الانتقال الى مكتبة الفيديو

 
ذكريات قديمة عن سنجار

من عمق جراحي لما المّ بقضاء سنجار من مآسي لا حصر لها عبر التاريخ، وآخرها ما تعرضت له على يد( داعش) ومن لف لفهم من اعراب ومرتزقة وأنجاس من مختلف بقاع الارض وقد تربوا في ازقة وساحات: رعاعاً، صياعاً، صعاليكا، لم يألفوا العمل والمدرسة والنظام بل العيش على قارعات الطرق متمرسين على الجريمة وانواع السلوك المنحرف فسهل على تنظيم داعش والقاعدة وكل فكر سلفي، ظلامي، تكفيري، تجنيدهم ثم تدريبهم وغسل ما تبقى من ادمغتهم، فاصبحوا لا يأبهون من ارتكاب الموبقات، والضرب بعنف، والقتل والذبح، فقد خلت قلوبهم من الرحمة والانسانية، يندفعون عندما يجندوهم الى العراق او سوريا ليقاتلوا بشراسة بل يفجرون انفسهم للالتحاق المبكر بالسماء والوصول الى حصتهم من حوريات الجنة، واذا صادفتهم حوريات الارض فانهم لا يقصرون في الاعتداء عليهم وهتك اعراضهم، واصابتهم بجراح عميقة لا يشفون منها ابداً.

هؤلاء الجحوش او الدعوش تركوا في صدري جرحا عميقا فسنجار( ܫܢܓܪ شنگار) التي انبثق اسمها من امارة قامت بعد سقوط الدولة الاشورية كما حصل في الرها والحضر وحدياب، تلك البلدة التي عرفتها وعشت فيها للفترة من 1977- 1978 مهندسا في الطرق والجسور، لذلك يطيب لي ان اروي ذكرياتي فيها بشيء من التفصيل اذ ربما اوفي بعض الدين في رقبتي نحو اهلها المعذبين:

في شهر اب من عام 1977 نسبني مدير طرق نينوى فاروق عبد القادر الى مشاريع سنجار فاخذني في اليوم التالي مساعده المهندس خالد ذنون الى مشروع ام الشبابيط- سنوني- بارا- ام الذيبان. وصلت الى قرية تابعة الى ناحية الشمال واسمها( خانصور) فتذكرت احد اقربائي الذي كان معلما فيها في اوائل الستينات، وعندما سألته عنها فقال لي صديق فيها اسمه( پير خلف) لم يكن بوسعي السؤال عنه لاننا عشنا في مخيم العمل خارج القرى نبيت فيه خمسة ايام وننزل الى اهلنا كل يوم خميس، ولكني التقيت بمعلمين من منطقتي منهم ناظم حنينا وعيدو من قرية بوزان. كنا نعمل على خط الطريق الجديد وفي احدى محطاته ورشة التصليح، ونسكن في الكمب( مجموعة خيام) وكرفان خاص بهيئة المشروع حيث كان المهندس المشرف عارف علاوي ولنا طباخ جيد من قرية( الشرفية) اسمه خوشابا رئيس عوديشو، هناك استرعى انتباهي امرين اولهم توزيع مناشير في خط العمل موقعة من قبل حزب البعث قيادة قطر العراق وكانت تهاجم سلطة البعث في العراق وتدعي القيام بعمليات عسكرية ضدها عبر الحدود، والامر الآخر صادف تسليم نفسه الى السلطات احد رجال الحزب الديمقراطي الكردستاني واسمه قاسم ششو ، ففي احد الايام جاء الى مخيمنا وجلس يتحدث معنا حول الطريق الذي تشقه آلياتنا، وربما كانت له بعض المطالب فلبيناها، وقد حظي باحترامنا ولم يغادر قبل تناول الطعام معنا، هذه الايام يشار له بالبنان كونه يقود مقاومة الأيزيديين ضد داعش ومن يساندها، اذن كان لي شرف التعرف عليه في تلك الفترة البعيدة زمنياً.

كان عمال المشروع من كل الاقوام والاديان من أيزيديين واكراد وعرب ومسيحيين وتركمان حيث لا زلت اتذكر مسؤول المشتريات عباس من اهالي تلعفر. عمل والدي في المشروع بصفة فورمن نجارين، وكان موجودا قبلنا المرحوم اسحق حنا سابيوس، حيث كان سائقا لقلاب نوع مارسيدس، في الفترة الاولى كان ينقلنا انا ووالدي من والى القوش في نهاية كل اسبوع، في احد الايام ونحن في الطريق فاجأنا قطيع أغنام يجتاز الشارع عرضاً، فلم يستطع العم اسحق السيطرة على السيارة فصدم عدداً منها، تناثرت اشلائها، ولم يتوقف ابدا بل مضى في طريقه. في المشروع كان لدينا معمل بولوني الصنع متنقل للتصليح الميكانيكي، باستمرار كان يتوقف بسبب سخونة مضخة حقن الوقود، والوقت شهر آب اللهاب حيث درجات الحرارة مرتفعة، فكان عارف علاوي يضحك على الصناعة الاشتراكية ويقول لي: بعض السواق يضطرون لوضع بطيخة فوق الفيت بمب المذكور حتى يبرد!!.

لم تكن تتوفر سيارة جدية لتنقلي فأجِرَت سيارة بيك اب تيوتا لصاحبها حسين عقراوي، كان حسين طيباً وكان لا يجيد العربية فكنت اتفاهم معه ببعض الكردية التي تعلمتها في سوق القوش، في احد الايام روى لي ما يلي: سيدا( بمعنى استاذ) كان هناك زوجين يغطون في نوم عميق داخل بيتهم، واذا بوقع اقدام على سطح الدار، فزّت المرأة من نومها فهزت زوجها قائلة " دنگي لسَر باني" اي هناك اصوات على السطح، فقال لها" ݘو نِنا، أن صيا، أن جتيا، أن شرطيا" اي ماكو شيء اما يكون كلبا او جحشا او شرطيا، وقد اعجبتني وطلبت منه مرارا تكرارها.

تسنى لي رؤية قرية بارا الايزيدية المهجرة فكانت مزارعها تبهرنا وكذلك عيون الماء في كل مكان تروي تلك السفوح من اشجار الفواكه المختلفة ويختص جبل سنجار بالتين المعروف في كل العراق، ولكثرة كمياته في موسمه كان يجفف ويغرز في خيوط متينة ويصبح كما القلائد التي تعلق في الرقبة من الاحجار او المعادن النفيسة، عندما اتواجد في القوش اصف لهم بارا الجميلة فيقول اهلي بان مضمدا القوشياً اسمه شابا گولا عمل فيها فترة الخمسينات واشتهر في عمله بمعالجة الفلاحين المرضى، واكتسب خبرة جيدة اهلته ان يطلق اهالي القوش عليه اسم شابا دكتور.

بعد حوالي خمسة اشهر نقلت الى الجهة الثانية من جبل سنار حيث تسنى لي رؤية قضاء تلعفر لاول مرة، ثم سنجار البلدة التاريخية القديمة والجميلة بجبلها وسهلها الواسع الذي كان في ربيع 1978 يعج بالأيزيديات بملابسهن الفضفاضة الزاهية وهم يعملون في الحقول الزراعية وفي تلك الفترة رأيتهم يجمعون الكعوب( ܠܓܢܐ لگني) للاستهلاك المحلي وما يفيض منه كان يشحن الى الاسواق.

سنجار متعددة الاعراق والغلبة للأيزيدية وفيها مزاراتهم ومقامات شيوخهم وابرزها مرقد شرف الدين، اضافة الى ثلاثة مساجد وكنيستين، شاهدت فيها عيون الماء الحار شتاء الى درجة يتصاعد منه البخار واثار ذلك اعجابي، وكذلك رافقت المهندس بهزاد رمضان عبد الكريم الى قمة الجبل حيث كان يجري فتح طريق من سنجار الى سنوني، كان الهدف واضحا لاغراض عسكرية، لكن الجبل كان يضم العديد من القرى( والتي رحلتها السلطة في فترة سابقة اثر مقتل قائمقام سنجار عام 1972)  ومع ذلك بقيت تجمعات للرعاة شاهدتها بام عيني، حتى صورت احد الرعاة وقد حمل نعجة صغيرة فوق رقبته( للاسف لم اتمكن من الحفاظ على تلك الصورة).

الغزال ولد الظبية الرشيق الجميل يكثر في براري الجزيرة شبهت الجميلات به فاطلقوا اسمه على العديد منهن، ومن التين صنعوا تماثيل الغزال ليس لبيعه بل لاهدائه الى كبار ضيوفهم، كما دخل اسم الغزال في اغانيهم الجميلة حيث نمط الغناء الشنگاري متميز، اتذكر مهاجراً من سنجار في القوش عام 1963 اسمه فقير، يرتدي الخرقة السوداء، ويطلق لحيته وشاربيه، كان يسكن مع عائلته في بناية( المسلخ) جنوب القوش ولا تفارقه آلة البُزُق( الطنبور) وقد تفنن في ربط خيوط بيديه التي يمررها على الالة ومن الجهة الاخرى تحت طاولة خشبية ترتبط بدمية غزالة( تحببا سمّاها غزالوك) صنعت من الاقمشة وجرى حشوها فيعزف ويحرك الخيوط لترقص الغزالة على انغامه، وعندما يسحب خيطا معينا ترخي الغزال قوائمها فتجلس ليتوقف ويقول الغزالة تطلب( شاباش) فتنهال الهبات النقدية عليه، فيعاود العزف والغناء بصوت مبحوح، فتنهض الغزالة لترقص ثانية على انغام اشجى واعذب.

بترحيل القرى فقدت سنجار ظهيرها القوي وكذلك عمادها الاقتصادي من الفواكه وانواع التبوغ حيث تتخلل ذلك الجبل الاشم كهاريز الماء والعيون والينابيع كل تلك المعالم عبثت بها السلطة الدكتاتورية، لا ادري ان كان السكان في العقود الاخيرة قد تمكنوا من اعمار قراهم والسكن فيها لانني شاهدت مجمعات قسرية ضخمة للايزيدية في سهل سنجار واسمائها لا تزال ترن في ذاكرتي القحطانية والعدنانية والجزيرة وتل البنات وتل القصب، يتوسطها معسكر ضخم لجيش السلطة.

اصبحت اعمل في مشروع سنجار- ام جريص والاخيرة قرية عربية صغيرة تبعد بضعة مئات من الامتار عن الحدود السورية وحوالي 50 كيلومتر عن سنجار التي يبعد مركزها حوالي 130 كيلومتر شمال غرب الموصل، كان زميلي المهندس مؤيد زبير مشرفاً على المشروع، ورئيس العمال أيزيدياً اسمه اسماعيل من سكنة المجمعات، جلب انتباهي قامة الايزيديين الطويلة، هيئتهم، وهندامهم الذي يستوقفك طويلاً وكأنك امام انسان قديم من بلاد ما بين النهرين، اتذكر مرة زار احدهم القوش برفقة ميخا جلبي تولا فاصطحبه الى الكنيسة، فرأيته كث الشاربين مسترسل الشعر على شكل ضفائر طويلة، وبعد استقراري في سنجار احتجنا الى عامل يساعد طباخنا شليمون من قرية( باختمي) فجاء شليمون يوما ومعه نفس الرجل الذي رأيته في الكنيسة فقلت: ما اسم هذا الرجل الأيزيدي؟ فقال: اسمه ابراهيم حنا فرجعت الى الخلف، ماذا تقول يا شليمون، فقال، يا استاذ هناك عوائل مسيحية لا تختلف عن الايزيدية فهم لا يجيدون من لغة سوى الكردية، تعرفت على اسرته التي كانت تسكن سنجار، وفيما بعد في فترة الانصار التقيت بابنته ليلى وقد تزوجت شاب من اهالي دهوك اسمه نبيل التقيت بهم في قرية( كاني بلاف) على قمة جبل متينا عام 1983.

في كمب المشروع قرب سنجار فاجأني احد الحراس كبار السن بقوله: دير بالك علينا استاذ فانت خال الاولاد، لم افهم قصده، وعندما رويت ذلك في القوش، قالوا: انه من تركمان تلعفر المتخذ من ارمنية زوجة له، وعلمت ايضا بان المئات مثله كانوا متزوجين من ارمنيات وقعن اسيرات او انقطعت بهن السبل في سني الحرب العالمية الاولى.

سائق المهندس مؤيد زبير واسمه شيت(على اسم النبي شيت المشيد له مسجدا كبيرا فجره داعش بعد غزوه الصحراوي لموصل الحضارة في الصيف الماضي) نقلني فجر احد الايام من الموصل الى سنجار، وبعد قرابة ساعتين خرجت سيارته من الطريق وعبرت الرصيف( الكتف) وانا بجانبه ارقب الوضع بقلق مرددا" الله يستر" وانتقلت السيارة الى الاراضي التي تتخللها صخور بمختلف الاحجام، واصبحت على وشك الانقلاب او الاصطدام باحدى تلك الصخور، عندها فقط انتبه شيت وركز لما يجري وبسرعة ضغط على دعاسة الفرامل فتباطئت السيارة حتى توقفت، فيما ثارت عاصفة قوية من التراب حولنا، نزلنا من السيارة وكل واحد جلس صامتا لبرهة، ثم بادرته بالقول" خير شيت ماذا حصل؟" ، فقال" يا استاذ كنت نائما"، وقد نجونا من حادث عرضي لم يكن في البال.

بحوزتي كتاب اسماعيل جول بك الذي يروي عن معالم سنجار وجبلها وقراها ونمط حياتها في بداية القرن العشرين ويروي كذلك جولاته في مستوطنات قومه في سوريا وحتى حلب ثم تركيا وحتى روسيا والجمهوريات الآسيوية، وتناول الكثير من الباحثين مآسيهم وما عانوه من  اضطهادات تعرضوا لها وحملات ابادة( فرمانات) ولكنهم تشبثوا بدينهم القديم وبأرضهم.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 26-01-2015     عدد القراء :  5955       عدد التعليقات : 0