الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
السيّاب بين متاعب الجسد ومتاعب الأنتماء
الأربعاء 31-12-1969
 
  وائل المرعب
  يبدو أن الزمن أثناء جريانه السريع أمامنا , وهو يتركنا نلهث خلف أحلامنا المنداحة والمطفئة  , تتخلله عقود من السنوات فيها الكثير من الغرابة والأستثناء والفرادة تتوزّع على مساره بفترات تكاد تكون متقاربة , فمثلا العقد الزمني المحصور بين عامي 1920 و 1930 شهد ولادة أهم مبدعي العراق في مجال الثقافة المعاصرة  بمختلف أجناسها ,
فعلى صعيد الشعر , ولد بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري وحسين مردان ولميعة عباس عمارة على سبيل المثال لا الحصر, وقد غيّروا هؤلاء يحدوهم السيّاب بجسده النحيل  وألمعيته الفذة خارطة الشعر , أذ حددّوا لها خطوط طول وعرض ومدارات جديدة وعيّنوا جهات هبوب الرياح والأمطار وحالات المد والجزر للقصيدة لم تألفها من قبل ..
لقد أحدث السيّاب ومن معه من فرسان الحداثة , خلخلة في هيكلية البناء العمودي للقصيدة , وأيقظوها من سباتها الطويل , وجرّدوها من تبريرات وجودها السابقة , وجعلوها ترمي بنفسها على الورق مرهقة .. متوترة .. حالمة .. في أي وقت تشاء , أذ أصبحت تتوهج في ذاكرة الشاعر في لحظات عابرة فتخرج مغسولة بالضوء المنبعث من روحه ومعطرة برحيقه .. وأضحت القصيدة بعد السيّاب تعيش بين الناس ,يخرجونها من جيوبهم ومن بين أردانهم ليقرأونها مستعيدين أمزجتهم الرائقة بعد أن شذبتها رؤى القصيدة .
  لقد فعل السيّاب .. هذا البصري الحالم والقادم من جيكور , القرية الصغيرة في أبي الخصيب, والذي كان يعاني من تواضع هيئته وفقر جاذبيته , كل هذا الدوي الذي لا زالت أصداءه للأن تملأ أسماع الكون الشعري العربي برمته .
  في دار المعلمين العالية أواسط الأربعينات من القرن الماضي بدت أوّل ملامح الأحباطات النفسية لدى الشاعر وأول بوادر تمرّده على هيبة العمود الشعري وظهور ولادة أول قصيدة حرّة في الشعر العربي المعاصر , كما بدت أول علامات أنتمائه السياسي تتضح في أوساط الطلبة أنذاك .
  أن المشكلة العقديّة التي عمّقت جراحاته النفسية هي ( الكاريزما ) فمظهره لا يساعد على أن يكون عنصر جذب بين مجتمع الطلاب الذي كان خليطا من الجنسين
خاصة وأنه وجد نفسه في هذا الوسط غريبا وهو القادم من قرية تعيش في آخر السلم
الحضاري والمرميّة على الطرف القصي من جنوب العراق , وقد لمس منذ البداية
السعي الحميم للطلبة الذكور للأقتراب من الطالبات رغم قلتهن , ولما كان الشعر يسكنه منذ طفولته وخياله متخم بالصور والأيحاءات .. تمكّن من أن يجد له منفذا للدخول الى حلقاتهن بقصيدته الشهيرة :
        ديوان شعري ملؤه غزل       بين العذارى بات ينتقل
        أنفاسي الحرّى تهيم على       صفحاته والحب والأمل
        وستلتقي أنفاسهنّ بهــــا        وترفّ في جنابته القبل
ولكن لم يجد واحدة من بينهنّ بادلته مشاعر الحب أو العاطفة أو حتى الرأفة , فكل
الذي حصل أنهن أعجبن بشاعريته ليس الاّ , وهذا مارسّخ لديه شعورا بالمرارة طفح على كيانه الضئيل . وقد لازمه هذا الشعور المحبط طيلة حياته القصيرة , وحتى حين تزوج وأنجب أستمرت تداهمه دائما حالة الفشل العاطفي حتى خاطب زوجته يوما وهو يستجدي عطفها , وقد أستعرض مجموعة من الطالبات الاتي لعبن دورا في أثارة مخياله :
        أحبيني .. لأني كل من أحببت قبلك ما أحبوني
        ولا عطفوا علي .. عشقت سبعا كن أحيانا
        ترفّ شعورهنّ عليّ تحملني الى الصين
        سفائن من عطور نهودهنّ ............. الخ
حتى يصل الى أن يكتشف حقيقة مشاعره كما كان يظن :
       وأنت .. لعلّه الأشفاق
وظلّ يحمل ذاته المتعبة وخيباته التي أثقلت ذاكرته ممّا عجّل في أنهاك قدرته على المطاولة في الحياة , فوجد السلّ مكانا رخوا في عظامه ليتسلل اليه ويجهز عليه بعد مرور أربعة سنوات من معاناته .
  أمّا تمرّده على القصيدة الكلاسيكية التقليدية  المتوارثة بالرغم من امتلاكه لأدواته  وتمكنه منها بما لم يستطع أحد من شعراء العمود مجاراته بها بأستثناء الجواهري الذي كان هاجسه المقلق حتى صرّح مرّة قائلا : أن أحد الأسباب المهمّة في لجؤه الى التفكير في أبتداع طريقة جديدة في الشعر هو وجود الجواهري علم الشعر العربي العمودي وسيده بلا منازع . يضاف الى ذلك نزوع روحه التوّاقة الى التغيير في أحداث هزّة في بناء القصيدة وجعلها تفتح ذراعيها لأحتضان كل الأفكار حتى الشاردة منها كي تدخل عالمها دونما خشية من فخاخ القافية , حتى تغيّرت وظيفة الشعر من بعده وأصبح أيقاع القصيدة ليس تراتبيا وموسيقاها لم تعد تلامس قشرتها الخارجية حسب بل نفذت الى داخل الكلمات , أن قصيدته ( في السوق القديم ) التي قالها عام 1947 قد فتحت عهدا جديدا في الشعر العربي .
  أمّا بشأن أرتباطه السياسي , أن السيّاب هو من الجيل الذي وعى الحرب الكونية الثانية وأطلع على ويلاتها ومآسيها , وأدرك وحشية الحزب النازي وهو المثال الصارخ لكل الأحزاب القومية الشوفينية المؤمنه بأفضلية العنصر , ثم وقف متأملا الأنتصارات التي حققتها جيوش الأتحاد السوفييتي بلد الأشتراكية الأول أنذاك في ضد الهجمة النازية ومن ثم الأنقضاض على آخر معاقلها ورفع راية الشغيلة الحمراء على سطح بناية ( الرايشتساغ ) , وأعلان أنتصار دولة الكادحين , كل هذا يضاف اليه أحساسه بالغبن الأجتماعي وتلمسّه الفارق الطبقي بين الطلبة أنفسهم , جعل رأسه يستدير بقوّة صوب الحزب الشيوعي ومن ثم الأنتماء اليه .
  وقد أنجز خلال فترة أرتباطه الأولى معلقاته الشهيرة ( المومس العمياء ) ( حفار القبور ) ( الأسلحة والأطفال ) ( المخبر ) والقصيدة ذائعة الصيت ( أنشودة المطر )
وقصائد مهمة اخرى . ولكي نقـّرب صورة المشهد لطبيعة انتمائه نورد هذا المقطع
من قصيدة ( اللعنات ) التي تجسّد بوضوح نظرته الى لا جدوى الوجود والخليقة ونقمته على غياب العدالة في النظرة الى الناس :
          رباه لو أن في طول أنتظار غد         جدوى لما أسمعتك الريح شكوانا
          ما كان حتما علينا أن يعذبنـــــا         طــاغ وأن يشهد الرحمن بلوانــا
          النار أشهى فهات النار تصهرنا        يوم الحساب ومتعنــا بدنيانــــــــا
          ان كان لا يدخل الجنات داخلها         الاّ شقيا على البلوى وغرثانــــــا
          وكان أمرك أن نرضى بما صنعوا     فأحفظ عبيدك فالشيطان مولانــا
الاّ أن مزاجية الشاعر وجنوحه نحو الأستئثار بأظهار الأنا الخلاقة جعل أرتباطه
السياسي وحتى الأيديولوجي  في حالة تذبذب مستمر تعمّق عندما بدأت معاناته
مع المرض أوائل الستينات , وقد تأكد له منذ البداية أن حالته الصحية متجهة نحو النكوص والتدهور وأن لا شفاء يلوح حتى في أفقه البعيد , ولمّا كان حب الحياة والتعلّق بالأمل (وأن لم يكن) طبيعة متأصلة لدى الأنسان , أوصله أن يقول أكثر من قصيدة في مدح الزعيم عبد الكريم قاسم الذي أرسله الى لندن للعلاج على حساب الحكومة (لولاك ما عرف الأبناء أباءا) , وحين قام أنقلاب شباط عام 1963 سارع الى مباركة الأنقلابيين في واحدة من أسوأ قصائده التي سجلت موقفا انتهازيا لم يغفره له معجبيه وعشاق شعره حتى لم تشفع له حالة الأنهيار النفسي الذي رافق تآكل عظامه التي لم تعد يعينه على الحركة , حتى لم يبق من كيانه المهدّم سوى ذهنه الوقاد وحركة عينيه وقدرته الشعرية التي لم يصبها الهزال اذ قال أكثر قصائده السوداوية التي ختمت ديوانه الذي لم يره .
  واليوم وبعد مرور 45 عاما على رحيله المبكّر يبقى السيّاب شاعر الأحزان والمطر رغم أهتزاز مواقفه , علامة مضيئة في تأريخ الشعر العربي , ويظل الدوي الذي أحدثه لا تخبو أصدائه على مر السنين .

 
   
 


اقـــرأ ايضـــاً
جرحى بينهم 6 أطفال بانفجار عبوة في شمال العراق
"خيارات" لحسم مشكلة الحدود البحرية بين العراق والكويت
بعد مقتل جنود إسرائيليين بطائرات مسيّرة من العراق، إسرائيل تمهد لتوجيه ضربة للعراق
مقتل جنديين إسرائيليين وإصابة 23 بطائرة مسيرة من العراق
"ثورة تشرين" في العراق.. قصة الخيمة رقم 207
شاركت فيها 3 دول.. عملية سرية تحرر إيزيدية من الأسر في غزة
العراق يتذكر احتجاجات تشرين.. حكايات نساء واجهن الرصاص
تعزية من الاتحاد الديمقراطي العراقي في الولايات المتحدة الأميركية
إبراهيم ومجتبى.. جرح قمع "احتجاجات تشرين" في العراق لم يندمل
الجيش الإسرائيلي يعلن ارتفاع عدد قتلاه في لبنان
تعزية من الاتحاد الديمقراطي العراقي في الولايات المتحدة الأميركية
5 سنوات على احتجاجات تشرين ولا حساب لقتلة المتظاهرين.. ماذا حققت الثورة؟
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة