لم تكن ثلاثية الدين والثقافة والسياسة في العراق تنفك عن تداخلاتها واشتباكاتها في المعنى الذي تطرحه حول الدولة والمجتمع والهوية والثقافة، لكن تبقى السياسة في العراق هي مدخل الدين والثقافة في موقعها من تلك الثلاثية، وبالقدر الذي تبدو فيه السياسة متغيرا مستمرا يقبض عليها التاريخ البشري وتحركها المصالح، فأن منظومتي الدين والثقافة قد أخضعتا بقوة الى هذا المتغير، فأنتج دينا مسيسا وثقافة مسيسة، وإذا كان الدين والثقافة هما قوام المعنى أو مصدر الأفكار في هذا المعنى الذي يتحول عبر السياسة الى ايديولوجيات منغلقة، وعلى وقع حركات الانفعال والسجال في السياسة حين تتعرى عن جوهرها حكما افتراضيا في تعبيرها عن المصالح أو الصالح العام الاقتصادي والاجتماعي، فان انفعالاتها وسجالاتها المتكررة في العراق تدع الثقافة والدين يتعرضان باستمرار الى هزات عنيفة، وإذا كانت الثقافة في العراق تعلن عن وسائل مبكرة في مواجهة أزمات السياسة حين تنسحب من مواقع التداخل والاشتباك أو تنسحب من معارك الساسة عبر انزوائها وانكفائها وتجد في صيغ عزلة المثقف ملجأ آمنا ومريحا لها أو تعود الى مرجعية اغتراب المثقف في تفسيرها لموقفها لانزوائها لانكفائها، فان الدين يبقى يعاني من آثار السياسة وتنسحب أضرارها وأخطارها عليه، وهي تعكس هشاشة الانمساك به أو التمسك به في السياسة، لذلك تجد السياسة تشكل بؤرة توتر دائمة في فهم الدين في العراق، مثلما تشكل السياسة توترا وتكلسا أو مستوى متكلسا في الثقافة ودورها وفاعليتها فيتراجع لدينا الابتكار الثقافي – الفكري مثلما يتراجع فينا الحس الديني في ظل أزمات السياسة انه توتر وتكلس صنعته السياسة في العراق دون أن تجني لصالحها شيئا بل أفرغت أبعادها الفكرية وحمولاتها الايديولوجية عن مضامين وضمانات المصالح وصالح العام الذي يوفر غطاء مشروعا ومقبولا في جماهيرها في العراق ولعل ما يبدو من اعتراض على تكلس ثقافتنا هو ما تفاخر به الثقافة العراقية في مجالات الفن والأدب والريادة العراقية المتميزة لها في نطاقات هذا الفن السمعي والبصري وهي تعبيرات في الثقافة كانت تتمدد بعد أن سمحت لها السياسة او شجعتها على حساب مرتكزات ثقافية – معرفية أخرى تشكل عمقا واعيا وحضاريا في كل ثقافة تمتهن الوعي وتشتغل في تطويره وتمريره في نطاقات الحياة العامة وبذلك تتحول الحياة العامة الى منهجه في الوعي أو الى وعي بالحياة بعد أن يحدد مائزه عن السياسة ويضفي المعاني المتعددة او يكتشفها حسب الرؤية الحضارية التي تختزنها كل ثقافة هذه الحضارة ويقترح المفاهيم كاستجابة لواقع متحول ثم يجترح المصطلحات وتلك هي الحضارة في المعنى المضفى او المكتشف وفي المفهوم المقترح والمصطلح المجترح والمائز بين الحديثة منها هو اضفاؤها المعنى الانساني والقديمة هو اكتشاف المعنى الالهي .
ان اضفاء المعنى او اكتشافه وبلورة المفهوم وتدشين المصطلح في التداول هو اهم ما يميز الوعي الحضاري واذا كانت الفلسفة وعلم الكلام والعلوم العقلية حسب تعارف القدماء على تسميتها في الحضارات القديمة هي التي تنتج المعنى وتعده اكتشافا بالفهم الالهي لها فان العلوم الانسانية والاجتماعية الحديثة هي بوابة الحضارة الحديثة في دراسة المعنى وتحليله وفتح آفاق اوسع يتزود بها الانسان الحديث في انتاج المعنى او بالاحرى صناعته ثم اذا كانت الثقافة في الحضارة القديمة هي بحث في الحقيقة فان الثقافة في الحضارة الحديثة هي بحث في المعنى لازمة الفكر الحديث وتعبيراته الاولية في البحث والمعرفة .
ان صياغات المعنى وصياغات المفاهيم هي اهم ما يؤسس لحداثتنا ومن ثم لحضارتنا او مدخلنا اليها وشرط "الجدة " فيهما لازم وهو تعبير آخر عن عدم اكتفائنا بالمعنى والمفهوم الحداثوي الاوربي وتعبير ايضا عن ضرورات تجاوز ثقافتنا القديمة في قسر المعنى على ارادتها وتفسيرها القبلي له ويشمل ذلك المعنى في الدولة والمجتمع والهوية والثقافة بل حتى المعنى في الحياة الذي نشهد له تشوها كبيرا في افكار الارهاب والرعب الذي تحاصر به الحياة ثم تجسير منظومة من الافكار حول موقعنا في العالم والثقافة والدين والسياسة والمجتمع الدولي واعتقد انها مهمة المثقف العراقي الذي تعيد بدورها صياغة هويته الثقافية والوطنية .