الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
محاولة لإسكات الأصــوات الوحشية المزمجرة في نفوس القتلة
الأربعاء 03-10-2012
 
لندن / عدنان حسين أحمد

لا بد من الإقرار أولاً بأن فيلم "عصابات بغداد" للمخرجة السويسرية عايدة شليفر، من أصول عراقية لبنانية، هو فيلم مُشتغَل بحِرَفية عالية وعناية فائقة تدلِّلان على وضوح الرؤية الإخراجية لمخرجة الفيلم، وتمّكُنها من البناء بطريقة فنية لا تخفى على متلقي هذا النمط من الخطابات البصرية المتفردة.

أنجزت عايدة هذا الفيلم عام 2007، أي بعد اشتداد الأزمة الطائفية التي بلغت ذروتها في العراق عامي 2005 و 2006 بفعل الأحزاب العراقية التي وفدت إلى العراق من خارج الحدود، هذا إضافة إلى المعطيات الداخلية التي أججت هذا الاحتكاك الطائفي الذي لا دخل لمكونات الشعب العراقي الرئيسية فيه. وعلى الرغم من أنَ المخرجة شليفر لا تريد الخوض في التفاصيل الطائفية، لأنها محايدة أولاً، ولأن عصابات بغداد آنذاك كان هدفها الابتزاز المادي، وليس الانتقام الطائفي، حتى لو لجأت لاحقاً إلى التعذيب والقتل والتشويه، ويبدو أنّ الوحوش الكامنة في داخلهم تستفيق في المراحل التي تضعف فيها الدولة أو يغيب فيها القانون، أو أن يتحول بعض مفاصلها في الشرطة والجيش والأجهزة الأمنية إلى أجزاء فاعلة من هذه العصابات التي تبتز الناس وتقتلهم بهدف الإثراء السريع من جهة، وبغية إسكات الصوت الوحشي المزمجر في أعماقهم من جهة أخرى.

لقد انتقت شليفر عدداً غير قليل من هذه الشخصيات المأزومة نفسياً التي لم تستطع الثبات ومواجهة الأزمة العصيبة التي يمرّون بها، فقرروا الانسحاب من ساحة المواجهة القاسية، و"الهروب" بشكل أو بآخر إلى مصر أو بقية الدول العربية المجاورة للعراق.

إن منْ يلقي نظرة سريعة على شخصيات هذا الفيلم الوثائقي المُتقَن والمؤثر في آنٍ معاً سيجد أن المخرجة قد نجحت في التنويع أولاً، كما أنها ركزت على غالبية طبقات المجتمع العراقي فهناك المحامي، والتاجر علي عريبي عودة، والمرأة البسيطة حليمة الساعدي، وولدها وسام الذي بلغ المرحلة النهائية من "عراق ستار"، وشقيقه وسام الساعدي الذي عُذّب قبل أن يلقى حتفه على أيدي هذه العصابات الوحشية، والشاعرة الجميلة رنا جعفر ياسين التي تركها والدها تواجه مصيرها المحتوم أمام القتلة، هؤلاء جميعاً وغيرهم من الشخصيات التي أثثت متن الفيلم قالوا أشياء مهمة تتجاوز التوصيفات العادية للكلام العابر، ويبدو أن كاتب السيناريو أو واضع الأسئلة قد نجح هو الآخر في استخراج هذا الكلام النفيس الذي قالته معظم شخصيات الفيلم من دون استثناء.

بطبيعة الحال، لا يمكنني أن ألقي اللوم كلياً على هذه الشخصيات التي "هربت" من ساحة المواجهة، فلو كنت مكانهم لهربت أيضاً طالما أن الدولة متوارية، والقانون غائب تماماً، لكن دعونا نبحث في الأسباب التي دفعت هذه الشخصيات برمتها للهروب إلى القاهرة. فالمحامي ورجل علي عريبي عودة قرر الهروب من بغداد بعد أن تعرض لأكثر من عملية خطف وبعضها بسيارات الشرطة، كما تعرّض ولداه سيف عريبي وغيث عريبي للخطف أيضاً بحيث حسم الأخير أمره بالاتجاه إلى أي بلد، وعدم العودة نهائياً إلى العراق.

الشاعرة والفنانة التشكيلية رنا جعفر ياسين تم خطفها بطريقة غريبة من قبل الجيران الذين انتبهوا إلى أنها بدأت تبيع أغراضها المنزلية لكي تغادر العراق نهائياً بعد أن وصلتها رسالة بداخلها رصاصة من (شورى المجاهدين)، وحينما استنجدت بوالدها تركها تواجه مصيرها المحتوم لوحدها من دون أن يحرك ساكناً. عائلة حليمة الساعدي التي فقدت ولدين في عمر الورود، الأول كان مشروعاً لمطرب ناجح لأنه وصل إلى المرحلة النهائية في مسابقة "عراق ستار" وكان من المؤمل أن يصبح نجماً فنياً، والثاني وسام الذي أُختطف ثم قُتل تاركاً أفراد أسرته يستذكرون حجم العذاب الذي تعرّض له على أيدي المجرمين القتلة. ربما كان وجود المعالج النفسي الدكتور علاء مرسي مهماً في خلق الموازنة بين هذا الكم الكبير من عذابات الضحايا، وبينه هو كطبيب مختص يحلل الأذى النفسي والجسماني الذي يتعرض له الضحية إثر وقوعه في خطر شديد يهدد هويته وحياته، وقد شخّص هذه الحالة المرضية بـ "اضطراب ما بعد الأزمة"، الذي يمكن أن يفضي إلى التوتر، والاكتئاب، وحتى البلل إذا كان عنصر الخوف مستمراً، ولكنه نصح المرضى بعدم اعتزال الحياة، والانقطاع عن ممارسة الأنشطة اليومية التي يمكن أن تخفف من وطأة الأزمة التي يمر بها الضحية.

ثمة أسئلة كثيرة أثارتها شليفر في هذا الفيلم لعل أبرزها غضب الضحايا من البرلمانيين والمسؤولين الكبار في الدولة الذين جيء بهم بعد الاحتلال، ففي الوقت الذي يناقشون فيه امتيازاتهم ومستحقاتهم المالية كان هناك مئات، وربما آلاف العراقيين الذين خُطفوا، أو غُيِّبوا، أو قُتلوا من دون أن يهتز للسياسيين جفن، هذا ما يؤكد المحامي علي عريبي، أما الشاعرة رنا جعفر فهي تعتبر الوطن ضحية هو الآخر، ولكنها تصب جام غضبها على السياسيين العراقيين الجُدد المنقطعين إلى مصالحهم الشخصية وشؤونهم اليومية الخاصة. وهذا الأمر ينسحب إلى بقية شخصيات الفيلم التي لم تجد بُداً من الهرب إلى مصر أو أية دولة عربية مجاورة. وعلى الرغم من مسألة اتفاقهم على الهرب أو مغادرة العراق، إلاّ أنهم يختلفون في مسألة العودة إلى الوطن بهدف إصلاحه وبنائه. فالمحامي ورجل الأعمال علي عريبي يصر على ضرورة العودة إلى الوطن لبنائه وإصلاح النفوس المريضة التي توحشت في مرحلة ما، وكما يذهب الطبيب النفساني علاء مرسي فإن القتلة والخاطفين والمجرمين هو ضحايا أيضاً للظروف الاستثنائية التي مرّ بها العراق بعد الاحتلال، وهم يحتاجون العلاج شأنهم شأن الضحايا الناجين أو المغدور بهم. إذاً، يعتقد المحامي علي عريبي بأن الهمجية لا يمكن أن تستمر، وأن الدولة، بمؤازرة الخيّرين من أبناء لا بد أن يضعوا حداً للتسيّب والانفلات الأمنيين، لكي تعود الحياة العراقية الآمنة إلى مجاريها الطبيعية. أما الشاعرة رنا جعفر فتعتقد أن رحلتها سوف تطول، وأن الشوارع التي تمرّ عليها بسيارتها الذاهبة خارج الحدود ربما لن تراها مرة ثانية، كما أنّ ولد علي عريبي يكره العودة للعراق لأنه تعرض إلى ضغوط نفسية شديدة، بينما يضع الثاني سقفاً زمنياً لا يقل عن خمس سنوات للتفكير بالعودة إلى العراق إذا ما تحسنت الظروف الأمنية. أما السيدة حليمة الساعدي فإنها تتمنى من الله أن "يرفع الغُمة عن هذه الأمة" وهي التي حملت جنازتي ولديها، بينما كانت تتوقع أن يحملا هما جنازتها حينما تذهب إلى مثواها الأخير.

وعلى الرغم من المحن الكبيرة التي مرّت بها شخصيات الفيلم الرئيسية إلاّ أن المخرجة شليفر ختمت الفيلم بلقطات جميلة ومعبِّرة تزرع الأمل في نفوس العراقيين، وتتمنى لهم العودة إلى حياتهم الطبيعية، ولعل شلالات المياه الجميلة، والأنهر المتدفقة، ونُصب الحرية، وشوارع بغداد المكتظة بالسيارات، والأطفال الذين يلوِّحون بأكفهم الصغيرة هي نماذج جميلة توحي للعراقيين جميعاً بأن يعضّوا على جرحهم الكبير، ويطووا صفحة الماضي المؤلمة، ويبدأوا حياتهم من جديد. وفي الختام لا بد أن أشير الى أن "عصابات بغداد" هو واحد من أهم الأفلام الوثائقية العراقية المحايدة التي لم تتدخل فيها المخرجة كثيراً بآراء الشخصيات، وإنما تركتهم يعبِّرون عن أنفسهم بحرية مطلقة، فكان الفيلم بالنهاية تحفة بصرية أمينة تضاف إلى رصيد المخرجة التي تؤكد حضورها الفاعل في المشهد السينمائي العالمي.

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
أدباء العراق يستنكرون اقتحام ناديهم الاجتماعي: على القوة المقتحمة تقديم الاعتذار
"جراح القلب معارض لحملة القمع".. من هو مسعود بزشكيان الفائز بانتخابات الرئاسة الإيرانية؟
بعد توقف 10 سنوات.. الجوية العراقية تعلن بدء تسيير رحلات بين بغداد وبكين
راصد جوي يبشر العراقيين بانخفاض في درجات الحرارة ويحذر من الكهرباء
ما علاقة "جماعة القربان"؟.. البصرة تسجل 70 حالة انتحار في 6 أشهر
ستارمر: عملنا عاجل، ونحن نبدأه اليوم!
السويد تتحرك بعد حكم بالإعدام على 3 من مواطنيها في العراق
السوداني: زيارة بارزاني لبغداد مهمة .. بارزاني: سعيد جدا بلقائك
بغداديون يحاربون الصيف بـ"مراوح الماء" ويطالبون الأمانة بانقاذهم
متفجرات تحت جامع النوري الكبير في الموصل تعلق أعمال إعادة إعماره
أميركا تعرض "صياغة جديدة" لمقترح وقف إطلاق النار في غزة
الزميل العزيز موسى مشكور (أبو نضال).. وداعاً
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة