الانتقال الى مكتبة الفيديو
 
«أغاني ما قبل الفجر» لسوينبرن: إن لم تحرّر نفسك فلن يحرّرك أحد
الأربعاء 24-10-2012
 
ابراهيم العريس

«إن أحكام سوينبرن على وجه العموم، صائبة، وذوقه يمتاز بالحساسية والقدرة على التمييز، ونحن لا نستطيع أن نصف تفكيره بأنه مخطئ أو ملتوٍ إلى الحد الذي يظل تفكيره معه تفكيراً. غير أن سوينبرن يتوقف عن التفكير في عين اللحظة التي نكون فيها أشد ما نكون حماسة إلى التفكير. وهذا التوقف، على رغم أنه لا يفسد عمله، يجعل من هذا العمل مدخلاً، أكثر منه متناً...». هذا الحكم الذي أصدره الناقد والشاعر تي. إس. إليوت على سلفه الشاعر والناقد الإنكليزي آلغرنون تشارلز سوينبرن، كان إليوت يقصد منه الحديث عن نقد هذا الشاعر لا عن شعره. ذلك أن هذا الشعر لم يكن، مبدئياً، من النوع الذي يمكن الحديث عنه من منطلق العقل والتفكير، إذ إن شعر سوينبرن، في شكل عام، انتمى إلى الشعر السابق على السوريالية، من خلال تأثره المعمق بويليام بليك وبودلير، ثم صداقته الطويلة مع روزيتي. ومع هذا يمكن هنا التوقف عند عمل شعري معيّن لسوينبرن، لإخراجه ممّا - قبل السوريالية، وضمّه إلى حيز الفكر العقلاني. وهذا العمل هو مجموعته «أغاني ما قبل الفجر»، التي وضع قصائدها انطلاقاً من اندفاعته الحماسية إلى جانب المسألة الإيطالية، على غرار حال بايرون في موقفه المناصر، عملياً وفكرياً للثورة اليونانية، وكذلك على غرار شيلي في بعض لحظاته الثورية. طبعاً، لا تنفي هذه «العقلانية» عن شعر سوينبرن، «أغاني ما قبل الفجر» وجود نزعة رومانطيقية ماثلة وحقيقية، لكنها رومانطيقية نضالية وُظفت هنا من أجل قضية. وبالتالي بات في الإمكان مدّ حكم إليوت النقدي ليشملها، من دون أن يشمل جملة أعمال أخرى لسوينبرن كتبت قبل تلك «الأغاني» وبعدها. والحقيقة أن إليوت لم يكن الوحيد الذي «حاسب» تلك المجموعة، عقلانياً، على اعتبارها مواقف فكرية وسياسية تستدعي التفكير، ثم ما إن يصل هذا التفكير إلى ذروة حماسته، حتى يعود الشاعر إلى عواطفه وشاعريته الخاصة، تحديداً وفي استعارة من إليوت - «في اللحظة التي نكون أشد ما نكون حماسة إلى التفكير». فما هي هذه المجموعة؟ لماذا وضعها سوينبرن؟ وما سبب خروجها عن مألوفه الشعري؟

> إن المناخ الطاغي على قصائد هذا العمل هو مناخ البحث، والسعي إلى فجر الحرية في اندفاعة عاطفية «جمهورية» حادة، عاشها سوينبرن في زمن كان فيه شديد الاستلهام من نهضة الشعوب الباحثة عن استقلالها. وكان الشعب الإيطالي، في نظره، في مقدم هذه الشعوب. من هنا، نراه يستلهم نضال هذا الشعب، ولكن في تعميم لدائرة النضال يشمل غيره من الشعوب. أما سبب وجود الشعب الإيطالي وقضيته في صلب ذلك النضال، ففي خلفيته لقاء عقد بين سوينبرن وماتزيني، قائد الثورة الإيطالية ومنظّرها الأكبر، وكان لقاء عقد خلال شهر آذار (مارس) 1967 بترتيب من كارل بلايند، الذي كان من غلاة الإنكليز المؤيدين للثورة الجمهورية الإيطالية، والساعين حتى إلى انتفاضة جمهورية في إنكلترا. وسوينبرن كان، على أي حال، قريباً من تلك الأفكار منذ دراسته الجامعية، حيث انضم إلى رفاق كانت النزعة الجمهورية والاشتراكية الخيالية، رائدهم. ومن هنا، اهتمام ماتزيني به، إذ وجه إليه قبل اللقاء رسالة يقول فيها: «في الوقت الذي تخاض معركة طاحنة بين العدل والظلم، بين الحقيقة والكذب، بين الحرية والطغيان، بين الله والشيطان، من أجل تحقيق تصور جديد للحياة (...) يتعين على الشاعر أن يكون رسول اندفاعة مناضلة تجعل من كلامه برنامج عمل للأمم المضطهدة المناضلة، وجنّازاً ختامياً للقامعين المضطهدين». ولم يكن سوينبرن في حاجة إلى أكثر من هذا الدفع الحماسي من نجم من بين نجوم النضال التقدمي الإيطالي في ذلك الحين، حتى يخوض المعركة، بشعره وعواطفه كلها. والحال أن سوينبرن كان سبق له أن كتب على الأقل، قصيدتين تمجدان ذلك النضال: «نشيد إلى ثورة كانديا» و «أغنية إيطاليا». هكذا، راح مندفعاً يكتب الشعر السياسي الحماسي. فولدت أشعار مجموعة «أغاني ما قبل الفجر» المستوحاة كما أشرنا، من الأحداث الإيطالية. وكان من أجملها، في ذلك الحين «مباركة أنت بين النساء» و «وقفة أمام روما» التي وصف فيها بلغة بسيطة توقف جيوش غاريبالدي أمام العاصمة الإيطالية استعداداً لاحتلالها. ولئن لم تغلب الصور الإيطالية عن أشعار أخرى في المجموعة، فإن هذه الصور وجدت نفسها ملتحمة في نزوع إلى تجديد ثوري أوروبي شامل... كما في قصيدة «سيينا». بينما انتفضت قصائد أخرى ضد الظلم في أشكاله كافة سواء كان ظلماً سياسياً أو اجتماعياً أو غير ذلك. وفي مثل هذه القصائد أسند الشاعر إلى الانسان، لا إلى أي قوى ميتافيزيقية أو سلطوية، مهمة انتزاع أغلاله... فالإنسان إن لم يحرر نفسه فلن يجد ثمة من يحرره... كما يتجلى هذا خصوصاً في قصيدتي «هيرتا» وفي «أنشودة إلى الإنسان» حيث لم يكن الكلام أقل من إعلان ثقة مطلقة بالإنسان الثائر وبالآفاق المستقبلية التي يفتحها هذا الإنسان لنفسه بـ «نضاله الحقيقي من أجل حياته وسعادته ومكانته في الكون، «لا» من أجل أفكار مجردة تصب في مصلحة القوى التي قد لا تكون اليوم في السلطة، لكنها ستصبح فيها غداً، بفضل نضال الإنسان الثائر، ثم تنقلب عليه تبعاً لمصالحها. إن سوينبرن ينطلق في أشعار هذه المجموعة كلها، إذاً، من الحرية السياسية ليصل إلى الحرية القصوى، حرية الإنسان، بالمعنى الأشمل للكلمة. طبعاً لا يخفي سوينبرن هنا، لا سيما في ثنايا القصائد الإيطالية الخالصة إيمانه بالحرية السياسية، غير أن في رأيه لا يمكن أن تكون غاية في حد ذاتها. فهي، إن كانت غاية، ستكون قد قادت الثوار الحقيقيين إلى الوقوع في فخ قوى سياسية معارضة لا أكثر. الحرية السياسية كما في أشعار سوينبرن، يجب أن تكون وسيلة للوصول إلى ما هو أصدق منها وأشمل، وأكثر ارتباطاً بالتوق الحقيقي للإنسان: حريته الداخلية وحريته الدائمة التي تمكنه في كل لحظة من أن يقول لا... حتى للقوى التي يساندها اليوم، إذ تقدم نفسها كقوى تحرر وثورة، لكنها في حقيقتها ليست أكثر من قوى تسعى إلى السلطة، مستخدمة الإنسان وقوداً لمسارها السياسي لا أكثر.

> واضح من هذا كله أن سوينبرن إنما يدعو هنا إلى الثورة من الداخل، وإلى الحرية كفعل تنوير دائم، هو الذي طالما راقب الحركات الثورية وهي تأكل، أول ما تأكل، أبناءها، وتضحي أول ما تضحي بأولئك البشر الذين كانوا هم، لا القادة السياسيون، صانعي الانتصار والتحرر. وهذا كله يضع شعر سوينبرن في صف الإنسان، جاعلاً من «ثورته الشعرية» فعل إيمان ينطلق من السياسة، ولكن كي يناهضها مطالباً إياها بأن تتحول إلى فعل حرية، لا إلى فعل تسلط. غير أن هذا كله بدا، في تلك الأشعار، مخبوءاً في ثنايا حماسة لا حدود لها للثورة الجمهورية الإيطالية التي اعتبرها الشاعر نموذجاً لثورة الإنسان، كل إنسان. وكأنه، في اندفاعته الشعرية، يحذرها من أن تكون - في نهاية الأمر - شيئاً آخر غير ذلك. ويقيناً أن سوينبرن يبدو في هذا التحذير، أخاً لكل أولئك المثقفين الذين آمنوا بالثورات المتعاقبة وساندوها، ثم خاب أملهم ما إن تحولت تلك الثورات إلى دول، أو سلطات فانكشفت حقيقتها، ما دفع الحالمين إلى الاعتكاف أو مواصلة الثورة أو الانتحار.

> سوينبرن (1837 - 1909) على أي حال لم يكن ذلك المصير مصيره. فهو، بعد كل شيء، لم يكن مثقفاً ثورياً محترفاً، ولا كان ثائراً دائماً يستخدم الكلمة سلاحاً. كان شاعراً بكل معنى الكلمة، عاش، خلال حقبة عابرة من حياته، تلك الاندفاعة السياسية القصيرة، ما جعل «أغاني ما قبل الفجر» «حدثاً» عارضاً في حياته الإبداعية، أما في ما عدا ذلك فإن أعماله تبدو ثورية في اللغة والصور، ذاتية في معانيها، أبعد ما تكون عن السياسة، وعن مساندة الحركات السياسية سواء كانت ثورية أو غير ثورية، داعية إلى الحرية، أو مستقلة تلك الحرية لمآرب أخرى.

alariss@alhayat.com

 
   
 



اقـــرأ ايضـــاً
أدباء العراق يستنكرون اقتحام ناديهم الاجتماعي: على القوة المقتحمة تقديم الاعتذار
"جراح القلب معارض لحملة القمع".. من هو مسعود بزشكيان الفائز بانتخابات الرئاسة الإيرانية؟
بعد توقف 10 سنوات.. الجوية العراقية تعلن بدء تسيير رحلات بين بغداد وبكين
راصد جوي يبشر العراقيين بانخفاض في درجات الحرارة ويحذر من الكهرباء
ما علاقة "جماعة القربان"؟.. البصرة تسجل 70 حالة انتحار في 6 أشهر
ستارمر: عملنا عاجل، ونحن نبدأه اليوم!
السويد تتحرك بعد حكم بالإعدام على 3 من مواطنيها في العراق
السوداني: زيارة بارزاني لبغداد مهمة .. بارزاني: سعيد جدا بلقائك
بغداديون يحاربون الصيف بـ"مراوح الماء" ويطالبون الأمانة بانقاذهم
متفجرات تحت جامع النوري الكبير في الموصل تعلق أعمال إعادة إعماره
أميركا تعرض "صياغة جديدة" لمقترح وقف إطلاق النار في غزة
الزميل العزيز موسى مشكور (أبو نضال).. وداعاً
 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





للمزيد من اﻵراء الحرة