الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
امرأة.. شفق البحر..فيض المخيلة واشتراطات الواقع
الجمعة 05-10-2012
 
أحمد خلف

يرسم لنا القاص والروائي سعد محمد رحيم في روايته (ترنيمة امرأة.. شفق البحر) حدود معرفته الذاتية بأبرز الظواهر والمعضلات الاجتماعية والسياسية بإدراك من يريد تحديد موقفه بعيداً عن الصراخ أو العويل العاطفي،

ويضعنا بنباهة العارف بخصائص الفن الروائي، لذا تعتمد فقرات الرواية ومحطاتها وفصولها على مجموعة لقاءات يتم بعضها بمحض المصادفة والبعض الآخر بترتيب مقصود منه التوصل الى جملة حقائق، ونلاحظ أن أبرز لقاء بين سامر بطل الرواية وساردها، وبين حنان حين تسأله عن مرآب البياع لكي تذهب إلى الديوانية حيث تعيش هناك، أما اللقاء الثاني بكلوديا الايطالية الذي يتم هو الآخر مصادفة، حين يقول في مطلع روايته:

"تعرفت عليها على ساحل سوسة في تونس، يومها دارت موجة عنيفة مباغتة وقربتنا من بعضنا، ونحن في عرض اللجة ألفيتها على حين فجأة الى جانبي" ص7 وسوف نعلم ان هذا اللقاء قد ارتفع على مستوى ما توفره المصادفة الى درجة تجعل منه لقاءً مصيرياً تتحدد به حياة سامر، ومن خلال هذه العلاقة الثنائية بينه وبين كلوديا، يروي لنا حياته الماضية في العراق أو في ليبيا حيث عمل مدرساً للغة الانكليزية هناك، سوف نعرف ايضاً انه خاض سنوات الحرب العراقية الإيرانية وخرج منها محطماً ويائساً، وبناء على مقترح من شيماء شقيقته يذهب للعمل في ليبيا لكي يوفر بعض النقود ويسافر الى أوربا عن طريق تونس، وحين يلتقي كلوديا، كأنه التقى بمصيره الضائع بين الأحراش وظلام ليل الحرب أو المجهول أو الآمال المحطمة والذكريات المتداعية، وتستند أحداث الماضي لديه، أو الأفعال الدراماتيكية التي تتوارد إلينا عبر التداعي الحر الذي يتدفق عادة، كلما التقى بكلوديا، والتداعي الحر يستلزم مرسلا يعلم كل شيء عن الماضي ومرسلا إليه يجهل أبجديات تلك الحياة الماضية، وليس مثل كلوديا الايطالية، الأوربية، التي تجهل كل شيء عن حياة سامر في العراق، وتعطينا كلوديا بدورها نظرة استشراقية محدودة الآمال، لكنها كافية لمعرفة كيف يفكر الغرب بنا وكيف نفكر نحن الشرقيين بهم، تقول كلوديا الايطالية الجنسية:

"أنت ماسوشي لا يرتاح لك بال إلا إذا وجدتك عالقاً عن لا أعذار والمواساة".. ص27 ويلخص هذا القول النظرة الشخصية لحبيبته كلوديا، لكنه ايضاً يوفر انطباعاً شبه عام لدى الأوربي في نظرته الكلية الى رجل الشرق، سليل ألف ليلة وليلة، والذي تربى على حكايات شهرزاد في تلك الليالي التي أذهلت الغرب وما زالت حتى اليوم.

ولعل قارئ (ترنيمة امرأة.. شفق البحر) يتساءل عن الغاية التي يذهب لأجل تحقيقها سامر الى أوربا ثم يعود الى بغداد عبر ليبيا وتونس ثانية.. ماذا أراد المؤلف أن يقول لنا عبر صفحات روايته؟ فقد عرضت عليه كلوديا البقاء في ايطاليا لكي يعيش ويكتب روايته التي كانت أبرز مشاريعه الحياتية، أو يكمل دراسته الجامعية للحصول على الدكتوراه، وكل هذا يتم بمساعدة والدها الثري الذي يستطيع أن يفعل له المزيد من أجل البقاء مع كلوديا إذا وافق سامر على طلبها في البقاء، لكنه في نهاية الرواية يقرر العودة إلى بغداد ويغادر أوربا بعد أن كافح طويلاً من اجل الوصول الى بلاد الغرب خصوصاً ونحن نعلم انه دخل ايطاليا بجواز سفر مزور.. ولعل الشيء الوحيد الذي بقي له في هذا العالم الدامي والحياة الصاخبة، هو أن يكتب روايته لكي يتخلص من ثقل الذاكرة وضغطها عليه، ولكن هل تستطيع الرواية أن تمحو أو تغطي على صفحات من الماضي؟ فقد اصيب سامر بست وثلاثين شظية في الحرب، كما فقد حبيبته في بغداد (حنان) بعد اصابتها بالمرض الخبيث نتيجة اليورانيوم المنضب في مدينة البصرة، اذ اكملت حنان دراستها الجامعية هناك، كما انه غادر طفولته وافترق عن أحبابه، ولعل صديقه خالد من أبرز الأسماء الحية التي بقيت تضغط على جدران الذاكرة ونهايته المأساوية.. ان شخصية سامر وهي رديف لشخصية المؤلف، تحمل على كاهلها الكثير من الهموم، العذاب والذكريات الدامية، لذا، لا يجد حلاً للخلاص من ماضيه إلا بتفريغ ذاكرته مما تكدس فيها من ذكريات وأحداث. وعن ذلك العذاب يتساءل: "هل ستخرجني منه روايتي هذه؟ شدو اللغة المتمنعة هذه؟ وهذا السعي الموجع الحثيث من اجل الذاكرة/ ذاكرتي، وهي كائنة على الشفير".. ترى هل يمكن للرواية أن تقدم لنا حلولاً ناجعة؟ ماذا يحدث حين نكتب رواية؟ وأي نوع من الروايات نريد كتابته؟ وهل يبلغ الاعتقاد بإمكانية الرواية على تقديم الحلول إلى درجة اليقين القاطع بحيث لم يعد أمامنا من بدٍ إلا كتابتها، وهل ينبغي أن نضمنها كل ما نعانيه وكل ما نفكر به؟ أي نبوح بكل عذاباتنا دون تردد؟ إذاً أي شكل روائي يمكن ان يتجاوب ويتناغم مع سيل الذكريات المحطمة على حد تعبير لويس اراغون؟ هل الرواية التقليدية التي تعتمد معظم قوانين الملحمة الارسطية وقواعدها أم الرواية الحديثة؟ وما هي أبرز صفات الحداثة في الرواية التي نريد ان نكتبها ونكون راضين عن تقديمها للآخرين لكي يتعرفوا على الحياة العسيرة التي عشناها دون عون من أحد؟

هل نأخذ بمقولة مارت روبير التي ترى "أن الرواية فن يدخل على كل الممكنات، وهي حرة ومنفلتة" أي أن الرواية ليست بالضرورة ان تعتمد أحداثاً كبيرة على غرار ما نقرؤه في كتب التاريخ، فالرواية عالمها هو عالم الأفعال والعواطف والعذابات التي قد تقود إلى حلول ناجعة، وقد يدخل اللعب أو مكر الرواية كما يسميه سعد محمد رحيم بقوله: "..حسنا، أليس العمل الروائي برمته في نهاية المطاف محض تلفيق طالما هو وليد المخيلة؟ والمخيلة أليست مهما اشتطت ابنة الواقع؟" ص153 وتدفعه المخيلة مع الذاكرة الى اختلاق شخصية مايكل مصوراً إياه الطيار الأمريكي الذي ضغط على زر الصاروخ حامل اليورانيوم المنضب وهو السبب بإصابة حنان بالورم الخبيث، وخدعة اختلاق شخصية مايكل تتطلب منه توفير عنصر آخر هو نيكول، التي يفترضها الروائي، أو السارد، أنها حبيبة مايكل، لهذا تأخذه اللعبة الروائية إلى افتراض أحداث قد جرت وحصلت يرويها مايكل المختلف من قبل المؤلف، حتى يصبح مايكل وما يسرده حقيقة ملموسة له مع انه يعلم أن مايكل هو محض افتراض سردي أو تخيلي أو مجرد اختلاق أراد المؤلف أن يلقي عليه تبعات ماضيه المعذب: "مايكل ونيكول شخصيتان في رواية، في رواية مفترضة لم تكتب بعد.. أو أنها تكتب في ذهني.. أو أنها تكتبني.. أو أن راوياً ما يخلقهما ويخلقني، في فضاء السرد" ص109.

ماذا يريد الزميل سعد محمد رحيم أن يقول لنا في هذا المقطع المهم من روايته؟..

انه بالطبع يقدم لنا وجهة نظره في الرواية، أي رواية، رؤيته أو مفهومه الخاص لمعنى هذا الجنس الذي بدأ يفك أسراره في المرحلة الأخيرة، بحيث لم تعد الرواية مجموعة أحداث لكي نطلق عليها رواية، إنما تقترب كثيراً من مفهوم التكوين في الفن التشكيلي واعتماد تقنية خاصة بالمؤلف لهو أمر في غاية الأهمية وهذا ما فعله سعد محمد رحيم في روايته هذه، حيث تجاوز الصيغ السابقة التي قرأناها في ما مضى من أعوام، اذ ما معنى أن نكتب روايتنا على غرار ما كتبه بلزاك أو نجيب محفوظ، ألا يعد هذا تجاوزاً لكل انجازات العصر وتطور المدينة، ثم أن التطور لا يشمل مرفقاً حياتياً دون آخر، بل هو يعم حياتنا كلها، ومن الطريف أن المؤلف يضع على لسان مايكل كل ما يريد منه إدانة العدوان أو الاحتلال أو ما تركه الجيش الأمريكي من مآسٍ وويلات على بلده، حيث يجعله يقول كلاماً أشبه بالطرفة أو النكتة التي تبكينا ولا تضحكنا قط: "..واعتذر منك لأنني أطلقت صواريخ وقنابل على بلدك وتسببت في قتل أناس من أبناء شعبك ومنهم ربما أقرباء لك" ص178، إنها الطرفة التي كنا بحاجة الى سماعها بعد أن أخذنا سعد محمد رحيم في سياحة ذات نكهة معرفية وإنسانية خاصة عبر صفحات روايته: (ترنيمة امرأة.. شفق البحر) نكهة ومذاق سيبقى راسخاً في نفوسنا زمناً طويلاً دون شك.

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
أدباء العراق يستنكرون اقتحام ناديهم الاجتماعي: على القوة المقتحمة تقديم الاعتذار
"جراح القلب معارض لحملة القمع".. من هو مسعود بزشكيان الفائز بانتخابات الرئاسة الإيرانية؟
بعد توقف 10 سنوات.. الجوية العراقية تعلن بدء تسيير رحلات بين بغداد وبكين
راصد جوي يبشر العراقيين بانخفاض في درجات الحرارة ويحذر من الكهرباء
ما علاقة "جماعة القربان"؟.. البصرة تسجل 70 حالة انتحار في 6 أشهر
ستارمر: عملنا عاجل، ونحن نبدأه اليوم!
السويد تتحرك بعد حكم بالإعدام على 3 من مواطنيها في العراق
السوداني: زيارة بارزاني لبغداد مهمة .. بارزاني: سعيد جدا بلقائك
بغداديون يحاربون الصيف بـ"مراوح الماء" ويطالبون الأمانة بانقاذهم
متفجرات تحت جامع النوري الكبير في الموصل تعلق أعمال إعادة إعماره
أميركا تعرض "صياغة جديدة" لمقترح وقف إطلاق النار في غزة
الزميل العزيز موسى مشكور (أبو نضال).. وداعاً
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة