الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
بناء المدينة في العراق.. النظريات المستوردة
السبت 15-09-2012
 
محسن علي الغالبي

مع ندرة ما يكتب بصورة عامة في مجالي التصميم المعماري (Architectural Design) والتخطيط الحضري (Urban Planning) K يشغل الأول حيزاً أكبر مما يشغله الثاني بشكل واضح، ويتعدى الأمر مجالات الكتابة والدراسة والتنظير إلى مجالات التدريس والممارسة العملية والتطبيق.

وهو أمر يستحق لفت الأنظار إليه، فالمبنى في كل أشكاله هو جزء وعنصر يدخل ضمن مركب أكبر وأشمل هو المدينة، والمدينة في أبسط تعريفاتها هي مجموع الأبنية المكونة لها والعلاقات والشبكات التي تربط هذه الابنية مع بعضها (بالتأكيد هناك تعريفات للمدينة أكثر شمولية وأدق من المؤمل التطرق اليها في مقالات لاحقة). وبالرغم من كون المبنى جزءاً والمدينة كلا فان الحيز الذي يشغله التخطيط الحضري أقل بقليل مما يشغله التصميم المعماري، فكل مدارسنا المعمارية تمنح التصميم مكانا أرحب من التخطيط، ويتكرر الأمر ذاته في الحياة العملية، فالدوائر والمؤسسات والمكاتب والشركات المختصة بالتصميم أوسع وأكثر كفاءة من تلك التي تعنى بالتخطيط. أما في مجالات التنظير والدراسات والأبحاث فلا بد من قبول الأمر الواقع الذي يفضح نفسه بشكل لا يقبل الشك بأن كل نظرياتنا المعاصرة والمستخدمة (في كلا مجالي التخطيط والتصميم) هي أفكار مستوردة من مدارس وبيئات ومجتمعات غالباً ما تكون بعيدة بشكل (مروع) عن واقعنا الحالي. واستخدام كلمة (مروع) هنا للفت النظر إلى مسألة الاستيراد غير المدروس ومحاولة فرضه. إن الاستيراد بحد ذاته أمراً ليس سلبياً على الدوام، فتطور الأمم مرهون بتلاقح حضاراتها مع الحضارات الأخرى، والاستيراد هو وسيلة من وسائل التلاقح هذا، ولتوضيح المقصود من هذا الأمر سأستخدم وسيلة بسيطة عادة ما تستخدم لتوضيح فكرة ما، وهي دفع هذه الفكرة إلى أقصى حالاتها المحتملة لبيان المقارنة بوضوح تام، وكمثال على ذلك أذكر نظرية توسع المدينة من خلال البناء على سطح البحر المجاور للمدينة واستغلال المساحات المائية بدل مساحات الأرض التي بدأت أكثر مدن العالم تعاني من قلتها وصعوبة استغلالها وارتفاع أسعارها وكلف البناء عليها. هناك محاولات جادة لتطبيق هذه النظرية في اليابان من قبل مخططين ومعماريين عدة أمثال ( Mitrobolism, Shimizu Co. ) وفي هولندا مثل ( Ooms ) وفي الدنمارك "هذه الدول تشترك بخصائص جغرافية مشتركة".

والسؤال هنا هو أي منطق يدعو الى استيراد مثل هذه النظرية واستخدامها في بناء المدينة في العراق؟ فالمدارس التي أنتجتها لا صلة لها بكل مدارسنا المعمارية على مر العصور، والبيئات التي وضعت لها هذه النظريات لا تشابه البيئة في العراق من معظم جوانبها أن لم تكن كلها، والمجتمعات التي نشأت فيها ووضعت من أجل خدمتها لا تشاطر مجتمعنا في شيء، بالاضافة الى فروقات واختلافات أخرى شاسعة مثل التكنولوجيا المتاحة لتنفيذ مثل هذه النظريات والثقافة السائدة لتقبل مثل هذه الافكار وكذلك الحاجة لمثل هذه الحلول "قد يتضمن الامر استثناءات لضرورات أخرى كفكرة انشاء ميناء عائم قريباً من شواطئ البصرة وهو بحث آخر غير المقصود هنا". لذلك فإن استيراد مثل هذه النظريات يبدو فاقداً لفحواه ومغزاه وبعيدا عن المنطق. وينسحب الامر ذاته على استيراد نظريات اخرى أقل حدة من هذه ولكن لا تختلف كثيراً عند عرضها على المنطق لاستقراء مدى جدواها. وغالبا ما يدخل استيراد هذه النظريات من باب التطرف في التعامل مع الكثير من الامور ومن مبدأ فرض (أما، أو) أو مبدأ (الاثبات او النفي) دون اللجوء الى مبدأ التوسط في الحلول أو مفهوم الاستيراد مع التحوير "ان مفهوم التطرف أصبح معضلة تطبع مجالات حياتنا برمتها الى حد أصبح من الصعب معها تقبل أواسط الحلول وتفعيلها، ولا بد من القول هنا أنه لا توجد نظرية في الوجود (وهذا ما يفترضه المنطق) مناسبة لكل بيئة في كل عصر دون اللجوء الى تحويرها بشكل ما".

وعند العودة الى موضوع بناء المدينة في العراق (وفي الشرق الاوسط على العموم) فإن النظريات السائدة حالياً في التخطيط (وهي كلها مستوردة ومن الغرب بالذات) لا تشكل البدائل المثلى لنظرية (أو نظريات) التخطيط التي كانت سائدة في هذه المنطقة لقرون عديدة واستثمرت تجارب وخبرات أجيال متعاقبة والتي هي بحد ذاتها تشكل خزينا علمياً ثرياً ليس من السهل لفظه والتخلي عنه – مع ذلك فقد تخلينا عنه بكل سهولة - والاشد من ذلك أصبحت العودة اليه تعد خطوة رجعية تراجعية قد تعرقل لحوقنا بركب الحضارات الاخرى، فأصبحنا كمن ورث كنوزاً، صعب عليه حملها، فرماها في عرض البحر، ظنا منه انها غير قابلة للاستثمار أو الصرف فأضاع بذلك جهد كل الاجيال السابقة. من الامثلة على ذلك هو استبدالنا التخطيط العضوي للمدينة ( Organic Urban Planning ) والذي انتج ولعصور متتابعة مدناً رائعة وملائمة بدرجة عالية لبيئتنا ومجتمعنا مثل المدينة القديمة في النجف وأجزاء بغداد القديمة كالكاظمية والشواكة وغيرهما، وقد استبدلناه بالتخطيط الشطرنجي ( Grid Pattern ) والذي  هو نظرية مستوردة تتبنى فكرة تخص مجتمعات أخرى وثقافات أخرى، تلك النظرية التي لا يدعمها منطق مقبول بأي شكل من الأشكال (وبالأخص في الشرق الأوسط) والتي اكتسحت مدننا بشكل متطرف هو الآخر، وطبعتها بطابع عسكري مقيت وصبغة صناعية قتلت في مدننا روح الاختلاف (  Contradication ) والتنوع ( Diversity ) والتغییر ( Change ) والحركة (Variation ) والتدرج ( Gradation ) والهرمية (Hierarchy ) والايقاع ( Rhythm ) والتكافل (Coherence  ) والتكامل ( Integration ) والوحدة ( Unity ). فهل كان الامر مقصوداً؟ أم هي الضرورة التي فرضت تبني مثل هذه النظرية؟

لن أتطرف في القول الى أن الأمر كان مقصوداً وأن ذلك يدخل ضمن نطاق (المؤامرة)، ولكن استعجالنا المعهود في الاستيراد دون التفكر. من السهل استيراد نظرية ما، كما أنه من السهل فرض نظرية مستوردة، ولكن من الصعب جدا الحصول على نتائج مُرضية دون التفكر في إمكانية تطبيق النظرية ومحاولة تحويرها. من الواضح الآن أن المجتمعات التي أنتجت هذه النظرية قد تخلت عنها بسبب معرفة سلبياتها، لكنها تحولت إلى قاعدة عامة في تخطيط مدننا وكأننا غير قادرين على إيجاد بديل أفضل.

أما فيما إذا كانت الضرورات هي التي فرضت هذه النظرية كما يحاول البعض ادعاءه مثل سهولة التخطيط والتنفيذ وسهولة تجهيز المدينة بالخدمات العامة الضرورية كخطوط الماء والكهرباء والاتصالات وحركة النقل ومعالجة الحالات الطارئة كالحريق وغيرها، فقد أثبتت البحوث المعاصرة والدراسات المدعومة بالتجربة (مثل دراسات المخطط والمعمار الدانماركي يان جل Jan Gehl والمخطط الأمريكي كيفن لينج Kevin Lynch  والباحثان النفسيان الأمريكيان كابلان وزوجتهStephen & Rachel Kaplan  وغيرهم). إن هذه الضرورات كلها قابلة للحل في كل الاحوال وأن هناك ضرورات أخرى أهم بكثير من هذه.

من الامثلة الاخرى هي استبدال نظرية السكن الافقي ( Horizontal Housing ) والتوسع الحضري ( Urban Sprawl ) بالسكن العمودي ( Vertical Housing ) والتراص أو التكثيف الحضري ( Compact sprawl )، فالمشاكل التي أنتجها تطبيق النظرية الاولى لا يعطي مبرراً كافياً لتبني النظرية الثانية والتي يحاول البعض الان فرضها على المدينة في العراق. سأحاول في الكتابات اللاحقة عرض بعض الاساليب البسيطة لتفادي المشاكل التي أنتجها التوسع الحضري غير المحسوب، مثل ضعف الخدمات في القطاعات السكنية بالذات واستحالة تطوير مراكز المدن القديمة وعدم فعالية النقل بين قطاعات المدينة وارتفاع درجات الحرارة في المدينة عموماً وفي الوحدات السكنية خاصة ومشاكل أخرى عديدة.

قد يدعي البعض أن البلد في حالة نهضة شاملة بعد خراب شامل والحاجة المستعجلة للاعمار تفرض حلولاً سريعة بغض النظر عن الدقة وبعد النظر ولو مؤقتاً لغرض تجاوز النقص الكبير في كل مرافق المدينة في العراق. لكن من المؤكد أن الحركة البطيئة إلى الأمام أفضل بكثير من الحركة السريعة نحو الخلف، وأن خطوة واحدة واثقة نحو الأمام خير من عشر خطوات مترددة نحو الوراء، وإن العمل المتريث مع العلم أفضل من العمل الحثيث بدونه.

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
أدباء العراق يستنكرون اقتحام ناديهم الاجتماعي: على القوة المقتحمة تقديم الاعتذار
"جراح القلب معارض لحملة القمع".. من هو مسعود بزشكيان الفائز بانتخابات الرئاسة الإيرانية؟
بعد توقف 10 سنوات.. الجوية العراقية تعلن بدء تسيير رحلات بين بغداد وبكين
راصد جوي يبشر العراقيين بانخفاض في درجات الحرارة ويحذر من الكهرباء
ما علاقة "جماعة القربان"؟.. البصرة تسجل 70 حالة انتحار في 6 أشهر
ستارمر: عملنا عاجل، ونحن نبدأه اليوم!
السويد تتحرك بعد حكم بالإعدام على 3 من مواطنيها في العراق
السوداني: زيارة بارزاني لبغداد مهمة .. بارزاني: سعيد جدا بلقائك
بغداديون يحاربون الصيف بـ"مراوح الماء" ويطالبون الأمانة بانقاذهم
متفجرات تحت جامع النوري الكبير في الموصل تعلق أعمال إعادة إعماره
أميركا تعرض "صياغة جديدة" لمقترح وقف إطلاق النار في غزة
الزميل العزيز موسى مشكور (أبو نضال).. وداعاً
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة