
شتائم وتشجيع!
وفي تلك الليلة التموزية الساخنة، سمع المعتقلين في سجن رقم واحد وفي غيره من السجون طبعا. حركة واصواتا غريبة تتصاعد .. ثم فتحت ابواب الزنزانات الواحدة تلو الاخرى، وتليت قوائم باسماء عدد كبير من المعتقلين.. بعدها قام حرس السجن بجمع المعتقلين على الرصيف، وتم ربط ايديهم بالحبال خلف ظهورهم وراح الضباط (الاشاوس) يكيلون الشتائم والاهانات، بينما كان ضباط الصف يهمسون في اذانهم بعبارات التشجيع اثناء عملية الربط، التي تعمدوا ان تكون خفيفة!
ثم دفعوا بعدها الى عربات نقل عسكرية، اتجهت بهم الى الطرف الآخر من بغداد، وعندها ادركوا ان حركة السير تبدو طبيعية، وان الحياة ما زالت هادئة، على عكس تصوراتهم حول ارتباك النظام واضطراب الحياة، وهذا مازاد في احباطهم!...
وبمجرد ان لاحظوا ان العربات الناقلة تتجه بهم صوب المحطة العالمية، اعتقد اغلبهم انهم ذاهبون الى ساحة الرمي في ام الطبول!
الاعدام خنقاً!!
وصلت عربات، النقل العسكرية الى محطة القطار قبيل منتصف الليل، وهناك قضى المعتقلون وقتا طويلا وقوفا امام المحطة، ثم فوجئوا بالحراس يقتادونهم نحو قطار حمولة لنقل البضائع، يتألف من عربات تشبه الاسطبل، او (طولة) حيوانات محكمة الاغلاق، عارية الا من القار الساخن جدا.
شحنت (البضاعة السياسية) المؤلفة من خيرة شباب العراق بعد ان فكت قيودهم واربطتهم من (كلبجات) وسلاسل من حديد، وظلت حبال القنب التي ربطت حول ايديهم من قبل ضباط الصف فتحرروا منها بسهولة، ولكنهم شعروا بالرعب وضعفت معنوياتهم فور اغلاق الابواب الثقيلة وحلول الظلام عليهم بدلا من خيوط الصباح الذي بدأ يتنفس!
وبعد ترتيب كل شيء بما في ذلك احضار (الركاب المزيفين) الحرس، واكمال الاجراءات الفنية، تحرك قطار الموت ببطء لتبدأ اشهر رحلة اجرامية في التاريخ العراقي، حكم على ركابها الافذاذ بالاعدام (خنقاً) و(شياً) قبل ان تنتهي في السماوة، وقبل ان ينقل ضحاياها بالباصات الى نقرة السلمان على بعد (400) كيلو مترا!!
قدرة حديدية
قبل بدء الرحلة، بساعات، شعر الركاب بالبرد، واثناء انتظارهم المبهم داخل العربات، تسلل البرد الى اجسادهم النحيفة، فبقي اكثرهم واقفا، بينما جلس اخرون القرفصاء، منكمشين في زوايا العربات!
كانوا يتمنون طلوع الشمس، عدوهم التي ستستيقظ بعد حين، لتحيل العربات الى افران حديدية ساخنة جداً. وتلك هي صفات الجو الصحراوي الغريب!.
وما ان حلت الساعة الثامنة صباحاً حتى شعر الجميع انهم في تنانير اسطورية، سيقضون فيها حتفهم جميعاً.. ففيها العتمة المرعبة التي خيمت عليها غيمة ساخنة من بخار الماء، ومن روائح الغازات والاسفلت والاجساد، وفيها سينشغل الكل في تذكر احبابه الواحد تلو الآخر، قبل ان يفقد توازنه، ويشرع في الهذيان والصراخ والدعاء، ثم يغمى عليه طويلا حتى يرحمه الموت من قسوة الامة وبشاعتها.
كل عربة اذن هي قدر حديدي مغلق يتحرك ببطء وسط نار ملتهبة، تتصاعد حرارتها بقوة، لتعلو على حرارة الشمس في الخارج!، لماذا كل هذا العقاب!؟
لقطات من داخل افران الموت
* كان معظم السجناء لا يرتدون غير ملابسهم التي اعتقلوا فيها وهي بيجامة النوم!
* وفي محطة خان المحاويل ادركوا من بعض الثقوب القليلة جدا ان الفجر يبزغ والنهار قد بدأ يتكون.
* تحولت جميع العربات الخمس عشرة المؤلفة لقطار الموت الى جحيم حقيقي بعد ان قطع (110) كيلو مترات بين محطتي الحلة والهاشمية!.
* حسب التقديرات العلمية والطبية، يستسلم المعتقلون جميعا الى الموت بعد ساعتين فقط!
* بعض ركاب قطار الموت ترنم باغاني واناشيد شعبية قبل ان يستسلموا جميعا الى قدرهم المحتوم!
* في حوالي الساعة التاسعة من ذلك الصباح المشؤوم، بدأت حالة الركاب تسوء بسبب نضوح العرق وانخفاض نسبة الماء والاملاح في اجسامهم، فشعروا بالاختناق والغثيان وهبوط ضغط الدم والضيق والاغماء والتقيؤ والتبول وبعدها فقدوا الرغبة بكل شيء!
* يقول احد السجناء (بدأت اجسامنا تفقد سوائلها بسبب التعرق الشديد، واصبح الوقوف على الاقدام مؤلما جدا، والاتكاء على العربة غير ممكن، ولم تكن بحوزتنا قطرة ماء واحدة!
* بعد الغثيان ونقص الاوكسجين، انشغل الكثير من الركاب ببحث عبثي يائس، فاجتشدوا حول ثقوب (وهمية) لاستنشاق الهواء، رغم معرفتهم بها!.
* اغرب ما قام به ركاب قطار الموت انهم مارسوا عملية لحس عرق من الاجزاء المكشوفة من اجسادهم ثم تصارعوا على لحس عرق اجساد بعضهم البعض!
* الاطباء في قطار الموت من المعتقلين نصحوا رفاقهم بعدم خلع ملابسهم لكي يحفظوا طاقتهم كما يفعل البدو في الصحراء.
* الكثير من المعتقلين مارسوا الصراخ والضرب على الجدران لكي يلفتوا الانظار ولكن من دون جدوى!.
* لا احد من السجناء كان يعرف يقينا كيف سينتهي به الحال، خصوصا وهو يعلم علم اليقين انهم متروكون وحدهم لمصيرهم المحتوم.
* في اعلى درجات اليأس الذي خيم عل المعتقلين جميعا، في تلك العتمات الخانقة سمعوا صوتا خافتا من الخارج قرب شق الباب يقول (اخواني اصبروا، سيأتي الفرج قريبا.. سائق القطار لم يدر ما هو حمل قطاره، وقد ادرك الان وسيصل بكم الى السماوة بسرعة) .. كان شرطيا عراقيا شريفا (مجهولا ايضا)!، انتقل من عربة الى اخرى لينقل الى المعتقلين نفس الرسالة!.
* عندما شعر ركاب قطار الموت بتزايد سرعة القطار الى الدرجة التي بدأت معها العربات تهتز وتتأرجح لفرط السرعة، انتعشت امالهم من جديد، وتشبثوا بالحياة ولو كانت وهما!.
* لم يعرف السجناء ولا غيرهم حتى الان كيف علم ذلك النفر من ابناء المحاويل او في اية محطة اخرى بسر ذلك القطار، ليحتشدوا حاملين اسطل الماء لرش عرباته، اثناء توقف القطار ، او حين ببطئ من سرعته في محطات اخر!.
القرار الصعب
كل هذه الاحداث العاصفة واللقطات العنيفة لم يكن سائق القطار يعرفها، لا هو ولا حتى رجال الحرس.. انهم ضحايا ايضا مثل ركاب القطار، ومثل الملايين المحكومة (دائماً) بالبطش والارهاب والخداع.. ينفذون جرائم الطغاة بصمت، واذا ما علم احدهم بسر هذه الجريمة او تلك، اختار واحدا من اثنين، اما الذهاب الى حبل المشنقة (طوعا) او حفر نفق ضيق والعيش فيه الى الابد.
(عبد عباس) عرف الآن سر حمولة قطاره (وهذه جريمة!) وادراك انه يقود توابيت جماعية (وهذه جريمة كبرى) ، واذا ما استمر بتنفيذ التعليمات حتى نهاية المرحلة فإن جميع الركاب سيدركهم الموت حتماً.. ما ذا الذي يهمه قتل كل هؤلاء الناس؟، ولماذا يضعونهم في تنانير (يغطس) داخلها الدواب؟!
قرأ (ابو مظهر) المحنة من كل جوانبها، وادرك انه في يوم عصيب، ولكنه اختار عراقيته بسرعة، فحزم امره واطلق صفارته مستعجلا حراس حمولته، لينطلق بقطاره قبل الموعد المحدد وبسرعة قصوى غير مسموح بها لقطار حمولة في كل الاحوال.. لم يعد يهمه شيء اكثر من ايصال هذه (الامانة) باقصى سرعة (انهم من خيرة شباب العراق) وها هو (المخدوع) يدرك سرهم وسر (الوجوه المهمة) التي حضرت مراسيم الوداع والحرس الذين يحرسون (الحديد) دونما علم!!
سار بقطاره بسرعة تفوق سرعة (القطار السريع) بل قال بعض ركابه ان القطار كاد ان يطير بهم الى السماوة متجاوزا اكثر المحطات الباقية.
يقول السائق (وقعت في ورطة الخيار بين انقاذ الارواح البرئية وبين احتمال العقوبات المترتبة على عدم الالتزام بالتعليمات ولكن كان لابد من الذهاب فيها الى النهاية).
كان لابد من التحايل على العنصر الامني ايضا.. لابد من التلاعب بمؤشر السرعة خشية افتضاح الامر، ولابد من الحفاظ على ارواح الركاب من الماء والثلج الذي كان يرشه الناس على العربات لتبريد اسطحها في المحطات التي كان يتوقف فيها القطار (اختبرتهم انهم بهذه الطريقة سيقتلون ركابي، فاقتربت مني امراة وقبلت يدي في غفلة مني وقالت: ارجوك اوصلهم بسرعة).
يقول السيد علاء المفرجي، النجل السابع لسائق القطار (اسر لنا والدي رحمه الله انه تحايل على العنصر الامني المرافق له لكي لا يكشف مقدار السرعة الهائلة التي حصلت ولكن العنصر الامني تواطأ معه في نهاية الامر ثم ابلغه بضرورة تهريب (عمي) لأن الشرطة ستداهم بيته غدا).
هذا هو العراق
ولكن كيف تسرب الخبر السري والشخصي والمكتوم الى الناس بهذه السرعة؟! ومن قام بتبليغ الاهالي في الكثير من المحطات باحضار الماء والثلج ورشه على العربات؟.. هل كان اجتهادا وتعاطفا من شخص او اشخاص؟ ام هو عمل منظم قامت به جماعة او حزب ما؟
كان بين سجناء القطار ضابط صيدلاني هو ابن (السيد طالب) والاخير هو احد وجهاء السماوة، وشخص ميسور الحال، وحالما عرف بخبر القطار اتصل من بغداد باهالي السماوة واستنفرهم لاستقبال السجناء، واحضار الماء والطعام والشاي والسمن والدقيق والتمر والالبسة.
مشهد اعجازي
اخيرا وصل قطار (الجريمة الميسرة) الى السماوة قبل ثلاث او اربع ساعات على الموعد المقرر له.. كان سائقه الشهم عبد عباس المفرجي قد اختصر الكثير من التوقفات الطقوس المعتادة في رحلة قطار حمولة، وكان كلما مر بمحطة وعرف من وجوه المحتشدين واشاراتهم انهم على علم بسر حمولته، ازداد اصرارا على زيادة سرعة القطار امام رصيف المحطة القصير، وتعالى الصراخ من داخل العربات وخارجها حتى هرع صوب ناظر المحطة وطلب منه بسرعة ان يفتح الابواب.
كان الجميع بمن فيهم سائق القطار بانتظار ظهور (المخلوقات الاسطورية) التي ستتهاوى امام اعينهم في مشهد اعجازي لن يتكرر ابدا.. كانوا اشباحا وهياكل عارية تطلق حشرجات واهنة، وتزحف ببطء من ظلام القبور نحو الماء والهواء والضوء.. كانوا موتى احياء يحركون اصابعهم ويطلبون العون المتأخر جدا في لحظة هي الاقرب الى الموت في تلك الزنازين المظلمة.. سقط بعضهم على الرصيف وتمدد آخرون قرب القطار فيما زحف قسم منهم نحو (حنفية الماء) اما المغمى عليهم فظلوا على نومتهم حتى بعد رش الماء على وجوههم مما تطلب ارسال سبعة منهم بسيارة اسعاف الى المستشفى (توفي احدهم وهو الرائد يحيى نادر).
كان العنصر الامني والحرس جميعا في حالة ذهول تام وهم يرون (المواد الحديدية) وقد تحولت فجأة الى مخلوقات ادمية زاحفة من اول عربة، وعندها صرخ رجل الامن باعلى صوته (هاي رادوا يخلوها براسي) ثم امر بفتح كافة العربات فورا فتساقطت بقايا اشباح بشرية، وراحت تحبو على الرصيف كاسراب النمل، عارية الا من (الفانيلة واللباس)!!
تظاهرة عفوية
هرع المحتشدون في محطة السماوة، من رجال ونسوة واطفال، من دون اذن لمساعدة الحراس على فتح الابواب ومساعدة السجناء على السير واعطائهم الماء مع (لهمة) ملح بامر من احد الاطباء المسجونين (هو الضابط الطبيب رافد صبحي اديب)، ثم اقاموا لهم الولائم التي تكفي لاضعافهم، ورشوا على وجوههم الماء واحاطوهم بالرعاية، وراح عددهم يتزايد بعد توافد الآلاف من اهالي السماوة الذين سمعوا بخبر القطار ومحنة ركابه.
ولم يستطع رجال الامن والشرطة منعهم بل تعاون الجميع على مساعدة ركاب القطار وانقاذهم.
وعندما وصلت مفرزة من (الحرس القومي) الى المحطة لاحظت ان المشهد الذي فرضه الاهالي جعلهم في حيرة، وفرض عليهم الية مغايرة للتوقعات وسط الدهشة التي صعقتهم من وصول القطار بهذه السرعة وتجمع الاهالي لاستقبال الركاب وانقاذهم.. وادركوا من الوهلة الاولى ان سائق القطار (تصرف خلافا للاوامر والتوقعات وتجاوز التعليمات المحددة له فانقذ الركاب من موت محقق كان سيحصل في منتصف الطريق وليس في هذه المحطة)!!
وهذه الخيبة دفعت بامر المفرزة الى اصدار اوامر وقحة والتصرف بوحشية وسط اجواء انسانية بريئة تهدف الى انقاذ سجناء عراقيين سياسيين تعرضوا للتعذيب والموت من اجل وطنهم وها هم يخرجون باعجوبة من موت محقق.. ولذلك، وكردة فعل طبيعية، اندفع احد السجناء (وهو الملازم قيس محمد صالح) نحو امر المفرزة السيء الطباع ولطمه (براشدي عراقي اصلي) فتحول المشهد الى صخب وصياح واستفز رجال الحرس والشرطة والحرس القومي وكانت ان تتحول المظاهرة (الانسانية) الى معركة دامية بعد اصرار امر المفرزة على تسلم الملازم قيس، ولكن السجناء جميعا وقفوا حول زميلهم وقالوا بصوت واحد، نموت جميعا ولا نسلمه!!.
(22) ساعة موت
بقي ركاب القطار طيلة ذلك اليوم في مركز الشرطة لاحتواء الغضب الذي عم مدينة السماوة (نتيجة ما تسبب به سائق القطار من فوضى نظرا لعدم التزامه بلوحة المواعيد )!!.. وفي اليوم الثاني 5/7 جرى تعبئتهم بخمس عشرة عربة سجن اقلتهم الى نقرة السلمان في رحلة صحراوية قاسية.. وبذلك تكون رحلة الموت قد بلغت من وقف اطلاق النار في معسكر الرشيد الى نقرة السلمان اكثر من اثنتين وعشرين ساعة!!.
((سائق اشهر قطار عراقي))
هو اول سائق قطار عراقي ، ومن مؤسسي نقابة السكك في العام 1936. قام بافتتاح الجسر الحديدي القديم في منطقة الكرنتينة بقيادته القطار بدلا من سائق هندي تخاذل قبل المهمة. في العام 1948 وبعد انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي بادر بتهريب عدد من ملاكات الحزب الشيوعي بقطار طوروس الى تركيا ، وكان من بينهم (عبد تمر) الذي انعقد المؤتمر في بيته. بعد عودته الى بغداد بيوم واحد من رحلة قطار الموت استدعي الى مديرية السكك وتسلم امر فصله من العمل لمدة ستة اشهر والغاء امر ترقيته فعاد (الى بيته مسرورا مرتاح الضمير) كمار روى نجله الصحفي المعروف مظهر المفرجي رحمه الله.
ظل طوال حياته يعيد سرد تلك الرحلة الرهيبة ويفخر انقذ ارواح السجناء العراقيين وخاطر بحياته من اجل المواطن (واعتزازا) بالزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان يحبه كثيرا... ولكنه كان يوصي اولاده بكتمان قصة الحادث خشية بطش النظام السابق، لم يكرم طوال حياته من اي جهة عدا بعض الكتب والروايات والقصائد التي تناولت مآثره وعراقيته.
بعد احالته على التقاعد ، ظل يبكي لمدة يومين بسبب ابتعاده عن عالم القطارات والسكك والرحلات، وفي العام 1987 استعدي من مديرية الأمن لغرض سؤاله على مصير نجله المطلوب القاء القبض عليه من قبل النظام السابق، وبعد اطلاق سراحه عصرا اصيب بجلطة قلبية توفي على اثرها
رحمه الله.