الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
مقدمة نهج البردة لأحمد شوقي
الأحد 16-09-2012
 
صلاح نيازي

قد يكون من المفيد، أن نضع أمام القارئ، الابيات المعنية أوّلاً حتى يسهل الرجوع إليها:

1   ريمٌ على القاعِ بين البانِ والعلمِ

أحلَّ سفك دمي في الاشهر الحُرُمِ

2  رمى القضاءُ بعينيْ جؤذرٍ أسداً

يا ساكنَ القاعِ أدركْ ساكنَ الأجَمِ

3  لمّا رنا حدثتني النفسُ قائلةً

ياويح جنبك بالسهم المصيب رُمي

4  جحدتها وكتمتُ السهمَ في كبدي

جرحُ الاحبة عندي غيرُ ذي ألم

5  رُزِقتَ أسمح ما في الناس من خُلُقٍ

إذا رُزِقت التماس العذر في الشيمِ

6  يا لائمي في هواهُ والهوى قَدَرٌ

لو شفّك الوجدُ لم تعذِل ولم تَلُمِ

7  لقد انلتك أُذناً غير واعيةٍ

وربَّ منتصتٍ والقلبُ في صممِ

وهذا معجم سريع لمعاني بعض الكلمات الواردة فيه:

ريم: الظبي الخالص البياض

القاع: أرض مستوية مطمئنة عما يحيط بها من الجبال والآكام

العلم: الجبل الطويل

البان: سبط القوام ليّن. ضرب من الشجر، واسم جبل

جؤذر: ولد البقر الوحشية

رنا: أدام النظر في سكون طرف

الجحود: الإنكار مع العلم

قبل كلّ شئ، أهمّ ما يميّز الأبيات أعلاه هو كثرة المفاجآت.

تفاجأ الشاعر أوّلاً ـ كما يبدو ـ برؤية ريم. تظهر هذه المفاجأة في ثلاث نواحٍ: 1- تنكيرالريم وكأن راويةالقصيدة لم يكنْ يتوقعها. راوية القصيدة فوجئ بما رأى. 2- ابتدأت القصيدة بالريم وكأن ظهورها قطع عليه سلسلة أفكاره. 3- وجود الريم بين البان: وهو الشجر السبط القوام وبين جبل العلم، أي بالكاد تُرى. بهذه الوسيلة بيّن الشاعر صغر حجم الظبية وبالتالي ضعفها.

الريم هو الظبي الخالص البياض. هل لهذا اللون دلالة في القصيدة؟ وما دلالته؟ هل لأنه لون العفة أم البراءة أم النقاء والطُهر؟

أكثر من ذلك اخبر الشاعر عن" ريم" بصيغة المفرد بدون رفاق. لماذا مفردة؟ هل جعلها الشاعر عرضة للخطر، وبهذه الوسيلة يستدرّ عطفنا عليها؟ أم لإثارة فضولنا؟

في الشطر الثاني " أحلَّ سفك دمي في الاشهر الحرم"، يكون اللون الاحمر مقابلاً للون الابيض.

كان اللون الابيض جامداً، بينما اللون الاحمر مسفوكاً مراقاً وكأنه منحور. كلُّ ذلك جرى في الاشهر الحرم، اي من حيث لم يكن يتوقعه راوية القصيدة مطلقاً. بهذه الوسيلة يكون الشاعر قد أدخل عنصر المفاجأة مرّة ثانية عن طريق سفح الدم المحرّم.

في البيت الثاني:

رمى القضاء بعينيْ جؤذرٍ أسداً

ياساكنَ القاع أدركْ ساكنَ الأجمِ

إذن ما حدثَ في " الاشهر الحرم" كان شيئاً خارقاً يصعب معه الالتزام بالأعراف فهو قضاء، لا رادّ له. أكثر من ذلك، لايقلُّ خرقاً لطبيعة الامور أن جؤذراً وهو ضعيف يتغلب على أسد وهو ما هو.

حينما تكون المعادلة قد انقلبت على تلك الصورة، فان المنطق ينقلب هو الاخر، فيستغيث راوية القصيدة " بالمقتول للقاتل، لا منه".

لنعدْ ثانية إلى " يا ساكن القاع ادركْ ساكنَ الاجم".

المفروض أن ساكن القاع هو الهدف السهل بعكس ساكن الاجم اي الشجر الملتف، الذي يكون متخفياً إلى حدّ ما. بهذه الوسيلة، لا شكَّ قوّى الشاعر من لا منطقية الاشياء.

يعود الشاعر في البيت الثالث إلى حاله هو:

لمّا رنا حدثتني النفس قائلة

ياويح جنبك بالسهم المصيب رُمي

بالبيتين الاولين، يكون راوية القصيدة قد سرد الحادثة. والآن إلى توقيتها بتعبير " لمّا رنا " ومعها أصبح راوية القصيدة شطرين منفصلين هما " حدثتني النفس " وكأنها تخاطب شخصاً آخر.

رنا لغةً: إدامة النظر في سكون طرف. أي ما من حركة ولا بدَّ لكل سفح دم من حركة. هذه هي المفارقة أي كيف يحدث فعل من لا فعل؟.

حين تقول النفس: " ياويح جنبك بالسهم المصيب رُمي" ندرك على الفور ان هذه الاصابة كانت من المفاجأة بحيث لم يشعر بها راوية القصيدة. ولزيادة غموض الرمي جعل الفعل رُمي فعلاً مبنياً للمجهول، وكأنما كان راوية القصيدة غافلاً كلّ الغفلة عمّا جرى إليه. كما ان صيغة رُمي ككمية موسيقية توحي بشئ ملموم صغير سريع.

يقول الشاعر في البيت الرابع:

جحدتها وكتمت السهم في كبدي

جرح الأحبة عندي غير ذي ألمِ

جحد راوية القصيدة نفسه التي كانت تحدثه، والجحود كما في اللغة " انكره مع علمه به". وفي التنزيل العزيز " وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم "، واخفى السهم في كبده لأنه لا يؤلم.

ينتقل راوية القصيدة في البيت السادس:

رزقت أسمح ما في الناس من خلقٍ

إذا رزقت التماس العذر في الشيمِ

إلى قارئه أو سامعه، وكأنه استنكر عليه إخفاء السهم وعدم الإتيان بأيِّ احتجاج فيأتي بالتماس العذر وكأنه سجية حميدة ترزق بها الطبيعة البشرية.

ومن القارئ أو السامع العام، يخصص راوية القصيدة، اللائم بالذات وكأنه لم يقتنع:

يالائمي في هواه والهوى قدر

لو شفّك الوجدُ لم تعذلْ ولم تَلُمِ

ليس لراوية القصيدة من حجة لاقناع ذلك اللائم سوى " ان الهوى قدر " ولايؤمن بذلك إلاّ مَن شفّه الوجد.

يبدو ان اللائم الحّ في لومه، فلم يُصغِ إليه راوية القصيدة:

لقد انلتك اذناً غير واعيةٍ

وربِّ منتصتٍ والقلب في صمم

مرَّة اخرى يصبح راوية القصيدة شطرين منفصلين: ظاهري وباطني، وأخطر مافي ذلك الباطن قلبٌ أصمّ.

في البيت الثامن:

يا ناعس الطرف لا ذقت الهوى أبداً

أسهرت مضناك في حفظ الهوى فنمِ

يكون راوية القصيدة قد ختم حواره مع اللائم بالصمم وعاد إلى الحبيبة وهي وان كانت ناعسة الطرف إلاّ انه يدعو لها ان لا تذوق الهوى، مخافة أنْ يهرب منها النوم.

عامل احمد شوقي " حفظ الهوى " وكأنه كنز فريد أو وديعة ثمينة للغاية يخاف عليها حافظها من النوم، وفي نفس الوقت يطمئن مودعها بالنوم.

بعد ذلك نتبين أن الشاعر لم يكنْ إلاّ في حلم: "وربّ فضلٍ على العشاق للحلم".

حينما يصحو الشاعر يكون المفرد قد أصبح جوقةً أمامه. فالفتاة ـ الريم ـ التي أحلت سفك دمه في الحلم، أصبحت نساء:

من الموائس باناً بالربى وقناً

اللاعبات بروحي السافحات دمي

السافرات كأمثال البدور ضحىً

يُغرْنَ شمس الضحى بالحلي والعصمِ

ما أن انتقل الشاعر من الحلم في البداية، إلى الصحو في البيتين الأخيريْن، حتى انكشف تباين فنّي مدهش. في البداية وضع الشاعر الريم، في مشهد لا يبين له نور . مشهد غبشي. الريم كذلك لم تتحرّك. الريم بصيغة المفرد وبصيغة المذكر. ولكن في الصحو استحال ذلك الريم إلى نساء موائس. قائمات ممشوقات. كذلك انتقلت الصورة من شجر في الحلم إلى سماء منيرة في الصحو.

أعطى الشاعر بكلمة الشمس للصورةالشعرية بعداً واسعاً عالياً، أمّا الضحى فيوحي بالنضارة والامتلاء.

* مقطع مستلّ من دراسة طويلة في شعر أحمد شوقي.

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
أدباء العراق يستنكرون اقتحام ناديهم الاجتماعي: على القوة المقتحمة تقديم الاعتذار
"جراح القلب معارض لحملة القمع".. من هو مسعود بزشكيان الفائز بانتخابات الرئاسة الإيرانية؟
بعد توقف 10 سنوات.. الجوية العراقية تعلن بدء تسيير رحلات بين بغداد وبكين
راصد جوي يبشر العراقيين بانخفاض في درجات الحرارة ويحذر من الكهرباء
ما علاقة "جماعة القربان"؟.. البصرة تسجل 70 حالة انتحار في 6 أشهر
ستارمر: عملنا عاجل، ونحن نبدأه اليوم!
السويد تتحرك بعد حكم بالإعدام على 3 من مواطنيها في العراق
السوداني: زيارة بارزاني لبغداد مهمة .. بارزاني: سعيد جدا بلقائك
بغداديون يحاربون الصيف بـ"مراوح الماء" ويطالبون الأمانة بانقاذهم
متفجرات تحت جامع النوري الكبير في الموصل تعلق أعمال إعادة إعماره
أميركا تعرض "صياغة جديدة" لمقترح وقف إطلاق النار في غزة
الزميل العزيز موسى مشكور (أبو نضال).. وداعاً
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة